«تعتبر سورية وايران اهدافا ملحة في عملية محاربة الارهاب ويفترض ان تعاقب اسرائيل سورية في لبنان ولكن يجب ان تعاقب اسرائيل سورية في المستقبل في سورية نفسها اذا لم ينفع الاسلوب الاول» من استراتيجية فرصة نظيفة لريتشارد بيرل قدمت العام 1996 لنتانياهو.
أعلنت الواشنطن بوست مؤخرا ان الكشف عن ما سمي عصبة اليمين الجديد والمحافظين الجدد، يشكل فرصة لفهم ما الذي يجري في العالم، حيث تستحق ملاحظات جيفري شتاينبرغ وسرده لعملية الانتقال لدى المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية من نظريتهم بشأن فرصة نظيفة لحكم العالم الى تلك الفرصة غير النظيفة الممثلة بالقرن الأميركي الجديد عبر القوة المسلحة اهتماماً أكثر منّا نحن العرب كي نفهم كيف تعمل السياسة في الولايات المتحدة، مع التنويه سلفاً إلى أن المسألة لم تُحسم كلياً لأن هنالك تيارات ترى ضرورة إدارة العالم بدلاً من حكمه:
في عهد رئاسة كلينتون التي دامت ثماني سنوات كانت تلك المجموعة من أتباع الفيلسوف ليو شتراوس في معظمها خارج السلطة، لكنها لم تخلد إلى النوم.
ففي أعقاب توقيع اتفاق اوسلو في البيت الأبيض في أيلول عام 1993 أطلق أتباع شتراوس والمحافظون الجدد حملة كبرى وشاملة لوأد صفقة «الأرض مقابل السلام»، وكان عدد لا بأس به من الأتباع القياديين لشتراوس وآلان بلوم قد هاجروا إلى إسرائيل وأخذوا يشكلون نواة لجهاز داخل إسرائيل يكرس جهوده لإسقاط عملية السلام.
ففي عام 1994 أسس هيلل فرادكين ويورام هازوني مركاً باسم مركز شاليم وذلك بتمويل من اثنين من مليارديري أميركا لهما روابط وثيقة مع «جماعة ميغا» الصهيونية اليمينية القوية والغير معروفة على نطاق واسع، هما رونالد لاودر وروجر هيرتوغ. وهيرتوغ هذا يملك جزءا من صحيفة نيويورك سان NEW YORK SUN إلى جانب لورد كونراد بلاك ومايكل شتاينهارد، كما يملك حصة الثلث إلى جانب مارتين بيريتز وشتاينهارد في مجلة نيوربيبيلك NEW REPUBLIC (رئس تحرير نيوربيبيلك لورنس كابلان مثلاً، انضم إلى رئيس تحرير ويكيلي ستاندرد ويليام كريستول وألفا كتاباً يروّج للحرب على العراق) التي تعد منذ فترة طويلة قلعة الدعاية السياسية للمحافظين الجدد وأتباعهم.
كان فرادكن طالباً من طلاب (ألان بلوم) ثم عمل مدرساً في لجنة الفكر الاجتماعي بجامعة شيكاغو. وفي وقت لاحق ساهم في تأسيس مكتب لمركز شاليم في واشنطن حين كان في الوقت ذاته مديراً لمركز الأخلاق والسياسات العامة (حيث حل محل إيليوت إبرامز في هذا المنصب عندما نقل إبرامز إلى مجلس الأمن القومي التابع للرئيس الثالث والأربعين مؤخراً) بالإضافة إلى كونه استاذاً لمادة الشرق الأوسط في معهد انتربرايز الأمريكي AMERICAN ENTERPRISE. أما هازوني فقد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة رتجرز وبإشراف ويلسون كاري ماك ويليامز وهو من تلامذة الفيلسوف ليو شتراوس، الذي يشكل مرجعية المحافظين الجدد، ثم انتقل الى إسرائيل، حيث كان يكتب الخطب لزعيم حزب الليكود بنيامين نتانياهو. وهازوني هذا من أشد المؤيدين للحاخام ميئير كاهانا العنصري مؤسس عصبة الدفاع اليهودية الإرهابية وحركة كاخ.
وبالإضافة الى مركز شاليم و«مؤسسة الديموقراطية الدستورية» التي أطلقها بول ايدلبرغ الزعيم البارز من أتباع شتراوس - وهو الذي يطالب بالضم الدائم لمناطق «يهودا» و«السامرة» وغزة الى دولة إسرائيل، كانت هناك جماعة ثالثة من «خزان الفكر» الإسرائيلي تلعب دوراً محورياً في الترويج لأجندا شتراوس والمحافظين الجدد خلال عهد الرئيس كلينتون.
