أخيراً أدرك الأمريكيون أن السيل قد بلغ الزبى ولا بد من وضع حد لتدهور شعبيتهم وتحسين سمعتهم في العالم العربي بعد أن كادت تصل إلى الحضيض ..
أخيراً أدرك الأمريكيون أن السيل قد بلغ الزبى ولا بد من وضع حد لتدهور شعبيتهم وتحسين سمعتهم في العالم العربي بعد أن كادت تصل إلى الحضيض، هذا إذا لم تكن قد وصلت وارتطمت شر ارتطام بقاع القاع حسب وصف مكسيم غوركي للأعماق السحيقة. فها هم يختارون السيدة المخضرمة كارين هيوز مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الدبلوماسية لتضع استراتيجية عاجلة كي تعيد بعضاً من البريق إلى صورة أمريكا بعد أن أصبح "العم سام" رمزاًً لكل ما هو شيطاني وطغياني وبغيض ومكروه وممقوت ومرفوض وحتى فاشي في مخيلة السواد الأعظم من العرب من المحيط إلى الخليج. لا شك أن الاعتراف بالخطأ فضيلة وأن مجرد التفات الإدارة الأمريكية إلى هذا الأمر الخطير هو خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن لا يكفي فقط الإقرار بوجود هوة سحيقة بين أمريكا والشعب العربي، بل يجب أن يفتح المسؤولون عن الحملة التجميلية الأمريكية آذانهم جيداً وألا يصغوا فقط إلى "حبايبهم" ومنافقيهم في الدوائر السياسية والإعلامية والثقافية العربية بل عليهم أن يستمعوا ويحسنوا الاستماع لمن يكرههم فعلاً في الشارع العربي وهم الأغلبية الساحقة، وإلا ذهبت مساعي السيدة هيوز أدراج الرياح وجهود الإدارة الأمريكية هباء منثوراً كما حصل مرات عدة على صعيد التجمل الإعلامي والبروبوغانده المفضوحة.
هل تعلم الأمريكيون من أخطائهم السابقة أم أنهم ما زالوا مبتلين بخطيئة الاستماع لما يحبون أن يسمعوه فقط وصم آذانهم عن سماع الحقيقة المرة؟ أرجو أن يكونوا قد تعلموا مع أنه تراودني شكوك كثيرة بأنهم مازالوا يفضلون الاستماع للأصوات التي تمتدحهم وتطبل وتزمر لهم دون غيرها. وقد لاحظت ذلك بأم عيني أكثر من مرة. ولعل مؤتمرات الحوار التي يعقدونها في أمريكا والدول العربية تحت عناوين مختلفة تفضح سياسة دفن الرؤوس في الرمال التي يهواها الأمريكيون. فقد دأبت مراكز البحوث والدراسات وبيوت الخبرة الأمريكية على عقد ندوات ومؤتمرات كبيرة باهظة التكاليف للحوار مع الإسلاميين مثلاً في عالمنا العربي. وقد حضرت بعضها وتساءلت وأنا أرى نوعية المدعوين إلى تلك المؤتمرات: لماذا يتجشم الأمريكيون عناء السفر عبر المحيطات وينفقون أموالاً طائلة ليأتوا إلى بلداننا للتحاور والاستماع والاستئناس بآراء وطروحات أناس يعرفون آراءهم وطروحاتهم ومواقفهم مسبقاً؟
فلو نظرنا إلى نوعية الضيوف الذين يدعوهم منظمو المؤتمرات الأمريكيون إلى فعاليات الحوار لوجدنا أنهم مختارون بعناية فائقة وقلما يمثلون إلا أنفسهم، ومن يقول للامريكيين غير ذلك يكون يكذب عليهم ويضيع وقتهم وجهدهم. فالأغلبية العظمى من الحضور هي ذات مواقف مؤيدة أو متعاطفة مع السياسات الأمريكية في المنطقة أو معتدلة أو تنتقد الأمريكان على "عينك يا تاجر" لذر الرماد في العيون أو تتظاهر بانتقاد الأمريكيين أو أنها بين بين في مواقفها أو أنها تنتمي إلى ما يسمونها بالفئة "العقلانية" والعقلانية هذه أصبحت كناية عن تفهم كل ما يرتكبه الأمريكيون ومباركته دون أي اعتراض، هذا إذا لم تطبل وتزمر له هذه الفئة «العقلانية» على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية ذات الهوى الأمريكي.
