درجت القوى الاستعمارية عبر التاريخ على تغليف جشعها وأطماعها بثروات الغير وخيراتهم وبلادهم بشعارات براقة أو أسانيد مزيفة وكاذبة كي تخفي حقيقة نواياها ومخططاتها التوسعية الاستغلالية.
درجت القوى الاستعمارية عبر التاريخ على تغليف جشعها وأطماعها بثروات الغير وخيراتهم وبلادهم بشعارات براقة أو أسانيد مزيفة وكاذبة كي تخفي حقيقة نواياها ومخططاتها التوسعية الاستغلالية. فعندما شن نابليون حملته الشهيرة على مصر زعم أنه جاء لتحرير المصريين من اضطهاد المماليك وانتشالهم من التخلف وتنويرهم ووضعهم على طريق الحضارة. وكي يزيد في خداع الشعب المصري اصطحب الجنرال الفرنسي معه نسخاً من القرآن الكريم للتقرب من المصريين كيلا يقاوموا قواته الغازية. لكن سرعان ما انكشفت أكاذيب بونابرت وخدعه عندما بدأ المصريون يقاومون جيشه الغاشم فراحت حوافر خيوله تدنس عتبات الأزهر الشريف. لم يقطع الجنود الفرنسيون ألوف الأميال من أجل عيون المصريين «الغلابه» بل من أجل استغلالهم ونهب خيراتهم والسيطرة على وطنهم.
وعندما وصلت جحافل الجنرال البريطاني آرثر ستانلي إلى العراق عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر ألقى بجموع العراقيين خطبة عصماء أخبرهم فيها بأن قواته تكبدت مشاقاً هائلة من أجل الوصول إلى بلاد الرافدين كي تحررها من ربقة العثمانيين المتخلفين وتنشر الحضارة والرفاهية في ربوعها. لكن رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل لم يتردد بعد ثلاث سنوات فقط في ضرب المقاومين العراقيين بغازات الخردل المحظورة دولياً. ولم يكن العراقيون ليصدقوا أكاذيب الجنرال ستانلي «الخيرية» أصلاً، والدليل على ذلك أنهم قاوموه بضراوتهم التاريخية المعهودة وأردوه قتيلاً وما زال قبره موجوداً في العراق. فقد اكتشف الشعب العراقي مبكراً زيف ادعاءات القائد البريطاني وشنوا عليه ثورة العشرين التي حررت العراق من نير القوات الغازية التي كان هدفها الأول والأخير طرد العثمانيين كي تحل محلهم في نهب ثروات العراق واستغلال موارده وتركيع أهله.
لكن الأمريكيين على ما يبدو لم يعودوا يكتفون بإطلاق الشعارات والوعود المعسولة في البلدان التي يريدون نهبها واستغلالها والسيطرة عليها. صحيح أن وزارة الدفاع الأمريكية وزعت في العراق قبيل الغزو بياناً «جميلاً» يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن البيان الذي تلاه الجنرال البريطاني ستانلي قبل حوالي مائة عام حتى في بعض عباراته، وصحيح أنهم استخدموا خدعة نشر الديمقراطية التي حلت محل خدعتي التنوير والتحضير االفرنسية والبريطانية، وصحيح أيضاً أنهم استنسخوا التجربة الاستعمارية القديمة في بعض جوانبها، إلا أنهم طوروا لعبة التحايل على الشعوب، فراحوا يخترعون الأعذار والحجج وينصبون الأفخاخ والمؤامرات ويثيرون القلاقل والمشاكل كي يتمكنوا من الوصول إلى البلدان التي ينوون السيطرة عليها وعلى ثرواتها. فلو أخذنا المنطقة العربية مثالاً نرى أن الأمريكيين كانوا يحلمون بالسيطرة عليها منذ عقود وكانوا يطبخون خططهم على نار هادئة خطوة خطوة من أجل إحكام قبضتهم على الثروة النفطية.