فقد أحدث «معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة» في عام 1984 وله مكاتب في القدس وواشنطن. وكان هذا المعهد مركزاً أماميا متقدماً «لمدرسة شيكاغو» للنظام البريطاني لاقتصاديات التجارة الحرة ويروّج لفكر آدم سميث وفريدريش فون هايك وملتون فريدمان.
وبعد اثني عشر عاماً أسس هذا المعهد قسماً جديداً يعنى بالبحوث في الاستراتيجيات. وبحسب ما يصف نفسه فإن هذا المعهد هو مركز للنفوذ الشتراوسي في إسرائيل وفي إعلان عن برنامج زمالة استراتيجية في واشنطن لهذا المعهد ظهر على موقع المعهد على الإنترنت يوجه تحذيراً لمن يتقدمون بطلبات الالتحاق بالبرنامج بأن لا يقدموا طلباتهم، إن لم يكونوا من أتباع ليو شتراوس.
في عام 1996 وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين قام قسم البحوث في الاستراتيجيات الحديث العهد والتابع لمعهد الدراسات السياسية والاستراتيجية بتكليف عدد من الباحثين لإجراء سلسلة من الدراسات حول كيفية إبطال اتفاقات أوسلو بهدف تقديمها الى رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد بنيامين نتانياهو.
كانت أهم دراسة في هذه السلسلة تحمل العنوان «فرصة نظيفة: استراتيجية جديدة لحفظ أمن المملكة»، وقد أعدها فريق من المحافظين الجدد في أمريكا برئاسة ريتشارد بيرل ومن أعضاء هذا الفريق: جيمس كولبرت من المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي وتشارلز فيربانكس من معهد الدراسات الدولية المتقدمة التابع لجامعة جون هوبكنز وهو من أتباع شتراوس وصديق حميم لبول وولفويتز منذ عقد الستينيات ودوغلاس فيث الذي يشغل الآن منصب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات وروبرت لوينبرغ رئيس معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة وجوناثان ثورب من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى وهو خزان الفكر المنبثق عن اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤن العامة (إباك) التي تعتبر اللوبي الإسرائيلي الرسمي في أمريكا، ودافيد وورمزر الذي كان آنذاك مدير مشروع الشرق الأوسط التابع لمعهد أمريكان انتربايز والآن المساعد الخاص لكبير مفاوضي مراقبة التسلح في وزارة الخارجية جون بولتون، وهو نفسه كان سابقاً نائب رئيس معهد أمريكان انتربرايز وميراف وورمزر الذي عمل سابقاً في مشروع البحوث والإعلام الشرق الأوسطية التابع للعقيد إيغال كارمون ضابط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عند شارون، وهو الآن مدير برامج الشرق الأوسط في معهد هدسون.
قام بيرل شخصياً بتسليم هذه الوثيقة المؤلفة من ست صفحات بعنوان «فرصة نظيفة» إلى نتانياهو بتاريخ 8/7/1996 - أي قبل يومين من انعقاد جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس التي تحدث فيها نتانياهو. وقد تضمن خطاب نتانياهو في معظمه مقتطفات جرى انتقاؤها مسبقاً من وثيقة «الفرصة النظيفة». وقد نادت هذه الوثيقة بالرفض الكامل لاتفاقات أوسلو ولمبدأ «الأرض مقابل السلام» وإلى قمع وحشي وإعادة احتلال لمناطق السلطة الفلسطينية تقوم بها قوات الدفاع الإسرائيلية، وتتخذ مسوغاً لها «حق ملاحقة» الإرهابيين وتفضي بالتالي إلى ضم الضفة الغربية وقطاع غزة ضماً دائماً ونهائياً إلى اسرائيل وإلى حرب ضد العراق تطيح بنظام صدام حسين في بغداد وبنظام البعث في دمشق.
يذكر بيرل ورفاقه في الوثيقة: «تستطيع إسرائيل أن تشكل بنيتها الاستراتيجية من خلال اضعاف واحتواء سوريا وردعها. ويمكن أن تتركز هذه الجهود على إبعاد صدام حسين عن السلطة في العراق، وهذا بحد ذاته هدف استراتيجي هام لإسرائيل، ووسيلة لإحباط طموحات سوريا الإقليمية».