ولعل أكثر ما يميز هذه الفئة التي تنافق للأمريكيين "عمال على بطال" أنها لا هم لها سوى النيل من العرب والمسلمين وكيل الشتائم لهم وحتى تنفيرهم من الأمريكيين دون قصد وجعلهم يلعنون الساعة التي تعرفوا فيها على هؤلاء "العقلانيين" العرب المزعومين. وكي لا نظلم منظمي تلك المؤتمرات الحوارية المزعومة فقد شاهدت في بعض المؤتمرات بعض الشخصيات العربية والإسلامية التي تتمتع بشعبية في الشارعين العربي والإسلامي. لكنها كانت قليلة جداً وربما جاء اختيارها للتنويع الظاهري وإعطاء انطباع زائف بأن المشاركين يمثلون كل ألوان الطيف العربي والإسلامي، مع العلم أن الحقيقة ليست كذلك. ومن المضحك أن بعض الشخصيات الإسلامية ذات الشعبية لم يدعُها المنظمون سوى مرة يتيمة، ربما لأنها رفعت صوتها وأسمعت الأمريكيين الحقيقة المرة أو ما لايريدون سماعه، فقرروا شطب أسمائها من قائمة المدعوين في المؤتمرات القادمة واكتفوا بالباصمين.
وأذكر أنني كنت ذات مرة بصدد إعداد برنامج عما يُسمى بالحوار العربي ـ الأمريكي فبدأت أحضر للحلقة وأجري اتصالات مع ضيوف محتملين مشاركين في مؤتمر ذي صلة بالموضوع. وفي الأثناء التقيت بأحد منظمي المؤتمر الأمريكيين وطلبت منه مساعدتي في اختيار الأشخاص المناسبين للمشاركة في الحلقة بشرط أن يكون هناك من يمثل وجهة النظر الأمريكية وآخر يعارضها من الإسلاميين المشاركين في المؤتمر، وإذ به يرشح لي الشخصين الأمريكي والإسلامي معاً. وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما وجدت أن الشخص الإسلامي الذي اقترحه صاحبنا الأمريكي كان أكثر ملكية من الملك وأستطيع أن أراهن أن المشاركين الأمريكيين لا يمكن أن يدافعوا عن وجهة النظر الأمريكية بنفس القدر من التعنت والعمى والتزييف. فهم يربأون بأنفسهم أن يرددوا مقولات إدارتهم بشكل ببغائي وأعمى. أما صاحبنا الإسلامي المرشح للحلقة فقد كان مستعداً أن يمسح الأرض بالعرب والمسلمين أجمعين وأن يرفع الأمريكيين إلى مصاف الأنبياء والملائكة. تلك هي النوعية من الإسلاميين التي يختارها الأمريكيون للتحاور معها مثلاً. ولا أدري لماذا يخدعون أنفسهم بالتحاور مع تلك النوعية التي لا محل لها من الإعراب في الشارعين العربي والإسلامي إلا ربما في محل منبوذ إن لم نقل في محل ناصب(من النصب).
