تتداول في رؤوس الناس أسئلة كثيرة ومعظمها متشابكة حول إنغماس باريس الصديقة الى العرب عامة ودمشق ولبنان بصورة خاصة في المشروع الأميركي المرعب، والذي هو وريث مشروع الحركة الصهيونية والذي يقوده الرئيس الأميركي الذي لا يسمع أحدا، ومن وراءه مجموعة المحافظين الجُدد والذين قِبلتهم إسرائيل والمال والنفوذ، وإن كان الثمن فناء الشعوب وتفتيت الدول مثلما حصل في العراق.
من هنا تبدأ أسئلة الشعوب العربية والتي أولها:
هل كانت ولازالت باريس تنافق علينا ولم تحبنا يوما؟
وهل لازالت باريس بعقلية المستعمر المتعطّش للعودة الى الديار التي كان يستعمرها وتقليدا الى لندن التي عادت الى البصرة العراقية على ظهر الدبابات والباراجات بحجة الكذبة الكبرى التي اسمها أسلحة الدمار الشامل؟
ولكن يا ترى هل جنت لندن شيئا من عودتها الى العراق أم أصبحت إضحوكة بين الشعوب والأمم؟
الجواب: لا…لقد أصبحت لندن في ورطة حقيقية نتيجة الخسائر في سمعتها وجنودها وتاريخها، وكذلك أصبحت نقطة إستهداف لما يسمى بالإرهاب والذي حصد أرواح مواطنيها الأبرياء نتيجة تفجيرات الأنفاق الأخيرة، بل قسّمت الشعب البريطاني ولأول مرة، وهذا مؤشر خطير تخافه بريطانيا وعرشها الأمبراطوري.
لذا فباريس تريد تقليد خطوات لندن إتجاه العراق، فتراها تشحذ السيوف إتجاه دمشق وبيروت وهذا ما لاحظناه ونلاحظه طيلة الفترة الماضية ،علما إن هناك أصوات فرنسية رافضة لهذا التوجه وحتى داخل قصر الإيليزيه، أي ترفض الإنغماس الأعمى في المشروع الأميركي إتجاه دمشق، لأن هذه الطبقات تعرف إن الإنغماس في المشروع الأميركي يعني المشاركة في قتل العرب والمسلمين في سوريا ولبنان، وبالتالي ستتحمل باريس ردة فعل الشعوب العربية والإسلامية وعلى أقل تقدير في معدل الكراهية إتجاه باريس، ناهيك إن بهكذا سياسة ستضع باريس نفسها على أجندة الخلايا التي تؤمن بالجهاد وإرسال المفخخات والإنتحاريين كما فعلت في لندن ومدريد، والتي هي مرفوضة جملة وتفصيلا لأنها تحصد أرواح الأبرياء، ولكن لا توجد قوة في الكون تصد ردة فعل الطرف أو الإنسان الذي يشعر بالحيف والظلم والجرح والحصار والجوع والقهر.
لذا فباريس غير مضطرة أن تكون في هذا المكان الخطأ، وفي هذه المواجهة التي سترهق المواطن الفرنسي، وستنقل فرنسا من موقع الصديقة والحبيبة الى العدوّة، خصوصا وإن سمعة باريس طيبة بين العرب والمسلمين، ولا ننكر قد طرأ تغيّر عليها نتيجة إنغماس باريس في الملف اللبناني ،ولكن لا يتمنى العقلاء العرب والمسلمين أن تتمادى باريس في المشاركة كما فعلت لندن في العراق نتيجة تحالفها مع واشنطن لأن ردة الفعل ستكون قاسية، وحينها ستفقد باريس جزءا كبيرا من محبتها ومصالحها في المنطقة.
كيف يُفسّر موقف باريس؟
لقد تفاجىء كثير من المتابعين والمحللين العرب والأجانب بالموقف الفرنسي المساند للولايات المتحدة في لبنان وإتجاه سوريا، بحيث فاجىء حتى الأطراف اللبنانية والسورية نفسها، ونتيجة هذا برز على السطح (الفريق الأول) و الذي يدين باريس وينصحها بالعقلنة، وعدم الإنجرار وراء واشنطن كما فعلت لندن في العراق، ويعتقد هذا الفريق إن هناك حنينا فرنسيا من أجل العودة الى مواقعها القديمة عندما كانت فرنسا تستعمر لبنان وسوريا وتحت مبدأ العودة الى الماضي كما فعلت بريطانيا أخيرا في العراق، وهذا بحد ذاته نفاقا حيث هو نسف كامل لمبادىء الثورة الفرنسية ولمبادىء فرنسا كدولة وكشعب، وينادي هذا الفريق بالتحرك على الأطراف اليسارية والرافضة لهذه السياسة داخل فرنسا من أجل عقلنة قصر الإليزيه، وكذلك عقلنة الرئيس الفرنسي شيراك، وقبل أن تورطها واشنطن وتتركها تغرق معها في المستنقع الكبير، وكذلك قبل أن يقع الفأس في الرأس كما يقولون.