ويقول: «تعتبر سورية وإيران أهدافاً ملحة في عملية محاربة الإرهاب ويفترض أن تعاقب إسرائيل سوريا في لبنان ولكن يجب أن تعاقب إسرائيل سورية في المستقبل في سورية نفسها إذا لم ينفع الأسلوب الأول. وأخذاً بعين الاعتبار طبيعة النظام السوري، فإن من الطبيعي والأخلاقي في أن تغادر إسرائيل شعار «السلام الشامل» وأن تنتقل إلى احتواء سورية وأن تلفت النظر إلى أسلحة الدمار الشامل وأن ترفض شعار الأرض مقابل السلام في الجولان؟
لقد كتب بيرل ورفاقه وثيقة «فرصة نظيفة» وهم يعلمون جيداً أن إدارة الرئيس بوش في عام 1990 - 1991 أطلقت عملية عاصفة الصحراء استجابة لشن حرب إبادة ضد صدام حسين. وتحرك إسرائيل هذا حسب - جيفري شتاينبرغ - سيكون نقطة البداية لحرب في الشرق الأوسط لا نهاية لها وتحديداً على طول خطوط الصدع الحضاري في «صراع الحضارات» الذي تحدث عنه أولاً الدكتور برنارد لويس في مقالة نشرت عام 1990 في المجلة الشهرية أتلانتيك مانثلي THE ATLANTIC MONTHLY وذلك قبل ثلاث سنوات من ظهور المقال اللاذع ذائع الصيت بعنوان «صراع الحضارات» في مجلة فورين أفيرز FOREIGN AFFAIRS لصومائيل هانتينغتون. وقد خضعت إدارة بوش للتهديدات الإسرائيلية واستبقت الضربات الإسرائيلية على العراق بأن قادت حرب «تحالف» عقوبات ما بعد الحرب ومناطق حظر الطيران، وما شابه. والآن من خلال بيرل وفيث وورمزر وآخرين من أتباع شتراوس الذين نفذوا الحالة الأولى.
بعد أن خسر المحافظون الجدد - جزئياً - إمكانية العمل على ما أسموه الفرصة النظيفة انتقلوا الى رسم استراتيجية لقرن أميركي جديد.
في مطلع 1997 ضم ويليام كريستول وروبرت كاغان وهما اثنان من كبار المفكرين من أتباع شتراوس وزعماء المحافظين الجدد في واشنطن جهودهما الى جهود متعاونين معهما في معهد امريكان انتربرايز في محاولة لإقناع إدارة الرئيس كلينتون باتباع سياسة «الفرصة النظيفة» كما جاءت في الوثيقة المعروفة باسمها. واستخدم كريستول وجماعته بعض المكاتب في الطابق الخامس في مقر معهد أمريكان انتربرايز وأسسوا جماعة جديدة معفاة من الضرائب باسم مشروع القرن الأمريكي الجديد الذي يهدف تحديداً إلى الترويج لفكرة بناء قوة عسكرية أميركية تقوم بصورة أحادية الجانب بدور الشرطي في هذا العالم وتبدأ عملها بالإطاحة بصدام حسين.
وبتاريخ 3/6/1997 اصدر مشروع القرن الأمريكي الجديد «بيان مبادئ» وقع عليه كل من ايليوت إبرامز وغري باور وويليام بينيت وجيب بوش حاكم ولاية فلوريدا وديك تشيني وميدج ديكتر وفرانسيس فوكوياما ولويس ليبي ونورمان بودهوريتز وبيتر رودمان ودونالد رامسفيلد وبول وولفويتز وآخرون.
استند بيان المبادئ هذا إلى مقالة كتبها ويليام كريستول وروبرت كاغان ونشرت في مجلة فورين أفيرز بعددها الصادر في تموز / آب 1996 وهي المجلة التي تصدر عن مجلس نيويورك للعلاقات الخارجية، وكان ذلك بالتزامن مع صدور وثيقة «الفرصة النظيفة». وقد نادى كريستول وكاغان في مقالهما بـ «سياسة خارجية على طريقة ريغان الجديدة»، إذا أخذنا في عين الاعتبار فالإنجاز الأهم للرئيس ريغان في مجال سياسته الخارجية والأمن القومي، كان مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي فيها رأى ريغان جهداً تعاونياً مشتركاً مع الاتحاد السوفييتي يهدف إلى انهاء عهد «الدمار المؤكد المتبادل». وعندما رفض الأمين العام السوفياتي يوري أندروبوف عرض ريغان في التعاون العلمي والتكنولوجي لبناء نظام دفاعي عالمي ضد الأسلحة النووية، ضمن الجميع انهيار الإمبراطورية السوفييتية كما تنبأ بذلك لاروشه في عام 1984، كما تنبأ به مرة أخرى في خطابه الشهير الذي ألقاه في تشرين الأول 1988 في برلين الغربية والذي فيه توقع سقوط جدار برلين بعد سنة واحدة.
