غريب أمر لبنان واللبنانيين الذين يرفضون التعلم من دروس الماضي. غريب كيف يستمرئ «البعض» استعادة الحرب الأهلية التي دمّرت البلاد وشرّدت العباد وهجّرت النعم الاقتصادية.
لقد تابعت كغيري أحداث الأسبوع الماضي. وكان واضحاً أن المواطنين يعيشون أزمة... الكل يشعر بها، لكن ليس الكل قادراً على فهمها، ولا الكل مدركاً أن بلده فيها مجرد «قطعة شطرنج» خاضعة لكرّ وفرّ دولي وإقليمي.
تكتيكياً يوجد تفاهم فرنسي ـ أميركي عبّر عن نفسه في قرار مجلس الأمن الدولي 1559. وتكتيكياً أيضاً لا رغبة أوروبية في تحدي المشروع الأميركي للشرق الاوسط. وتكتيكياً أيضاً وأيضاً ليس من مصلحة واشنطن وحليفاتها الاعتراف امام شعوبها بحقيقة وضع المنطقة، لأن المساءلة ضمن المعطيات الراهنة مكلفة... وبالتالي أسهل لواشنطن والعواصم الحليفة تحمل مزيد من الأكلاف الباهظة أملاً في تحسّن الوضع في المستقبل. ولهذا السبب بالذات تواصل واشنطن ولندن الهروب إلى الأمام نحو توسيع رقعة المواجهة وتعمّد جر إيران وسورية إلى المستنقع ...
كلام رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الاتهامي لإيران و«حزب الله» في الأسبوع الماضي، وهجوم الرئيس جورج بوش ـ المتزامن معه ـ عن إيران وسورية يؤكدان ايمان العاصمتين بإيجابيات حكمة «اشتدي أزمة تنفرجي»...
في المقابل، من السذاجة جداً تصور أن الساحة العراقية خالية من المقاتلين المتعاطفين مع سورية وإيران... وأن حدود البلدين مع العراق مقفلة بإحكام. بل من الغباء المطبق التوهم أن أعداء واشنطن في المنطقة ـ وما أكثرهم ـ غاضبون لغضب واشنطن ومتضايقون لضيقها من تعقيدات الوضع العراقي أمنياً وسياسياً. وعندما يلمٌح مخططو سياسات الرئيس بوش إلى رغبتهم بتغيير نظامي طهران ودمشق يصبح مستحيلاً تصور هذين النظامين وهما ينتظران مكتوفي الأيدي آلة الحرب الأميركية تسرح وتمرح في شوارع مدنهما.
من هذا المنطلق، ينبغي القول إن عند واشنطن أولوياتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط ـ نفطياً وإسرائيلياً وعراقياً ـ ومقارباتها التكتيكية لتحقيقها. وأيضاً للنظامين في طهران ودمشق أولويات استراتيجية، قد تختلف تفصيلياً بين العاصمتين، لكنها تقوم عندهما أساساً على مبدأ «حماية النظام».
وبالتالي، يرى كل من النظامين مصلحة في أن يمارس خارج حدوده خطة «الهجوم الوقائي» انطلاقاً من منطق «الهجوم أفضل وسائل الدفاع»، والتعامل مع واشنطن من واقع «فوضى غير منظمة»... في وجه مشروع «الفوضى المنظمة» التي تريدها واشنطن، فارضةً على خصومها خياراً من اثنين: ضربهم عسكرياً... أو جرهم إلى حرب أهلية.
هنا، نصل إلى لبنان، الذي أضحى مع العراق الحلقتين الأضعف في السلسلة الإقليمية، المشدودة بين مشروع تفتيتي خطير اسمه «الشرق الأوسط الجديد»... وحالة عفونة مرضية تستهين بحقوق الانسان وكرامته على أيدي أنظمة متخلفة وفاسدة لا يجوز أن تستمر.
وهكذا، في ظل تقاطع أولويات العملاق الأميركي المؤدلج صهيونياً وتوراتياً وصليبياً، وأولويات المحور الطهراني ـ الدمشقي بكل تناقضاته البنيوية، على اللبنانيين منذ اليوم رسم «خطوط حمراء» ... دفاعاً عن النفس والوطن.
على اللبنانيين، وسط الشعارات الكبيرة والمناورات والتفجيرات المشبوهة والمزايدات القذرة، التفاهم على خمسة أمور ممنوع الانزلاق باتجاهها، هي:
- ممنوع الاستسلام لطموحات المزايدين طائفياً، من مستغلي الاتجاه الفئوي الفاقع لمسلسل التفجيرات، خدمةً لغاياتهم الخاصة... والغايات التكتيكية للقوى التي تحرّكهم.
- ممنوع جعل الاستقرار السياسي والأمني ثمناً يُدفع لأي طرف إقليمي أو دولي.
- ممنوع التستر على أي جهة تعبث بالأمن في البلاد... كائنة ما كانت الجهة أو المبررات.
- ممنوع التشكيك بضرورة كشف من يقف وراء مسلسل الجرائم المتمادية وعلى رأسها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وفي المقابل رفض جعل معاقبة المجرم ذريعةً لتجريم ولاء قومي ولإدانة ثقافة سياسية ووطنية.
- ممنوع توريط الشعب الفلسطيني والمتاجرة بدمه، وفضح من يتعمد جعل سلاح مخيمات الفلسطينيين في لبنان أداة مساومة رخيصة، بحيث يضحى بهم في صفقات تأتي في إطار ترتيبات ...لمكافأة عملاء أو لإنقاذ أنظمة.
إن أي تلكؤ عن، أو تقاعس في فهم أهمية هذه الممنوعات سيعيد لبنان إلى الانتحار.
والمؤسف هذه المرة إذا فعل، فإنه سينتحر حقاً من أجل... تكتيكات الآخرين.