ليس أصعب من ان يعرف المرء ماذا يدور في رأس شخص قرر الانتحار وذلك قبل لحظات من الإقدام على ذلك. ولا يمكن القول ان فعل الانتحار نفسه هو دليل على ذروة القوة أو ذروة الضعف.
يمكن إيراد هاتين الملاحظتين في حالات الانتحار العادية. أما عندما يكون المنتحر رجلا مثل غازي كنعان، وأما أن يحصل ذلك في هذه اللحظة المصيرية التي يمر بها لبنان وسوريا، وأما أن يختفي الرجل الذي لعب دورا مفصليا في حياة البلدين على امتداد عقدين من الزمن، فان في ذلك ما يحول الأسئلة الحارة إلى أسئلة ملتهبة.
غازي كنعان هو، بحق، صاحب أكثر اللمسات وضوحا على الوضع اللبناني بدءا من عام 1982 وصولا إلى 2002. ويكفي أن يستعرض المرء هذه الحقبة بتقلباتها، وتحولاتها، سواء في لبنان أو سوريا أو المنطقة أو العالم، ليجد ظله في المحطات الأبرز التي عاشتها بلاد الأرز قبل ثورة الأرز.
إلا انه في الإمكان تقسيم هذه المرحلة إلى ما قبل 1990 وما بعد 1990. في القسم الأول كان كنعان لاعبا أساسيا أعاد النفوذ السوري إلى لبنان تدريجيا، ماحيا بذلك الشق السوري الخاص بآثار الغزو الإسرائيلي في صيف82.
أما في القسم الثاني فكان كنعان اللاعب الأساسي في تقرير المصائر اللبنانية.
فبعد الانقلاب الذي شهده العالم، وبعد المشاركة السورية في حرب تحرير الكويت، وبعد «اتفاق الطائف» وإنهاء الحالة العونية، تحولت سوريا الى الدولة المقررة في الشؤون اللبنانية كبيرها وصغيرها.
وإذا كان الرئيس حافظ الأسد هو صاحب الخيارات التي أعطت دمشق هذا الدور، وإذا كان محاطا بفريق عمل ساعده على هذه التوجهات، فان غازي كنعان كان الرجل الذي تولى التنفيذ اليومي، والخطوات العملانية، لبناء نظام لبناني شديد الالتصاق بـ «الشقيقة الأكبر».
بكلام آخر، ان كنعان كان الضابط المسؤول عن «درة التاج» في السياسة السورية وعن الانجاز الأبرز لها والذي جعل منها لاعبا إقليميا له كلمته المسموعة وله تأثيره على مسار الأحداث في الشرق الأوسط. ويمكن القول، بهذا المعنى، ان قليلين جدا من ضباط الأمن، خصوصا العاملين منهم خارج بلدانهم، يستطيعون الادعاء بأنهم خدموا نظامهم إلى هذا الحد.
إن التركيبة اللبنانية التي اشرف كنعان على بنائها كانت هجينة، لم تكن استمرارا وتطويرا للبنان القديم، ولم تكن انعكاسا دقيقا لأوضاع النظام السوري، كانت خليطا من الأمرين بحيث أنها راعت بعض تقاليد العمل السياسي في لبنان لما قبل الحرب، ودمرت تقاليد أخرى، وطوّعت ما تريد تطويعه لتشذيبه وجعله «قادرا» على الالتحاق ببلد ذي تقاليد مخالفة.
ربما نقع هنا على واحدة من ابرز مفارقات العلاقة الخاصة التي قامت بين سوريا ولبنان في العقود الأخيرة.
ليس صحيحا، على الإطلاق، أن دمشق كانت تحاول ضم لبنان وفرض الوحدة عليه فرضا. فحكامها تخلوا عن هذا « الوهم الوحدوي» منذ زمن وكانوا يدركون استحالته. وليس صحيحا، طبعا، أن سوريا حاولت فرض نظامها حرفيا على لبنان. أما ما حصل فعلا هو اغرب من ذلك.
نحن هنا، أمام حالة قد تشكل سابقة تاريخية. ثمة بلد أرسل جيشا إلى بلد جار ومارس نفوذا استثنائيا فيه، وتحكم بتفاصيل حياته السياسية والاقتصادية والإدارية، وشكل مرجعا لكل أمر مهم يحصل فيه. وكان له الدور الحاسم في اختيار الحكام، وفي وضع قوانين الانتخاب، وفي العزل أو السجن للخصوم، وفي انتصار الحلفاء وترقيتهم، وفي الاستفادة الاقتصادية، وفي توحيد الدبلوماسيتين تحت اسم «وحدة المسارين»، وفي... ومع ذلك فانه فعل ما فعله مدركا ان البلد المستتبع يعيش في نظام مختلف وان لا نية في فرض نموذج الدولة الغالبة على الدولة المغلوبة.
عندما حكم غازي كنعان لبنان لم يسلك ولا مرة سلوك من يريد الإيحاء بأن سوريا هي مستقبل البلد المحكوم. أي أننا لم نكن أمام حالة «استعمارية» تقليدية يقول فيها المستعمر للمستعمَر «إننا النموذج»، أي «أنا املك رسالة تمدينية أريد تعميمها، واملك قيما أريد فرضها، وسأحاول أن أجعلك مثلي».
لقد سمحت هذه الحالة، لأحد الزملاء الصحافيين، أن يشتق مصطلحا يقول «إن الرئيس حافظ الأسد يريد نظامين متباينين» وكان يمكنه أن يضيف من غير أن يسعى إلى أي تطابق بينهما». وهكذا يمكن النظر إلى تجربة غازي كنعان في لبنان، وحصيلتها ماثلة حتى الآن أمام أعين الجميع، بصفتها حالة تستوجب الدراسة حيث أمكن لضابط امن منتدب من قبل نظام شمولي أن يدير نظاما شبه ديمقراطي.
لا مبالغة في القول إن غياب كنعان يساوي غياب المرجع الأرشيفي الأول لعقدين لبنانيين حافلين. كما لا مبالغة في القول إن غياب كنعان يعني انكسار المرآة التي أعادت للبنان صورته: لبنان الطوائف المتناحرة، والزعامات الساعية إلى مواقع، ورجال الأعمال الباحثون عن صفقات بأي ثمن، وكبار موظفي الدولة الخنوعين، والإعلاميين المطواعين، الخ... لو لم يكن لبنان، الخارج من الحرب، على هذا الشكل، ولو لم يكن في وضعية استدراج تدخل وحَكَم خارجيين، لم يكن ممكنا لغازي كنعان أن يملأ الفراغ الذي ملأه.