لايوجد كثير من المفاجآت في التقرير الذي رفعه ديتليف ميليس إلى كوفي عنان بشأن نتائج تحقيقاته في حادث اغتيال رفيق الحريري. أغلب المعلومات سبق أن نشرت، ربما باستثناء عدم الإشارة إلى دور ما لجماعة الأحباش. بل ذكرت التقارير أن ميليس لم يتوصل لأدلة كافية لإدانة سوريا وإميل لحود رئيس لبنان، ولهذا تحديدا طالب فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان تمديد فترة عمل لجنة ميليس أملاً أن تصل إلى أدلة قطعية، لا مجرد اشارات وقرائن غير قطعية. ميليس نفسه أكد في تقريره أمرين:
الأول: الحاجة إلى متابعة التحقيقات للوصول إلى النتائج النهائية.
الثاني: "أن جميع الأشخاص، بمن فيهم اولئك الذين اتهموا بجرائم يجب أن يعتبروا أبرياء إلى أن تثبت ادانتهم في محاكمة عادلة".
لا ندري إن كانت الترجمة العربية التي نشرت لنص التقرير دقيقة بما فيه الكفاية أم لا، وتحديدا فيما يتعلق بالفقرة السابقة، لأن هناك فرقا كبيرا بين أن يقول التقرير "إن جميع الأشخاص، بمن فيهم اولئك الذين اتهموا بجرائم يجب أن يعتبروا أبرياء إلى أن تثبت ادانتهم في محاكمة عادلة"، وبين قوله "إلا في حالة ثبوت ادانتهم في محاكمة عادلة".
النص الأول يعني حتمية ادانتهم، بينما النص الثاني لا يحتم الإدانة!
إلى ذلك أثار التقرير عددا من الأسئلة تشي بوجود ثغرات لم ينكر ميليس وجودها أساسا، وعدد آخر من الأسئلة تتعلق بالقلق المشروع الذي يثيره التقرير حول مستقبل المنطقة.
لعل التساؤل الأول يطرح نفسه في عداد النوع الأول من الأسئلة:
لماذا شطب ميليس أسماء عدد من كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين السوريين من تقريره في اللحظات الأخيرة؟
ميليس نفسه أجاب على هذا السؤال في مؤتمر صحفي قصره على الإجابة على هذا السؤال بالقول إنه فعل ذلك بعد أن علم أن تقريره سيكون في متناول وسائل الإعلام، وأبدى ميليس حرصا على أن ينفي حدوث عملية الحذف بطلب من سكرتير عام الأمم المتحدة، وعلى تأكيد أن لجنته صاغت تقريرها دون تدخل أي كان من خارج اللجنة.
لكن رئيس لجنة التحقيق أخفق في الإجابة على السؤال المنطقي الآخر المتعلق بأسباب عدم شطبه أسماء أخرى وردت في التقرير، ما دام لا يريد للإعلام أن يتداول أسماء المشتبه بهم؟
ميليس امتنع عن الإجابة على هذا السؤال وأسئلة أخرى عديدة مماثلة له.
حين لا تكون الإجابة مقنعة، يفترض في المحلل أن يلجأ إلى وضع عدة خيارات، يمكن أن تتمثل في:
الأول: ضرورة عدم نشر ما قد يدعو مشتبها بهم إلى الاختفاء.
الثاني: وجود امكانية للتوصل إلى صفقة بين جهة ما، يفترض أنها الولايات المتحدة وسوريا، وهذا يتعارض مع نشر مسبق لأسماء مشتبه بأصحابها.
الثالث: أن كوفي عنان السكرتير العام للأمم المتحدة هو الذي طلب شطب هذه الأسماء، لعدم استفزاز سوريا ودفعها لعدم التعاون في المرحلة المقبلة من التحقيق.
الرابع: عدم وجود أدلة أو قرائن قوية بحق الأشخاص الذين شطبت اسماؤهم، مما يعطيهم الحق للارتداد بدعاوى تشهير على ميليس ولجنته ومطالبتهم بتعويضات مالية.
وهكذا.. في هذا السياق يمكن أن يطرح السؤال الثاني: لماذا لم يشطب ميليس اسم أحمد جبريل أمين عام الجبهة الشعبية/القيادة العامة، الذي لم يذكر التقرير أية معلومات بشأن أي دور له أو لجبهته في ارتكاب جريمة اغتيال الحريري. فكل ما ذكره التقرير في فقرته رقم 101 هو إن "اللواء جميل السيد كان على اتصال دائم بكل من مصطفى حمدان (قائد لواء الحرس الجمهوري اللبناني)، والعميد ريمون عازار (قائد الاستخبارات العسكرية اللبنانية) للتحضير للاغتيال، وخصوصا مع رستم غزالة (ومع السيد أحمد جبريل في لبنان).. الخ..".
وفي فقراته اللاحقة يفصّل التقرير بعض المعلومات بشأن الأسباب التي تجعل ميليس ولجنته يشتبهون بتورط المذكورين. فهناك شهادات بحقهم، أو أقدموا على تضليل التحقيق من خلال افادات كاذبة، أو تغيير معالم مسرح الجريمة، أو صدور اتصالات تثير الريبة من ارقام هواتفهم، أو تلقيهم مثل هذه الاتصالات.. إلا أحمد جبريل، إذ لم يعد التقرير إلى ذكره مطلقا، ولم ينسب له فعل أي شيء، سوى أن جميل السيد كان على اتصال دائم معه.
