تتعامل كل من إيران وإسرائيل، كما لو كانتا دولتين مارقتين، تنثران الفوضى وأجواء الحرب بنبرتهما المتشددة، وأفعالهما العدائية، على امتداد منطقة الشرق الأوسط كلها• ففي السادس والعشرين من شهر أكتوبر الجاري، أثار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، مشاعر القلق والاستياء والغضب، بإعلانه عن ضرورة محو إسرائيل من خريطة العالم! وكان ذلك التصريح قد جاء، خلال مخاطبته لموكب ضم مئات الآلاف من الإيرانيين الذين اجتمعوا وتظاهروا تحت شعار ’’عالم بلا صهيونية’’• ومن جانبها فقد ردت إسرائيل على الفور، بالمطالبة بطرد إيران من منظمة الأمم المتحدة• وليس ذلك فحسب، بل أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي ’’حرباً بلا رحمة’’ ضد الفصائل الفلسطينية المتشددة•
كما صرح شارون قائلاً ’’ستواصل إسرائيل عمليات متصلة وواسعة النطاق، ولن تتوقف حتى نضع حداً للإرهاب ضدنا’’• ومن جانبه توعد رئيس أركان الحرب الإسرائيلي الجنرال دان حالوتز، بشن ’’حرب لا هوادة فيها’’ ضد منظمة ’’الجهاد الإسلامي’’• وكم هي طائشة ورعناء هذه اللغة العدوانية الخشنة، الصادرة عن كل من طهران وتل أبيب، التي من حكم المرجح أن ترتد وبالاً عليهما، لكن وعلى رغم ذلك، فهي مفهومة بدوافعها ومحركاتها•
فالذي حرك كوامن الغضب الإيراني، ودفع الرئيس أحمدي نجاد إلى قول ما قال، هو علم إيران بالمخطط الذي تعمل إسرائيل وأصدقاؤها على حبكه سراً، بهدف إقناع الولايات المتحدة الأميركية، بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت والمرافق النووية الإيرانية، على غرار تحريضها لواشنطن على شن الحرب الأخيرة على العراق• كما تعلم إيران أن في وسع هذه الدوائر السرية، تزييف المعلومات الاستخبارية اللازمة لشن ضربة كهذه، على نحو ما فعلت بمشاركتها في تزييفها للمعلومات الاستخبارية التي جرى بها تبرير الحرب على العراق•
وكان قد كشف النقاب جزئياً عن هذا المخطط السري، يوم الجمعة الماضي، على إثر الاتهام الذي وجه إلى لويس ليبي، مدير مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، خلال التحريات التي أجريت حول تسريب معلومات صحفية تخص هوية عميلة وكالة الاستخبارات المركزية ’’سي•آي•إيه’’ فاليري بليم• والمعروف عن لويس ليبي، أنه من أبرز أعضاء مجموعة المحافظين الجدد الموالية لإسرائيل، والتي كانت لها اليد الطولى وراء الهرولة الأميركية نحو العراق• هذا وقد شاعت المزاعم حول كون ليبي تعمد تسريب المعلومات المذكورة، عن هوية عميلة المخابرات فاليري بليم، بهدف الإساءة إلى زوجها جوزيف ويلسون، السفير الأميركي السابق بدولة النيجر، وإخراس ما وجهه من انتقادات لإدارة بوش، متهماً إياها بتزييف المعلومات الاستخباراتية السابقة للحرب، بغرض تضخيم التهديد الأمني المنسوب إلى نظام صدام حسين•
وخلال هذا الأسبوع، حمل وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم، معه أثناء زيارته إلى العاصمة الفرنسية باريس، ذات الرسالة الإسرائيلية المعادية لطهران، كدأبه عادة• وجاء على حد قوله ’’نحن على علم تام بحقيقة النوايا الإيرانية تجاهنا• ولذلك فإننا نبذل كل ما نستطيعه، في سبيل إقناع العالم بمحاربة هذا الطاغوت، خاصة وأن إيران باتت على مقربة من نقطة اللاعودة في طريق تطويرها للسلاح النووي• ثم إن هذا الخطر لا يهددنا نحن وحدنا فحسب، وإنما يطال تهديده القارة الأوروبية نفسها• وكما هو معلوم فإن لإيران ترسانة من الصواريخ بعيدة المدى، القادرة على الوصول إلى كل من برلين وباريس ولندن• وإن علينا أن نوقف هذا الخطر ونحول دون وقوعه’’!
