منذ منتصف ليل أمس الاول بقيت حريصا على متابعة كل ما تتطوّع وتتكرم به على المشاهدين الفضائيات الناطقة بالعربية، التي تعمل غالبيتها الساحقة، باشراف وتوجيه مليشيات المارينز الاعلامية!.
وكان هدف المتابعة، معرفة اكثر ما يمكن مما اورده المحقق الالماني ميليس في تقريره المنتظر المتعلق بالتحقيق في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري.
وفي الحقيقة.. كنت افهم، مثل غيري من المتابعين والمراقبين السياسيين، لو ان هذه الفضائيات اتخذت موقف الانحياز لطرف دون آخر أو.. لوجهة نظر دون اخرى من الاطراف أو وجهات النظر في الموضوع المطروح بعد ان تكون قد مارست نوعا من الذكاء في عرض وجهات النظر المختلفة، بحيث تتيح للمتلقي، وهو هنا المشاهد ان يصدّق ويبتلع ما تريد الشاشة الصغيرة، ومن يقفون خلف هذه الشاشة، أن يوحوا له به، وهذا أمر يعرف كل ذي علم، ولو سطحيا بعلم الاعلام أنه متعذر الحصول عليه اذا لم تقترن طريقة عرض الموضوع بشيء من الصدق والموضوعية!.
لسنا الان في وارد الشرح والبحث في عوامل النجاح او الفشل في ما يسمى »الحرب النفسية« ولكن انفجار هذه الهبّة الاعلامية التي تزامنت مع صدور تقرير ميليس الذي لم ينجح صاحبه في الابتعاد به عن فخّ التسييس بحيث بدا وكأنه يريد ان يعطي الانطباع بصحة اتهامات لا تستند الى أي ادلة قاطعة، نقول.. انفجار هذه الهبّة، وبالصورة التي طلعت بها، لم تجعلني أعزّز من شكوكي العميقة الشديدة حول القاضي ميليس وتاريخه وارتباطاته الاستخبارية المعروفة فحسب، وانما دفعني ايضا الى الشك والتشكيك بمقدار الذكاء الذي يُفترض ان يتمتع به القائمون والمشرفون على هذه الفضائيات الناطقة بالعربية!!. اذ.. ما هو وضع هذه الفضائيات عندما تصرّ من خلال الاخبار والتعليقات وشهود الزور ممن امتهنوا (بزنس) المعارضة، على تجاهل الصدق والتنكر لكل اشكال الموضوعية، حتى في حدودهما الدنيا اللازمة لتمرير الاكاذيب، والاستعاضة عن كل ذلك، بالاقتصار على عمليات الاختلاق والتحوير والكذب الصريح؟!!
مثال بسيط ـ يقول الدكتور فواز الجرجس الاستاذ في جامعة نيويورك، في رده على مذيعة ..ج التي سألته عن النتائج المتوقعة لثبوت تهمة الاغتيال على المسؤولين اللبنانيين والسوريين: ان تقرير ميليس وهو بين يديّ الان، لم يقطع بثبوت أي تهمة ولا أي دليل فالتقرير يقول حرفيا: ».. لا املك أي دليل قطعي، ولكن هناك احتمالا بمثل هذا التعاون والاشتراك بين الأجهزة الامنية اللبنانية والسورية«!
ومع ذلك.. ومع ان تقرير ميليس حافل بالعبارات والاستنتاجات القائمة على الظن والترجيح والشك الا ان ميليشيات المارينز الاعلامية المزروعة في شتى وسائل الاعلام الناطقة بالعربية، خاصة في الفضائيات، ظلت حريصة على تثبيت وتعميق الاتهام، دون اي التفات الى تحفظات ميليس نفسه!!.
وبالمناسبة.. فان التنبؤ بما طلع به ميليس في تحقيقه، لم يكن بعيدا عن تصورات المراقبين المتابعين، خاصة... بعد الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الاميركية الى بيت الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان الذي صرح قبل يوم من زيارة الوزيرة الاميركية بأنه لن يسمح بتسييس التحقيق مثلما لن يوافق على تمديد العمل للجنة التحقيق التي طالب بها يتامى الحريري في بيروت بعد انكشاف أمر شاهد الزور النصاب في زهير الصديق، الا بعد قراءة التقرير. كوفي عنان بعد زيارة الوزيرة انقلب موقفه كليا!.
واذا أضفنا الى ذلك تصريحات وزيرة الخارجية الاميركية في لجنة الخارجية في الكونغرس قبل ايام، حين اعترفت بأن الولايات المتحدة في سياق تكثيف ضغوطها على سورية.
أدركنا عندئذ ان من شروط ممارسة الضغوط، ان يكون هناك مبررات. وفي هذا المقام، يعتبر تحقيق ميليس بما فيه من ايحاءات واتهامات مبطنة ضد سورية، مبررا جيدا وذريعة معقولة للتدخل الاميركي!!.
والغريب اللافت ان وسائل الاعلام العربية قد تجاهلت التحذير الذي اطلقه أكثر من مرة السيد سعيد دودين الذي يملك مركز دراسات في برلين، حين نبه وحذر من القبول العربي والدولي بتعيين المحامي ديتليف ميليس لهذه المهمة، وهو المعروف بارتباطاته الاستخبارية مع المخابرات المركزية الاميركية!!.
تقرير ميليس لا يخلو من الخطورة ليس لانه يعترف بعدم وجود ادلة، ولا حقائق مؤكدة، ولكن لانه دليل صارخ ساطع على البلطجة الدولية، من جانب والسقوط المدوي للنظام العربي، من جانب آخر!!.