ما كان مقدراً لمحاكمة صدام حسين أن تتم في هذه الشروط. كانت التقديرات تقول إن العراق المعافى، بفضل الاحتلال، سينظر من واقعه الزاهر إلى ماضيه الدموي من أجل أن يعزز التوجه نحو مستقبل مشرق له وللمنطقة.
كان يُراد للمحاكمة أن تكون فحص ضمير جماعي ينفض في خلاله العراق آثام العقود السابقة ويتعلم، في مدرسة دولة القانون، كيف يعانق العصر الديموقراطي. كان متوقعاً إبعاد الثأر عن قوس المحكمة من أجل أن تحتل العدالة المساحة كلها ومن أجل أن يمتلك العراقيون، أخيراً، الدليل الدامغ على أنهم أحسنوا صنيعاً عندما هلّلوا لسقوط بغداد وأعلنوا اليوم يوم عيد وطني.
إلى ذلك كانت النية متجهة إلى أن يلقي العراقيون نظرة الوداع الأخيرة، وبالبث المباشر، على عروبة البلد المقترنة بالإجرام، وعلى وحدة الدولة المتداخلة مع قمع الأقليات، وعلى ما بدا ذات مرة أنه تجرّؤ على معاندة الأسياد.
كانت شروط نجاح المحاكمة موجودة خارجها. وهي شروط مطالبة بتحويلها إلى نموذج يدغدغ أحلام الشعوب العربية المكبوتة بحيث ينظر المواطن العادي، في أي قطر، إلى الماثلين في القفص محاولاً نزع وجوههم ووضع وجوه جديدة بدلاً عنها أكثر <<ألفة>> إليه.
كان يجب أن يكون الاحتلال ناجحاً حتى تأخذ المحاكمة معناها. والاحتلال الناجح، بهذا المعنى، هو الآيل إلى زوال مخلفاً وراءه بلداً استعاد كرامته وحريته، ومؤسسات عاملة، وخدمات مؤمنة، وسلطات تمثيلية، وقضاء نزيها ومستقلا.
غير أن هذا الحدث الذي كان يُراد له أن يكون تاريخياً فَقَدَ الكثير من بريقه. الاحتلال متعثر. الجرائم التي يرتكبها كثيرة. أبو غريب حاضر كرجع صدى لغوانتانامو. مبررات الحرب مفقودة. الخدمات غائبة. روائح الفساد تزكم الأنوف. أصدقاء <<الأجنبي>> عاجزون عن خلع رداء العمالة. المحكمة نفسها معروفة الإنتاج والإخراج والتمويل. وحتى لائحة الاتهام ناقصة. باختصار إن ماضي سنتين ونصف سنة من الغزو لا يسمح كثيراً بالإطلالة على عقود القمع إذا كان المطلوب إظهار التناقض الصارخ بين مرحلتين. لم تحدث الثورة الشاملة المرجوة لذا يلوح شبح المحاكمات الانقلابية وراء المحاكمة الحالية. والعراق خبير بهذا الصنف.
ثم إن موعد المحاكمة لم يخدمها. تحصل بعد استفتاء على الدستور الدائم يجري تصويره، من دون إقناع الكثيرين، أنه كان عرساً للديموقراطية. الواقع غير ذلك تماماً. عندما تنشق مكوّنات بلد ما فتقترع واحدة بأكثرية ساحقة في هذا الاتجاه وواحدة بأكثرية ساحقة في الاتجاه المعاكس فهذا يعني أن الوضع ليس على ما يرام. وعندما يترافق مع هذا الانشطار عنف دموي أهلي حتى لو تقنّع بثياب رسمية أو كان موجهاً ضدها فهذا يعني أن الوضع خطير.
الديناميات العراقية ديناميات تنابذ. الدستور جزء من هذه العملية وليس رداً عليها. شهدنا مثالاً على ذلك في <<اتفاق الطائف>> اللبناني الذي، وإن أوقف الحرب الأهلية الحارة، فإنه، في التطبيق والممارسة، احتفظ بعناصر التباعد التي عادت لتفعل.
فكيف يكون الأمر في دستور عراقي تحولت صياغته إلى سلسلة من المواجهات وتحوّل الاستفتاء عليه إلى محطة من محطات تثبيت الانقسام في البلد.
لقد سعّرت معركة الدستور العواطف والغرائز. كذلك فعلت قبلها الانتخابات. والبلاد متجهة نحو المزيد من التوتر بفعل الانتخابات بعد شهرين. وخطوط الانقسام تعانق الانتماءات المتنوعة وإن كانت تخترقها أحياناً وعند هوامشها. لذا يستحيل أن يمكن إخراج المحاكمة من هذا الإطار الذي يعطيها معناها، أو، على الأقل، يساهم كثيراً في ذلك. يتحوّل الفعل القضائي، هنا، إلى أداة من أدوات التخندق بحيث يمكن له أن ينتج عكس المقصود منه فيحصل تماهٍ بين شريحة شعبية واسعة وبين المتهمين.
لقد كانت محاكمة صدام واجبة. إلا أن المجال مفتوح لتحويلها إلى فرصة ضائعة تفقد معها طابعها العلاجي وقدرتها على الانخراط في وعي جديد وهوية ديموقراطية جديدة. ولم يكن ممكناً لهذه المحاكمة أن تؤدي وظيفتها إلا على قاعدة توافر الحد الأدنى من التوافقات الوطنية مع ما يعنيه ذلك من حركتين: حركة تأخذ مسافة لازمة عن الاحتلال وحركة تأخذ مسافة لازمة عن العنف الدموي والعبثي.
إن إطالة أمد الجلوس في حضن الاحتلال، والضرب بسيفه، يستولدان تجذراً مقابلاً مفتوحاً على تصديع ما تبقى من نسيج وطني. والأجواء الناجمة عن ذلك تجعل استحضار الماضي، عبر المحاكمة، سلاحاً في معركة داخلية وتأسيساً لما يبدو واضحاً أنه مشروع غلبة. إن في الأمر نوعاً من الإهانة للضحايا.