متى يدرك الأمريكيون أن "فقهاء ومثقفي السلاطين" وبعض المتأمركين العرب الذين يستشيرونهم ويستأنسون بآرائهم مستعدون أن يكذبوا وينافقوا من المساء حتى الصباح وأن يستنبطوا فتاوى لا تخجل من تزييف حتى لون الثلج بالقول إنه أسود. إن الحوار كما يعرف الجميع يكون عادة بين خصوم أو على الأقل بين مختلفين وليس بين مزاودين على بعضهم البعض على نفس الموقف والاتجاه أو مع أفاقين ومنسلخين من انتماءاتهم وعقائدهم. ألم يسمع الأمريكيون بمقولة: "إن السلام يُصنع عادة بين أعداء وليس بين أصدقاء وحلفاء"؟
وقد أخبرني أحد المعارف أنه سأل ذات مرة مسؤولاً أمريكياً: "هل يعقل أن الدكتور الفلاني المعارض العراقي المشهور استطاع أن يخدعكم حول الوضع في العراق بالرغم من كل وسائل استخباراتكم فأقنعكم بوجود أسلحة دمار شامل وبأن العراقيين سيستقبلونكم بالورود؟ هل يعقل أنكم ابتلعتم الطعم وصدقتم مزاعمه بهذه السهولة؟ فأجاب المسؤول الأمريكي: المشكلة تكمن في أن ذلك المعارض عرف كيف يقرأ نفسيتنا وذهنيتنا أو بالأحرى وضعنا النفسي في ذلك الوقت. لقد كنا نريد أن نسمع كلاماً من ذلك القبيل فصدقنا كل ما كان يقوله لنا مع علمنا التام بأن ذلك المعارض لم يكن أكثر من نصّاب وأفاق وكذاب أشر. بعبارة أخرى فإن الكلام الذي أسمعنا إياه هو ما كنا نطرب لسماعه أيامها". إنه اعتراف أمريكي صريح بخداع النفس. وأرجو ألا تقع السيدة هيوز في نفس المطب وهي تستمع لبعض المنافقين والمتأمركين العرب في العواصم العربية التي زارتها أو تنوي زيارتها لاحقاً. ويجب أن تدرب أذنيها على سماع السيىء قبل الطيب إذا كانت تريد فعلاً تحسين صورة بلادها لدى العرب وألا تتفاجأ بأن سمعة أمريكا قد وصلت إلى الدرك الأسفل، وأن الذين يكرهونها ليسوا ثلة من الأصوليين المعزولين بل قطاع عريض يشمل كل الأطياف وأن كل من يقنعها بغير ذلك جدير بازدرائها وسخريتها.
إن سياسة النعامة التي تنتهجونها أحياناً لا تختلف أبداً عن السياسات التي تتبعها بعض الأنظمة العربية الغبية التي تصور لنا في وسائل إعلامها أن كل الجماهير في صفها، وأن أعداءها مجرد ثلة من الكلاب الضالة والمارقين التافهين والمأجورين بينما هي في واقع الأمر لا تتمع بأي دعم شعبي أو جماهيري وحسبها أن تنجو من بصاق الناس وازدرائهم واحتقارهم لها فيما لو أرادت أن تعرف رأيهم الحقيقي فيها. كيف يختلف الأمريكيون عن بعض نظمنا الحاكمة التي تتلاعب بنتائج استفتاءاتها وانتخاباتها المزيفة، من رأسها حتى أخمص قدميها كأن تصور لنا الزعيم الأوحد بأنه معبود الجماهير بينما هو قد يحصل على تسعة وتسعين بالمائة من أصوات الشعب تحت الصفر فيما لو كانت هناك انتخابات أو استفتاءات حقيقية لا تـُفبرك نتائجه في أقبية وزارات الداخلية. هل هناك فرق بين الأمريكان وبعض حكوماتنا من حيث الكذب على ذاتها والاستمتاع بنقيق المنافقين والمخادعين؟ لا فرق أبداً، فالاثنان يحاولان أن يخدعا نفسيهما.
أرجو من السيدة كارين هيوز المحترمة أن تستفيد من أمثالنا العربية العظيمة مادامت قد تنازلت وأرادت أن تتعرف على رأينا بأمريكا. وأنصحها وهي تجوب البلدان العربية بأن تحتفظ في محفظتها النسائية بوريقة صغيرة مكتوب عليها المثل العربي الشهير: "صديقك من صدَقك لا من صدّقك".