هذه الإشارة غير المدعومة بأية معلومة أو قرينة جعلت جبريل لا يكتفي بالنفي، وإنما ابداء الاستعداد للمثول هو وأي من قادة وكوادر وأعضاء جبهته أمام التحقيق. وفي ضوء ذلك، يتوجب اعادة صياغة السؤال ليصبح: لماذا وضع اسم أحمد جبريل في التقرير؟
إذا حسنت النوايا يمكن القول إن ميليس تلقى معلومة غير ذات بال، بحيث إنه أهمل ايرادها في تقريره.
وإذا لم تحسن النوايا يمكن القول إن اقحام اسم جبريل هدفه تبرير خطوة لبنانية عملية وحدية تقضي بإغلاق قواعد جبهة جبريل في لبنان.
أي أن تقرير ميليس أراد أن يقدم ذرائع لحكومة فؤاد السنيورة كي تواصل اجراءاتها الساعية إلى اغلاق قواعد الفصائل الفلسطينية، ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وإن استدعى الأمر اللجوء للقوة.
السنيورة سبق له أن نفى اطلاعه على مجريات التحقيقات التي كان يجريها ميليس ولجنته، لكن تقرير ميليس يؤكد الآن أن السنيورة كان يوضع في صورة التحقيقات أولا بأول. وفي ضوء ذلك يصعب تصور عدم وجود علاقة بين ايراد اسم أحمد جبريل في تقرير ميليس، والإجراءات العسكرية التي اتخذها السنيورة وقضت بتطويق قاعدتين للجبهة الشعبية/القيادة العامة خلال الأيام القليلة الماضية، هما كل قواعد الجبهة في لبنان.
ثم إنه لأمر لافت أن يضع التقرير الكلمات المتعلقة بجبريل بين أقواس كبيرة، وأن يقول (ومع السيد أحمد جبريل في لبنان)، مع أن القاصي والداني يعرف أن أحمد جبريل يقيم في دمشق، لا في لبنان. هل قدم الإسم لميليس فأضافه للتقرير، وأضاف إليه من قبيل الاجتهاد الخاطئ (في لبنان)؟!
حين تكون دوافع أي جريمة سياسية، فمن الطبيعي أن يبدأ التقرير بإيراد مداخلة سياسية تحوصلت في تقرير ميليس حول صدور تهديد عن الرئيس السوري بشار الأسد للحريري في آخر لقاء جمعهما مفاده إنه سيكسر رأس لبنان ورأسه إن لم يوافق على تمديد ولاية إميل لحود رئيسا لبنان.. وأنه سيتم الوصول له وأفراد عائلته في أي مكان في العالم إن لم يفعل ذلك..!
لقد أورد التقرير هذه الرواية على ألسنة عدد من الشهود بشكل متطابق من حيث المضمون، دون تطابق من حيث النص، حيث شهد الشهود بأن الحريري نفسه ابلغهم بما جرى في لقائه مع الأسد. إن كانت هذه الشهادات صحيحة، فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو: لماذا يأمر الرئيس السوري إذن باغتيال الحريري بعد أن تقدمت حكومته بطلب إلى مجلس النواب يقضي بتعديل الدستور على نحو يتيح تمديد ولاية لحود، وهو الاقتراح الذي تم اقراره، كما تم التمديد للحود بموافقة الكتلة النيابية للحريري..؟!
نورد هذا السؤال لنبين على الأقل وجود ثغرة جوهرية في التقرير، ذلك أن التمديد للحود لم يبق سببا لاغتيال الحريري، ما لم يكن التقرير أغفل أسبابا أخرى. ولعل ما يثير الاستغراب في تقرير ميليس، أن يورد مضمون شهادة محمد زهير الصديق بين شهادات شهود حفل بها التقرير دون أن يبين انتاجية كل منها من عدمه.. خاصة وأن قاضي التحقيق اللبناني أصدر أمرا بتوقيف الصديق بتهمة شهادة الزور، وهو القرار الذي نفذه القضاء الفرنسي، حيث ينتظر الصديق الآن في سجن فرنسي تسليمه للبنان.
وبعد، فإن التقرير لم يشر من قريب أو بعيد إلى غازي كنعان وزير الداخلية السوري الذي انتحر الأربعاء قبل الماضي، ما ينفي وجود أية علاقة لانتحاره وتحقيقات اللجنة الدولية، بخلاف ما تم الترويج له فور وقوع الحدث.
إن كانت هناك شخصيات سورية موضع اشتباه، فإنه ليس من بينها غازي كنعان، وهذا ما يفترضه المنطق. فكنعان كان وزيرا للداخلية يوم اغتيال الحريري.. أي أنه لم يكن مسؤولا في الاستخبارات العسكرية السورية، الذي يفترض في حال ادانة جهة سورية أن تكون هي هذه الجهة. ثم إن كنعان بعد أن غادر موقعه كمدير للاستخبارات العسكرية السورية في لبنان، لم تكن علاقته على ما يرام مع خلفه في لبنان، ولا مع مدير الجهاز في دمشق.
وتبقى أسئلة مشروعة متصلة بالقلق من مستقبل المنطقة، لم يثرها التقرير. لكن ما نريد أن نختم به هذا التحليل، قبل العودة للأسئلة الأخرى، هو عدم جواز مباشرة الولايات المتحدة التحرك لإقرار اجراءات دولية بحق سوريا، بموجب تقرير يؤكد كاتبه، أن تحقيقاته لم تكتمل بعد.