قدم كريستول وكاغان تعريفهما «للسياسة الخارجية الريغانية الجديدة» بأنها «هيمنة عالمية خيرة» تستند الى بناء قوة عسكرية أمريكية ضخمة. وفي هذا كان الكاتبان يعيدان إحياء مذهب وولفويتز لعام 1991 الذي ينص على حرب وقائية أحادية الجانب، حيث يقولان صراحة: «يتمثل الهدف الملائم للسياسة الخارجية الأمريكية في الحفاظ على الهيمنة حتى وقت بعيد في المستقبل قدر المستطاع».
وقد دعا كريستول وكاغان بصورة خاصة إلى التخلص من تقليد عمره أكثر من 200 عام في مناهضة الاستعمار مشيرين بشكل خاص إلى جون كوينسي آدامز الذين اعتبراه خصمهما اللدود، حيث جاء فيما كتباه: «إن المحافظين في هذه الأيام يقبلون بكل سهولة ذلك التشبيه القديم الساحر الذي يشبّه الولايات المتحدة» بمدينة على قمة الجبل» ويصغون الى التحذير الذي اطلقه جون كوينسي ادامز حين قال إن أميركا يجب ألاّ «تذهب إلى الخارج بحثاً عن وحش لتقتله». ولم لا؟ فالبديل لذلك هو أن نترك الوحوش طليقة تعيث نهباً وفساداً لإرضاء شهواتها في حين يقف الأمريكيون جانباً يشاهدون. والتصرف الذي قد يكون حكيماً عام 1823 عندما كانت أمريكا قوة صغيرة معزولة في عالم «العمالقة الأوروبيين»، لم يعد بالأمر الحكيم الآن، ونحن نرى أميركا هي العملاق. ولأن أميركا تملك الإمكانية لاحتواء وتدمير الكثير من وحوش العالم، الذين يمكن العثور عليهم بسهولة ودون بحث طويل، ولأن السلام والأمن في النظام الدولي يقع على كاهل أمريكا فإن سياسة الجلوس على قمة الجبل والقيادة بالقدوة تصبح على أرض الواقع سياسة الجبن والعار.
وبتاريخ 26/1/1998 أصدر مشروع القرن الأمريكي الجديد رسالة مفتوحة إلى الرئيس كلينتون يدعو فيها إلى إجراء تغيير فوري في النظام في العراق، استناداً إلى الإرهاب الكاذب بأن صدام على وشك أن يطلق أسلحة الدمار الشامل على الولايات المتحدة وحلفائها. وكان من بين الموقعين على هذه الرسالة المفتوحة الأشخاص التالية أسماؤهم والذين هم الآن جميعاً ضمن إدارة الرئيس بوش الثالث والأربعين: ابرامز وريتشارد أرميتاج وجون بولتون وفوكوياما وخليل زاد وبيرل وبيتر رودمان ورامسفيلد، وولفويتز وروبرت زوليك. كما حملت الرسالة تواقيع كريستول وكاغان وجيمس دولسي الذي تسلم إدارة المخابرات المركزية لفترة وجيزة في عهد الرئيس كلينتون والذي كان في وقت إصدار الرسالة المذكورة المحامي الممثل للمؤتمر الوطني العراقي.
وفي شهر أيلول 2000 وعشية الانتخابات الرئاسية التي وقف فيها جورج دبليو بوش ضد ال غور، أصدر مشروع القرن الامريكي الجديد دراسة مطولة بعنوان «اعادة بناء الدفاعات الأمريكية - الاستراتيجية والقوة والموارد من اجل قرن جديد» وكانت هذه الدراسة إحياء أيضاً وبصورة أكثر تفصيلاً لاستراتيجية تشيني وولفويتز لعام 1991 - 1993 الخاصة بالحرب الوقائية. ومن بين «المشتبه بهم المعتادين» الذين ساهموا في هذه الدراسة كان لويس ليبي ربيب وولفويتز. وكان قد أنهى لتوه مهمة خاصة قام بها بصفته المحامي العام الاستشاري لهيئة كوكس التي كانت تسعى لنزاع استراتيجي في شمال آسيا مع الصين وكوريا الشمالية، وسوف يكون عما قريب رئيس هيئة الأركان التابعة لنائب الرئيس تشيني. عندما كان ليبي خارج الحكومة، كان يشغل ايضاً وظيفة المحامي الشخصي لمارك ريتش عرّاب المافيا الروسية الذي حكم عليه غيابياً في محكمة فدرالية بتهمة التهرب من الضرائب و«التعامل التجاري مع العدو» - ويقصد بذلك آية الله خميني في إيران، خلال أزمة الرهائن الأمريكيين عام 1979 - 1980. وكان ليبي الشخص الذي عمل من وراء الكواليس والمسؤول عن العفو الرئاسي الكارثي الذي أصدره الرئيس كلنتون بحق ريتش، حيث كان يعمل مباشرة مع عملاء سابقين في الموساد مثل زفي رافيا وآفنز ازولاي.