لقد بدأت الخطة الأمريكية للسيطرة على منابع النفط بإشعال نار الحرب بين العراق وإيران في عام 1980 من القرن الماضي. وقد وقع الإيرانيون والعراقيون في الفخ الأمريكي عندما راحت قواتهم البحرية تعترض سبيل بعض ناقلات النفط مما حدا بالحكومة الكويتية إلى الاستعانة بالقوات الأمريكية التي أخذت ترفع الأعلام الأمريكية فوق ناقلات النفط الكويتية كنوع من الحماية لها من الهجمات الإيرانية أو العراقية. لقد كانت تلك الخطوة الأولى في تطويق الثروة النفطية، فبعد أن كان الأسطول الأمريكي يجوب مياه المنطقة بنوع من الحذر أصبح الآن يصول ويجول على هواه بحجة حماية إمدادات النفط العالمية.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فبدأ الأمريكيون يعملون على لعبة الغزو العراقي للكويت كي ينفذوا الخطوة الثانية من خطة استعمار المنطقة. فما أن ورطوا صدام في الكويت ومن ثم طردوا قواته حتى ثبتوا أرجلهم حول منابع النفط مما جعل أحد الساخرين يعلق قائلاً: «لا داعي بعد اليوم لأن يختلف الإيرانيون والخليجيون حول تسمية الخليج، فهو لم يعد لا فارسياً ولا عربياً بل أصبح أمريكياً». لكن الأمريكيين كانوا بحاجة لخطوة أخرى كي يحكموا فكي كماشتهم على النفط، فكان غزو العراق الذي سيجعلهم (إذا نجحوا) لا يتحكمون فقط ببترول الخليج بل أيضاً بثاني احتياطي نفطي في العالم ألا وهو الاحتياطي العراقي ليصبحوا بالتالي المتحكمين بنوافير النفط العالمية وما يعنيه ذلك من نفوذ وقوة.
وكما أصبح واضحاً للعيان فإن كل المبررات والشعارت الأمريكية بدءاً بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية وانتهاء بلعبة مكافحة الإرهاب قد غدت مفضوحة للقاصي والداني ولم تعد سراً. وقد اعترف نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق بول وولفوتز بعظمة لسانه بأن أزعومة أسلحة الدمار الشامل كانت لأغراض إدارية فنية بحتة، وأن الهدف من الغزو هو السيطرة على بلد يموج فوق بحر من النفط. ويبدو أنهم يستخدمون شماعة اغتيال الحريري هذه الأيام لتمرير سيناريو مشابه مع سوريا اعتماداً على فبركات وأباطيل تماماً كما حدث مع العراق على أمل أن يصبح العراق وسوريا ولبنان مجالاً استراتيجياً امريكياً حيوياً مفتوحاً على البحر المتوسط. بعبارة أخرى فإن اللعبة الاستعمارية قد أخذت أشكالاً جديدة لم يعهدها البريطانيون والفرنسيون ربما بسبب العولمة الإعلامية وتطور المجتمعات العربية وصعوبة خداعها بالأكاذيب الاستعمارية القديمة. وبذلك لم يكن هناك من سبيل إلا خلق المشاكل والحروب وافتعال الأزمات لتعبيد الطريق الاستعماري الأمريكي إلى المنطقة.