أما (الفريق الثاني) فيرى عكس هذا تماما، حيث يعتقد هذا الفريق إن باريس جاءت كي تعطّل أو تقلّل من جماح واشنطن نحو لبنان وسوريا، وكي لا تعطي سورية ولبنان الى واشنطن بهذه السهولة، وكي تعرف ما يُخطط الى هاتين الدولتين من قبل واشنطن ومجموعة المحافظين الجُدد، وكذلك يعتقد هذا الفريق إن غاية باريس هو إيجاد حيز من الضغط على واشنطن كي تغيّر ببعض مواقف واشنطن ، ومن ثم تدرأ الحرب التي تريدها الأخيرة على دمشق، ولكن هذا الرأي يحتاج الى متابعة وتمحيص ولكن للأسف فالأطراف اللبنانية غارقة في لعبة المصالح والمناصب وتثبيت الولاءات الجديدة على الايقاع الأميركي، ومن هناك الأطراف السورية التي لازال تحركها لا يطابق المخاطر المحدقة بسوريا، أي لازال التحرك حسب الايقاع البطىء، وتحت مبدأ الانتظار والتفحّص وهذه الطريقة لا تلائم الأوضاع المتسارعة الحالية، والتي تريد ايقاعا متسارعا يلاحق كل تهديد وكل معلومة وكل إجتماع من أجل درء الحرب، وكذلك من أجل تعريف العالم أن سوريا مظلومة ولا تستحق كل هذا التهديد.
وبهذه المناسبة ننصح الطرف السوري أن لا يتباطىء في عمليات الإصلاح والتغيير نتيجة التهديدات التي أشرنا لها أعلاه، والتي سترد أدناه أيضا، بل على الطرف السوري زيادة وتيرة الإصلاح وردم الفجوات الداخلية والعمل كخلية واحدة ورفع شعار (الرجل المناسب في المكان المناسب)، وذلك من أجل إنقاذ سوريا وشعبها وبسرعة، وبهذا سيتم سحب البساط من تحت أقدام مجموعة المحافظين الجُدد.
نفاق باريس الى أين؟
نعرف جميعا أن قصر الأليزيه في باريس تعرض أخيرا الى نكبات داخلية متتالية، ومنها مرض الرئيس شيراك الأخير، وصعود نجم منافسه وزير الداخلية الطامح بالرئاسة، ورفض الشعب الفرنسي للدستور الأوربي حسب التصويت الأخير، وتدني شعبية الرئيس شيراك كثيرا، كل هذه الأمور جعلت قصر الأليزيه يفقد توازنه أحيانا، ولهذا أصبح يبحث عن ملفات خارجية على مستوى الدولة، ويبحث عن مساندين على مستوى الرئيس.
ومن هذا المنطلق جاء توقيت باريس الذي مُني بالفشل الذريع عندما قررت أن تجمع المعارضة السورية أخيرا في مؤتمر عام في باريس للضغط على دمشق، ولكسب ود واشنطن والرئيس بوش نحو الرئيس شيراك، وهو نوع من النفاق السياسي، خصوصا وإن الرئيس شيراك يعرف جيدا إن المعارضة السورية في الخارج ضعيفة جدا ومشتتة، ومعظمها لا يؤمن بالتدخل الخارجي، وهذه نقطة لصالح المعارضة السورية وطنيا، ولصالح دمشق الرسمية كي ترتب أوراقها مع هؤلاء.
لقد سعت باريس وبإيعاز من واشنطن لجمع المعارضة السورية في 28/9/2005 والذي كان مقررا منذ 17/آب الماضي من أجل بلورتها تحت إطار معين، كما فعلت مع المعارضة العراقية واشنطن ولندن من قبل، ولكن الحدث لم يكتمل فمنيت باريس بنكبة، وسلمت واشنطن من الفضيحة حيث مسحتها بذقن شيراك الذي يبحث عن دعم واشنطن داخليا.