ولكن بالرغم من انتشار اتباع شتراوس والمحافظين الجدد داخل فريق الأمن القومي التابع للرئيس بوش، إلاّ أن اللوبي المؤيد للحرب على العراق لم يحرز أي تقدم، وذلك إلى أن وقعت الأحداث التي وصفها نائب الرئيس تشيني بأنها «نقطة انعطاف تاريخي».
لقد اعطت العمليات الهجومية التي وقعت بتاريخ 11/9/2001 على البنتاغون ومركز التجارة العالمي فرصة رد فوري من جانب المحافظين الجدد الذين هم في داخل إدارة بوش أو حولها. بعد أربعة أيام فقط من حدوث هذه الهجمات، حضر بول وولفويتز جلسة لمجلس الأمن القومي عقدت برئاسة بوش بتاريخ 15/9 في كامب ديفيد، حيث قدم ملاحظته القاضية بقيام الولايات المتحدة بغزو فوري على العراق. ولأسباب لا تزال موضع نزاع رفض الرئيس ونائب الرئيس وحتى وزير الدفاع رامسفيلد اقتراح وولفويتز ووصفوه بأنه «سابق لأوانه». ولكن بعد عدة أيام وبأمر رئاسي للأمن القومي يفوّض الهجوم على أفغانستان أعطى الرئيس بوش التفويض لوكالة المخابرات المركزية سي أي ايه والعسكريين للشروع بتطوير خطة طوارئ للتعامل مع صدام.
إنتهى الشق الأول من الفرصة النظيفة واندمجت في القرن الأمريكي الجديد: سقط العراق، وأصبحت الحملة على الإرهاب أكثر أولوية، وأخرجت سورية من لبنان وتم اضعافها إقليمياً، فهل سورية هي المرحلة الثانية في عملية نزع البعث وتغيير المعادلات الإقليمية؟، والأهم كيف ستتصرف دمشق إزاء هذا المشروع الذي قارب بيتها ودخل جزء منه اليها عبر ميليس، المحقق الدولي، هذا السؤال رهن بالعقلانية والبراغماتية السورية، فقد بات واضحاً أن سورية باتت قبيل قدوم ديتف ميليس اليها من التسييس لأعمال التحقيق خاصة وأن مقدمات هذا التسييس كانت واضحة لدى متتبعي التفاصيل في القيادة السورية، وهي تتلخص بمجموعة من الملاحظات ومنها:
- أن ميليس كان قد اعطى انطباعاً بالتسييس عندما أجلَّ اللقاءات التي طلبتها سورية في السابع عشر من الشهر الماضي للرد خطياً على أسئلة المحقق الدولي لبعض الشهود السوريين الى السادس والعشرين منه كي يعلن في الثاني والعشرين من آب / أغسطس أن سورية لم تتعاون مع لجنة التحقيق الدولية.
- أن ميليس لم يعتمد على أية دلائل حسية، بخلاف ما يُسمى بالشهود السريين، كي يقوم بتوقيف الضباط الأربعة اللبنانيين دفعة واحدة وملاحقة الرجال المنضوين تحت الخط السياسي السوري في لبنان بما يوحي لدى القيادة السورية، بأن هنالك مسعى سياسياً لملاحقة فلول الخط السوري في لبنان أو تصفية آثار العلاقات السورية - اللبنانية الخاصة التي نشأت خلال ثلاثين عاماً، بما فيها استباحة طمأنينة هؤلاء، وملاحقة فلول الخط السوري في لبنان ومن ثم في سورية نفسها.
