تقرير ديتليف ميليس افتتح مرحلة جديدة في تاريخ لبنان وسوريا والمنطقة. دخلنا في وضع جديد لا نعرف كم سيدوم. لا نعرف له نهاية واضحة، ولا يمكن استبعاد مفاجآت تحوّل مساره. ثمة قلق عام ناجم من أن المرء، بشكل عام، عدو ما يجهل. فالوضع الإقليمي مأزوم من فلسطين إلى العراق إلى ما يتعداهما. وقد أضيفت بؤرة (بؤرتا؟) توتر جديدة.
لا يلغي القلق أن في لبنان نوعين من الطمأنينة. لنقل إن التناقض الموجود بين هذين النوعين من الطمأنينة هو ما يستدعي القلق.
يقوم النوع الاول من الطمأنينة على تقديم رواية متماسكة للتطورات: إن الجهاز الأمني المشترك السوري اللبناني هو من دبّر اغتيال الشهيد رفيق الحريري. النتائج الاولية للتحقيق الدولي تشير، عن حق، إلى ذلك. إن اهتمام العالم بلبنان هو في ذروته، والاستعداد للمساعدة قائم، و<<الدول>> لن تسكت عن الجريمة وستضغط لمعرفة <<الحقيقة>>، وهي، أي الدول، لا ترمي إلا الى تقديم العون القضائي والمالي والسياسي، وحتى إذا حاولت تجاوز حدها فإن القدرة على لجمها متوفرة. وهكذا فإن لبنان يعيش على عتبة مرحلة زاهرة وما عليه سوى اجتياز بعض الصعوبات من أجل ولوجها بملء قدميه.
النوع الثاني من الطمأنينة يملك، هو الآخر، روايته: إن المسؤولين السياسيين والأمنيين في سوريا ولبنان بريئون من الاتهامات الموجهة إليهم. لا بل إن هذه الاتهامات هي جزء من مؤامرة تستهدف البلدين والنظامين لأسباب سياسية ذات بُعد إقليمي متصل بموقعهما المانع. تقرير ميليس لا يعتد به كثيراً إلا بصفته بيانا سياسيا. إن المحقق الالماني هو رأس حربة المؤامرة المعدة منذ سنوات، والتي تذرعت بتفجيرات 11 ايلول لتدخل حيّز التنفيذ، ولقد كان واضحا أنه، بعد انتقالها إلى العراق، ستطل على إيران، وسوريا، ولبنان، وفلسطين الخ... لا مجال، والحالة هذه، إلا الاستعداد للمقاومة، وتحيّن الفرصة لإعلان ذلك جهاراً.
رواية واضحة تطمئن أصحابها مقابل رواية أخرى واضحة تطمئن أصحابها، إن الغلبة هي، طبعا، للأولى في المشهد السياسي اللبناني والعربي والدولي، ولكن هذه الغلبة لا تهز قناعة الطرف الآخر وإن كانت تدفعه إلى ملاءمة تكتيكاته مع ميزان القوى.
يمكن، طبعا، اكتشاف تمايزات طفيفة في معسكر كل من الروايتين. إلا أن الخط الفاصل بينهما يقلل من أهمية هذه التمايزات.
في مقابل هذه الطمأنينة الموزعة على معسكرين متناقضين ثمة رواية لا تفعل سوى التسبب في إقلاق أصحابها.
تنطلق هذه الرواية من تقويم نقدي للتجربة السورية في لبنان وتنظر إليها في كليتها. يقود ذلك الى عدم استبعاد اي احتمال، وإلى التدقيق في ما يقدمه ميليس وفي الردود السورية عليه. وبهذا المعنى فإن في الإمكان توجيه انتقادات إلى التقرير ولكن،
في المقابل، ثمة وضوح في أن التفنيد الذي تعرّض إليه غير كاف أولا، ولا هو مقنع.
لا يلغي ما تقدم ان اصحاب هذه الرواية حاسمون في ان المنطقة تتعرض إلى مشروع عدواني اصلي تقوده الحملة الكولونيالية الاميركية المعطوفة على الاندفاعة التوسعية الاسرائيلية. انه مشروع اصلي بمعنى انه سابق للتمديد لإميل لحود ولاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهو معلن وموثق وكفيل باختراع كل الأكاذيب الممكنة لتبرير نفسه، كما في العراق، فكيف إذا تسنّت له تبريرات مقنعة تلقى هوى شعبيا.
يتجاوز هذا المشروع العدواني لبنان ليطال المنطقة كلها، وليعيد إخضاعها وهيكلتها بما لا يتلاءم مع مصالح شعوبها. لا يستهدف هذا المشروع قوى تعاديه وتحاول التصدي له وإحباطه فحسب، بل، ايضا، قوى وسطية تطرح عليه تسويات مشروطة، وقوى <<حليفة>> لا تذهب في الالتحاق إلى المدى الذي بات مطلوباً.
إن إقدام الادارة الاميركية على وضع اليد على قضية بحجم اغتيال الرئيس الحريري هو نموذج صارخ عن ادعاء الحق في حين أن الباطل هو المطلوب. ويؤدي هذا السلوك الاميركي إلى حشر لبنانيين في زاوية ضيقة تجعل الخيارات صعبة: لا بد من استكمال التحقيق وصولا إلى الحقيقة وتعيين المسؤولين عن الجريمة كائنا من كانوا، ولكن لا بد، ايضا، من تحديد المشروع الاميركي الاسرائيلي الاجمالي والسعي، بكل الوسائل، إلى منعه من تحقيق أهدافه.
يمكن للمطلب اللبناني الخاص بالتحقيق ان يأخذ البلد في وجهة سلبية. الا ان ذلك لا ينتقص ابداً من مشروعية هذا المطلب. كما يمكن لموازين القوى الفعلية بين لبنان والدول الغربية ان تُخرج موضوع التحقيق ووظيفته عن السياق الذي يود لبنانيون ضبطه فيه. ولكن، هنا ايضا، لا يفترض ان يقود هذا التخوف إلى التخلي عن السعي وراء الحقيقة.
ليس سهلا إيجاد نقطة التوازن الدقيقة بين أمرين. من هنا مصدر القلق الذي تحاول طمأنينة زائفة إزاحته سواء لصالح هذا التبسيط او ذاك. لا يمكن البحث عن راحة ساذجة تقوم على إسقاط امانيها على تعيين الجهة الإجرامية او على اسقاط امانيها على حقيقة الاستهدافات الاميركية الاسرائيلية الاجمالية.
يجدر القول ان التجاذبات بين الروايتين، والتجاذبات الداخلية التي يعيشها من يريد امتلاك وعي مطابق لحقيقة المشهد العام، ان هذه التجاذبات لا زالت في بدايتها. والمفارقة هي ان التطورات المرتقبة لن تفعل سوى مفاقمة الاتجاهات الحالية. سيزداد المطمئنون، على تناقضهم، اطمئنانا، وسيزداد القلقون قلقاً.