والقصد من هذا المؤتمر هو للضغط على دمشق التي تتصدى للإتهامات الأميركية والعراقية الباطلة هذه الأيام، والقصد الثاني هو ملاحقة سوريا التي نجحت بإنقاذ جيشها من المحرقة في لبنان، والقصد الثالث هو للضغط على سوريا تزامنا مع وصول لجنة (ميلس) الى سوريا من أجل التحقيق في قضية مقتل الحريري،والقصد الرابع هو للتغطية على حلحلة المواقف المتشنجة من جهة بغداد نحو دمشق حيث خفتت تصريحات المسؤولين العراقيين بعد أن تبينت الحقيقة ومن أكثر من موقع إن سوريا لا تستحق كل هذا التهديد والإفتراء عليها، والقصد الخامس هو لخطف الإنتصار الإعلامي الذي حققته دمشق في الأيام القليلة الماضية حيث نجحت في تبييض صفحتها أمام الشعب العراقي والسوري والعالم إعلاميا، ويبقى القصد الآخير هو السعي لولادة (جلبي سوري) جديد تفرضه على المعارضة السورية مثلما فرضت (الجلبي العراقي) على المعارضة العراقية.
ولهذا إعتقدت واشنطن إن السيد فريد الغادري رئيس حزب الإصلاح هو الجلبي السوري، خصوصا وإن الغادري من الذين طالبوا الرئيس الاميركي جورج بوش في وثيقة وقعتها جماعة (29 سبتمبر) والتي تطالب بغزو سوريا عسكريا، علما إن الغادري لا يختلف عن الجلبي من ناحية علاقته مع الدوائر الأميركية فهو وثيق الصلة بالمحافظين الجدد ووزارة الدفاع البنتاغون، والتي دعمته بالتحرك على العواصم الأوربية وخصوصا باريس ولندن من أجل بلورة قاعدة معارضة لدمشق لتحصل على الدعم المطلوب، والذي حتما سيذهب الى جماعة الغادري مثلما فعل الجلبي العراقي.
ومن هذا المنطلق تحركت باريس لتستضيف مؤتمر المعارضة السورية الذي ولد ميتا (وكان غايته دعم لجنة ميلس التي كانت تزور سوريا والتي خرجت بإنطباع إن سوريا بريئة من دم الحريري)، ولقد وجهت الدعوة الى ( التجمع من أجل سوريا، والحزب الديموقراطي الكردستاني، وحزب الحداثة والديموقراطية، وحزب النهضة الوطني، وتيار المستقبل الكردي، ومراقبة المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية)، ولكن الخلافات عصفت بالمؤتمر وعلى أثرها أعادت بعض الاحزاب التفكير في الاستمرار والمشاركة ومنها (حزب النهضة بزعامة السيد المسلط، وحزب تيار المستقبل، وحزب الحداثة والديموقراطية).
أما الطيف المعارض في الداخل السوري فله رأي آخر حيث يريد ترتيب البيت من الداخل، ويظن إن من يعمل من الخارج لا يستطيع ترتيب البيت بل سيهد البيت على ساكنيه بفعل الدول الكبرى حسب قول الطيف الداخلي والذي يعارض بعض الأمور، كذلك قدم الطيف المعارض في داخل سوريا نقدا لاذعا الى المعارضين السورين في الخارج وتحديدا الذين إختاروا باريس لتكون مقرا للإجتماع، لأن من وجهة نظرهم إن باريس هي التي سعت الى قرار 1559 الذي يريد رأس دمشق، وتدمير سلاح المقاومة اللبنانية والإنفراد بلبنان، حيث أصبحت باريس تستفز السوريين جميعا مثلما إستفزت لندن بغداد كثيرا ولا زالت.
ولكن باريس التي تدعم إجتماع المعارضة السورية والتي تُصعّد بالمواقف ضد دمشق تمارس النفاق إتجاه القضية العراقية، فهي تسعى الى عقد مؤتمر دولي لتفادي تقسيم العراق، فلقد أعلن وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي يوم 25/9/2005 حيث قال (أتمنى عقد مؤتمر دولي مع كل القوى السياسية داخل العراق كي نفكر معا بأن العراق سيظل موحدا ولن يشهد أي تقسيم من هذه الجهة أو تلك) وكان الكلام لراديو جي ( الإذاعة اليهودية لمنطقة باريس) وأضاف (إن المراهنة الآن هي هل سيتم تقسيم العراق أم لا)، ولكن بنفس الوقت تريد باريس أن تكون كلندن في عملية التغيير في سوريا.
علما إن أي عملية تغيير في المنطقة هي حلقة من المشروع الأميركي الذي يريد تفتيت الدول على أسس طائفية وعرقية وإثنية، ولا ندري على ماذا ينافق الوزير الفرنسي أعلاه، فمن جهة العراق يخاف على وحدة العراق، ومن الجهة الأخرى يريد الحرب على دمشق أو حصار دمشق للوصول الى التغيير الذي يصب في عملية التقسيم كما حصل في العراق!