يبدو أن كل مراقب سيصل إلى خلاصة مفادها أن مستقبل غزة سيحدد، بدرجة كبيرة جداً، مستقبل الشرق الأوسط كله، فيما لو سيطر على القطاع، لا سمح الله، الحركات الجهادية وتحولت الى مبعوث لايران، حيث ان النتيجة ستكون المعاناة وسفك الدماء للجميع: للاسرائيليين وللغزيين على حد سواء، ذلك ان اسرائيل، وهي محقة في ذلك، لن تطيق عمليات القصف أو التسلل من غزة. فتطبيق النموذج الايراني في غزة سيمس ايضا بالمصريين الذين يكافحون ضد الجهاديين. كما ان اوروبا ستعاني من مثل هذه التطورات التي ستؤدي بالضرورة إلى الفرار المتزايد من نظام العنف وإلى محاولات هجرة كبيرة من جحيم حماس إلى جنة عدن الأوروبية.
ولكن حتى اذا سيطرت العقلانية في غزة والرغبة في العيش بجانب اسرائيل، واذا انتصر المنطق أخيراً، فان مشاكل غزة الفقيرة والمزدحمة ستشكل تهديدا وستكون غير قابلة للحل تقريبا. عندئذ ستنشأ امام السلطة الفلسطينية واسرائيل ثلاثة حلول محتملة.
الحل الأول هو تحويل غزة إلى حالة اجتماعية محتاجة للعون الدولي. هذا الحل ليس واقعيا. صحيح ان المساعدة الدولية يجب ان تعطى لغزة من اجل ترميم دمار الحرب وتوفير الحد الأدنى من الخدمات للسكان البائسين. لكن ليس هناك اي احتمال الى ان تؤدي المعونة الدولية لتوفير مصدر رزق لأكثر من مليون عربي في القطاع. ليست هناك سابقة ايضا لمثل هذه المساعدة. حتى الدول المتعرضة التي تضربها المجاعة في افريقيا تكون المعونة جزئية وهشة.
الحل الثاني هو ايجاد مصدر رزق لسكان القطاع من خلال العمل في اسرائيل. هذا حل سريع ومتوفر شريطة ان يسود الهدوء الأمني. على المدى القصير هذا الحل يخفف من الضائقة، الا انه حل سيء، فهو يجعل الفلسطينيين والاسرائيليين يلتقون في ظروف من اللامساواة المتطرفة: الاسرائيليون هم ارباب العمل والفلسطينيون هم العمال وذوي المرتبة المتدنية.
في برنامج بث في الـ بي.بي.سي تحدث المراسل عن ان اشد تحريض ضد الاسرائيليين بعد فك الارتباط صدر عن اولئك الذين عملوا في اسرائيل لسنوات طويلة: الغزاوي الذي عمل في اسرائيل عشرين عاما كان اكبر الشاتمين والمهاجمين، ليس فقط لاسرائيل تحديدا وانما للاسرائيليين انفسهم الذين وصفهم بأنهم غير انسانيين. العمل المأجور في اسرائيل هو بالفعل وصفة لتعميق الكراهية.
الحل الثالث هو ان تكون غزة اقتصادا مساعدا ومكملا للاقتصاد الاسرائيلي والمصري ايضا، امتيازات مثل هذا الاقتصاد بالنسبة لاسرائيل واضحة: بسبب فروقات الاجر يمكن ان تكون غزة مقاولات ثانويا للصناعات الاسرائيلية. يمكن لغزة ان تقترح في ظروف الهدوء الامني وتغييرالاجواء، خدمات كثيرة للاسرائيليين: السياحة على الشواطئ ومطارا من دون مشاكل العبور، ومعامل وورش وحتى ـ في المستقبل الأبعد ـ خدمات الزواج المدني كبديل لقبرص. بمساعدة المياه المحلاة يمكن للغزيين ان يساعدوا مصر في استيطان شمالي سيناء زراعيا وذلك على افتراض ان مصر ستدرك الاهمية البالغة لحل مشاكل القطاع بالنسبة لها ايضاً.
هذه في الواقع العملية التي من خلالها تعززت دول اوروبا الفقيرة اقتصاديا: ليس من خلال المعونة ولا من خلال العمل المأجور وانما من خلال التكامل الاقتصادي والانتاجي الذي يكمل القوى الاقتصاديات الثرية. بهذه الطريقة اغتنوا في ايرلندا والبرتغال واسبانيا. لا حاجة للمساعدة الدولية من اجل هذه المهمة، وهي ستحدث من تلقاء نفسها اذا ساعد الهدوء واذا انتصر العقل والمنطق على جنون الكراهية لاسرائيل.