- أن ميليس يعتمد بالدرجة الأولى على إفادات شخص ادعى أنه عقيد بالمخابرات السورية وأنه كان يشغل منصب مدير مكتب رئيس جهاز المخابرات العسكرية السورية السابق حسن خليل، فيما تبين أن المذكور مجرد مجند فار من الخدمة العسكرية السورية وأنه ليس بضابط لأنه لم يدرس إلا للصف الرابع الابتدائي وهو مطلوب في سورية بتهم الاحتيال وانتحال شخصيات رجل أمن، الأمر الذي يدفع السوريين إلى التشكيك سلفا بالأدلة وقد يُطالبون بإضافة خبراء سوريين ومصريين وسعوديين بالإضافة للجنة المحققة لفحص الأدلة.
- هنالك شعور بأن الإعداد الحالي لاستصدار قرار عقوبات دولية ضد سورية هو الذي يُشعر الأطراف المعنية بأن هنالك محاولة لاستهداف دمشق، إذ كيف يستقيم أن يتم الإعداد لقرار فيما تعلن سورية استعدادها للتعاون الى اقصى درجة، ما يعني أنه مهما كان التعاون السوري سيُقال بأن سورية لم تتعاون، خاصة إذا طرح ميليس شروطاً تعجيزية أو تمس السيادة السورية أو تتناول مقامات سيادية أو تتجاوز شرعة الأمم المتحدة بذريعة أن القرار 1595 يطالب الدول بالتعاون، مع أن شرعة الأمم المتحدة والاتفاقيات الموقعة تشترط ألا يصدر من الأمم المتحدة ما يتجاوز قواعد السيادة واستقلال الدول خاصة وأن عدداً من السياسيين اللبنانيين قد تم نقلهم الى باريس فنيويورك للإعداد لهذا القرار والمساهمة في تهيئة الأجواء للانتقال من تدويل المسألة اللبنانية إلى تدويل وضع سورية.
- هنالك تخوف من أن يكون ميليس قد أعلن أسماء معينة سلفاً بحيث يكون التحقيق مجرد إعلان صوري بهدف النيل من هيبة الدولة في سورية وإضعافها، والتأليب عليها بهدف إما الإيهام بإمكانية تغيير النظام أو الدفع نحو هذا الوضع من أجل خلق بلبلة داخلية تمهد إما لإشغال سورية بفتن داخلية لإضعافها، أو لإشغالها عن ملف السعي لسحب سلاح حزب الله بدون تدخل سوري وإقرار إلغاء حق العودة وتوطين الفلسطينيين في لبنان، أو لاستخدام ذلك لدفعها في طريق الشرق الأوسط الكبير وللدخول في مفاوضات سلمية مع إسرائيل بشروط الأمر الواقع. وهذا ما يبدو للمراقبين أنه يقف وراء الاستقبال المعلن لقادة الفصائل الفلسطينية في دمشق من الرئيس السوري والإعلان عن الدعوة الموجهة لهم لرفض التوطين وإلغاء حق العودة وإعلان القادة المذكورين دعم حزب الله في رفضه لسحب سلاحه، وهو ما بات واضحاً أنه الخطوة الأولى نحو التوطين الفلسطيني وتوقيع اتفاقية الوضع القائم على الأرض مع إسرائيل وعزل المسارين اللبناني عن السوري.
- اللافت بالنسبة للمراقبين في دمشق أن ميليس أعلن عن تمديد لمدة 40 يوماً لمهمته، وهو التمديد المقر لمرة واحدة، دون الاستفادة من مهلة الثلاث أشهر الإضافية، وهو ما يضاف إلى التوجس من مهام لجنة تحقيق حدد لها سقف زمني مسبق خلافاً لكل وقائع أي تحقيق.
بالانتظار تبدو دمشق منفتحة على كل شيء ومستعدة لنزع كل المبررات لتناولها ما لم يكن التدويل قدراً لا راد له، وهو ما لا يستسيغه العمل السياسي المنفتح على كل المتغيرات، إذا الثابت الوحيد فيه هو المتغير، لكن الغريب هنا أن السيناريو يبدو من النوع الذي لا يمكن أن يُصدق أن أحداً يخطط له بهذه الكاريكاتيرية، أم أن ثمة شيء ما مخفي لم يعلنه ميليس. هذا السؤال يبدو مطروحاً، لكن المتاح حتى الآن لا يُعطي انطباعاً بأنه هكذا بل يوحي بأن كاريكاتيراً هو السائد، وكأن المخططين من النوع الذي يستهين بعقول الشعوب ونخبها بسبب اختلال موازين القوى العنيف!!!!؟