تقول أوساط نيابية لا تنتمي الى الاكثرية ان المراهنين على هزّة سياسية عنيفة يحدثها تقرير ديتليف ميليس مخطئون، ولو ان نتائج التقرير تحمل معطيات مهمة وخيوطاً أساسية حول جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وتشير الى ان المؤشرات على هذا الواقع تتمثل بتحول بعض جوانب المشهد السياسي لصالح الفريق «المشكك»، اذا جاز التعبير، بتماسك تقرير ميليس وقوة الادلة والقرائن فيه. فسوريا التي تتعرض لضغط كبير على خلفية التحقيق الدولي والقرار 1559، عمدت في الفترة الاخيرة الى رفع وتيرة تحديها للمراهنين على التقرير بهدف ادانتها او ارباكها، فضلاً عن ان انتحار اللواء غازي كنعان لم يؤثر على موقفها بقدر ما اثر على انتظارات هؤلاء المراهنين لبروز ثغرات معينة في الموقف السوري.
اما على الصعيد المحلي، فإن رئيس الجمهورية العماد اميل لحود تمكن من استيعاب الحملات العديدة التي استهدفته وبدا ان توقيف رموز اعتُبرت دائماً قريبة منه لم يدفعه الى الارتباك، ولو ان انزعاجاً معيناً طغى على قصر بعبدا، لكنه انزعاج تراجع في شكل ملحوظ اخيراً. فالحملات بحسب الاوساط لم تخرج عن الطابع السياسي البحت ولم تستند الى أي بيِّنات فعلية توحي بمسؤولية معينة لرئيس الجمهورية في موضوع التحقيق الدولي حتى اشتباهاً. كما ان الكلام على رئاسة الجمهورية من باب تغيير محتمل وقريب فيها تراجع بدوره، اقله حتى اشعار آخر. فصحيح ان حركة الزوار من وزراء ونواب وسياسيين بارزين متراجع في شكل واضح الى قصر بعبدا. كما حركة الدبلوماسيين الكبار، لكن الصحيح ايضاً ان رئيس الحكومة والحكومة لم يتمكنا من تجاوز موقع الرئاسة المحصّن دستورياً.
والواقع كما ترى الأوساط نفسها ان فريق الاكثرية وجد نفسه اخيراً في حالة لا تخلو من ارباك. ما انسحب على توجهات الرئيس فؤاد السنيورة. فالنائب وليد جنبلاط ادرك حدود اللعبة باكراً فنأى بنفسه نسبياً عن كتلة تيار المستقبل، وعاد في بعض نواحي خطابه السياسي الى ما قبل لقاء البريستول، متحدثاً عن مستلزمات العروبة ومؤكداً على علاقة شبه تحالفية مع حزب الله، وداعياً الى تفهم الواقع الفلسطيني، بما يوحي بأنه مع احتفاظ المخيمات بسلاحها. وعلى خط آخر، فضّل النائب سعد الحريري البقاء في الخارج وطال غيابه الامر الذي ترك فراغاً واضحاً مادياً ومعنوياً في صفوف الاكثرية، وقلّل من مستوى الثقة الذاتية لديها. وما زاد في ضبابية الموقف لدى هذه الأكثرية، ان عامل السلام الفلسطيني خارج المخيمات فرض تحدياً جديداً وكبيراً لم يكن بالحسبان، فإذ بالتفاوض يتم على هذا السلاح بدل أن يكون على سلاح المخيمات نفسها، الأمر الذي جرّ الحكومة الى متاهة اضافية، في وقت لم يُبدِ حزب الله أي ليونة نوعية في موضوع سلاحه ولو ان ثمة جس نبض ومحاولات لمدّ جسور حوار غير مباشر وغير رسمي، وهو ما أثار رئيس الحكومة في باريس، مع ان حزب الله يضع نفسه منذ اليوم امام كل الاحتمالات.
ولعل الموقف المسيحي الذي بدأ يتناغم اكثر فأكثر ساهم في دفع الحكومة الى التعامل بمزيد من الواقعية مع الأمور، ويساهم في دفع تيار المستقبل الى تخفيف وتيرة الاندفاع «التغييري»، والاعتراف بالتالي بضرورة الأخذ والرد والابتعاد عن منطق الاكثرية والأقلية لصالح المنطق التوافقي. فالعماد ميشال عون أثبت، على رغم الحجم المحدود لكتلته في التأثير على مستوى التشريع والمراقبة، أنه قادر على جرّ الحكومة الى أماكن لا تريدها والى الدفاع عن مواقفها وتبريرها. لكن اللافت دخول قائد القوات اللبنانية على الخط في كلامه الأخير على ضرورة التزام السلطة الجديدة، أي بمعنى آخر الأكثرية، بقواعد التوازن الوطني في الخيارات الأساسية، على غرار موضوع رئاسة الجمهورية، الأمر الذي اعطى للموقف المسيحي بعداً جديداً.
وفي المقابل، يرى نائب ينتمي الى الأكثرية ان موقف الدكتور جعجع لا يخرج عن السياق العام لتوجهاته التي عبّر عنها منذ خطابه الشهير في المطار بعيد خروجه من السجن، لكنه بات أكثر وضوحاً في تسمية بعض الأمور بأسمائها، وفي التنبيه الى ان تواجد القوات اللبنانية والقريبين منها في الاكثرية، لا يعني انمحاء الصوت المسيحي، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقضايا وقرارات تتعلق بالموقع السياسي للمسيحيين على المستوى الرسمي. وهو ما ينطبق على رئاسة الجمهورية. اذ لا يمكن ترك الشيعة يختارون رئيس المجلس وللسنّة اختيار رئيس الحكومة، فيما يكون الصوت المسيحي في اختيار رئيس الجمهورية ضعيفاً وغير حاسم. ومن هنا يمكن فهم التنسيق القائم بين القوات والعماد عون، من دون أن يعني ذلك أبداً الابتعاد عن تحالف الاكثرية التي أكّد الدكتور جعجع التزامه الثابت بها. وقد لفت في اطلالته الأولى في المطار الى انه تحقق الكثير لدى تحالف المعارضة كما كان يسمى، لكن هناك امور تبقى بحاجة الى رعاية ومعالجة بانفتاح وتفهم. وفي كل الاحوال الاسابيع القليلة المقبلة كفيلة بتوضيح الكثير من الامور في هذا الاطار.