هل كان الأمريكيون يحلمون في التدخل في أبسط القضايا والشؤون العربية والتغلغل عسكرياً في كل حدب وصوب لولا ما يسمى بالإرهاب؟ بالطبع لا. وبالتالي لا بد أن نتساءل من هو المستفيد الأكبر من لعبة الإرهاب المفضوحة التي على ما يبدو كانت نعمة من السماء بالنسبة للمستعمرين الجدد، هذا إذا لم يخترعوها بأنفسهم كقميص عثمان أو شماعة أو مسمار جحا؟ ألا يحقق القاضي عادة بأمر المستفيد الأول من الجريمة؟ ألم يكن الإرهاب المزعوم العربة التي حملت الكولونيالية الجديدة إلى المنطقة؟ في الماضي تذرع المستعمر بحجة التنوير والآن يستزف أزعومة مكافحة الإرهاب إلى آخرها. ألا يحق لنا أن نسأل عمن يتلاعب بقضية الإرهاب ويسخرها لأغراضه الاستعمارية للسيطرة على الشعوب والتحكم بخيراتها وثرواتها ومواردها تحت حجج واهية؟
ولعل الأمريكيين استفادوا أيضاً من الاستعمار الروماني في تبرير غزواتهم واستغلالهم لبعض بلدان العالم. فقد كان السياسي الروماني كارسوس الذي يعود إليه الفضل في اختراع أجهزة الإطفاء، أول من وضع أسس الاستعمار المُفبرك والمبرمج. فقد كان ذلك السياسي يحلم بالسيطرة على المدينة التي كان يعيش فيها وامتلاك أكبر عدد من مبانيها. ومن أجل ذلك الغرض كان كارسوس يرسل مجموعة من رجاله إلى إحدى البنايات كي يضرموا بها النيران، ثم كان يقوم هو بالتدخل من أجل إطفائها في الوقت المناسب بعد أن يكون قد أبرم صفقة مع أصحاب البناية. وكانت الصفقة تنص في معظم الأحيان على أن يقوم كارسوس بشراء البناية وتعويض أصحابها مبلغاً زهيداً على اعتبار أنها أصبحت شبه مدمرة ولا تصلح للاستخدام أو العيش. وبهذه الحيلة الجهنمية استطاع كارسوس أن يمتلك مئات العقارات في المدينة ليصبح الحاكم بأمره. وكم يذكرنا أسلوب كارسوس هذه الأيام بعمليات إعادة الإعمار التي تقوم بها الدول الاستعمارية في البلدان التي غزتها وسوت بعض مدنها بالأرض كما يحدث في العراق. فكما هو معلوم فإن عقود إعادة البناء وترميم البنية التحتية في العراق قد أعطيت لشركات أمريكية. وبذلك تصبح الحروب وصناعة التدمير وإعادة البناء تجارة عظيمة بامتياز ووسيلة من وسائل التحكم والسيطرة!!
هل تختلف الأساليب الاستعمارية الجديدة عن «خطة كارسوس» الرومانية؟ أم أن هناك الكثير من التشابه بين الخطتين؟ ألم تشجع القوى الاستعمارية الحديثة على نشوب النزاعات والحروب بين الدول كما حدث بين إيران والعراق ومن ثم كانت تستغل الدمار الذي ألحقته الحرب بالبلدان المتحاربة لتثبيت أقدامها في المنطقة؟ من الذي شجع صدام حسين على غزو الكويت؟ أليست سفيرة أمريكا في بغداد أيبرل غلاسبي؟ ألم يقع صدام برعونته المعهودة وتخلفه الاستراتيجي في كل الأشراك؟ من الذي استغل الغزو العراقي للكويت شر استغلال؟ أليس الذين وطدوا بعده وجودهم في المنطقة بعدما كان دخول قوات أجنبية إلى الخليج حلماً بعيد المنال؟ ألم يعترف شوارتسكوف قائد القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية أنه كاد أن يسقط من على كرسيه من شدة الدهشة والفرح بعدما أخبره الملك فهد بأنه وافق على دخول القوات الأمريكية إلى السعودية؟
آه كم أصبحنا نمقت ونقرف من مجرد سماع كلمات مثل «التنوير» و«التحضر» و«الديمقراطية» و«الليبرالية» و«حقوق الإنسان» و«العدالة» و«الإرهاب» و«أسلحة الدمار الشامل» وغيرها من المفردات المفضوحة لكثرة ما استغلوها لأغراض استعمارية بحتة. ماذا حصدنا من تلك الوعود الاستعمارية الكاذبة سوى النهب و القتل والإبادة و التدمير والتشريد وخراب البلدان؟ ينقل الدكتور ثائر دوري عن الدكتور عبدالوهاب المسيري انه قيل لأحد شيوخ القبائل الجزائريين «إن القوات الفرنسية جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر»، فرد رداً مقتضباً عميق الدلالة. قال: «إذن لماذا أحضروا كل هذا البارود؟». واليوم نقول إذا جاءوا لنشر الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، وتخليصنا من الطغيان فلماذا أحضروا كل هذه الجيوش الجرارة وكل أسلحة القتل والدمار؟ فعلاً تعددت الأكاذيب والاستعمار واحد!