ثم هناك دافع آخر لهذا الغضب الإيراني، يتمثل في شعور طهران الحانق بالتمييز النووي ضدها، من قبل المجتمع الدولي كله• فعلى رغم توقيعها وانضمامها لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وبروتوكولاتها الإضافية، التي تسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعمليات التفتيش المباغت لمنشآتها ومرافقها وبرمجها النووية، إلا أن القوى الغربية -ومعها إسرائيل بالطبع- تعمل كل ما بوسعها في سبيل حرمان طهران من تقنية تدوير النفايات النووية، بغية الحصول على ما تريده من طاقة نووية• ومصدر الشعور بالتمييز من جانب طهران، هو أن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، تسمح لكافة الدول الأعضاء الموقعة عليها، بتطوير تكنولوجيا الطاقة النووية• وبما أن ذلك هو واقع الحال بحكم نصوص المعاهدة، فلمَ الاستثناء والتمييز ضد إيران بالذات؟ والإجابة هي الشكوك التي تقض مضجع الغرب حول احتمال وجود نوايا وأهداف وبرامج سرية، لإيران، تستهدف تطوير السلاح النووي، تحت ستار تطوير تكنولوجيا الطاقة النووية• ولكي يقطع الغرب هذه الشكوك، فإنه ينفي عن إيران حاجتها أصلاً، لتطوير تكنولوجيا الطاقة النووية، طالما أن لديها محطة واحدة لإنتاج هذه الطاقة، يجري الآن إنشاؤها تحت إشراف روسي، وتعهدت فيها موسكو بإنتاج الطاقة النووية التي تحتاجها إيران، على أن تتخلص بنفسها، من النفايات النووية التي يجري تدويرها في المحطة•
أما في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد رفع الستار سلفاً عن مرحلة جديدة من مراحل المواجهة الدموية العنيفة بين إسرائيل والمقاتلين الفلسطينيين المناوئين للاحتلال• ففي الثالث والعشرين من الشهر الجاري، أردت القوات الإسرائيلية لؤي السعدي، قائد منظمة الجهاد الإسلامي في مدينة طولكرم، من خلال عملية عسكرية دقيقة استهدفته• ويأتي مصرع السعدي، امتداداً لسلسلة عمليات إسرائيلية تستهدف التصفية الجسدية المستمرة لخصومها وأعدائها من الناشطين والمقاتلين الفلسطينيين•
وانتقاماً منها لمقتل السعدي، ردت المنظمة يوم الأربعاء الماضي، عبر هجوم انتحاري، كانت حصيلته مصرع خمسة من الإسرائيليين• فما كان من إسرائيل إلا أن كالت الصاع صاعين، بشنها غارات جوية ومدفعية شرسة لا تزال تتواصل، إلى جانب إعلانها حظر التجول وإطلاق حملة اعتقالات واسعة النطاق بين الفلسطينيين، وإقامة المتاريس والمصدات المانعة لحركتهم وتنقلهم• وهكذا انصب زيت جديد على نار العداء، واشتعل فتيل العنف القائم أصلاً بين الطرفين، مما يعني بدء دورة جديدة من العنف والعنف المضاد بينهما• وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تزال تواصل ضغوطها وإلحاحها على محمود عباس ’’أبومازن’’، رئيس السلطة الفلسطينية بسحق الفصائل الفلسطينية المقاتلة، التي تتهمها إسرائيل بالتطرف والإرهاب، إلا أنها تحرص بالقدر ذاته، على ألا تخطو معه ولو خطوة واحدة باتجاه العودة إلى طاولة المفاوضات، وبذلك تحرمه من أي حافز أو مبرر للقيام بما تتطلع إليه! ولك أن تنظر إلى هذه المغالطة العجيبة: فإسرائيل تريد من السلطة الفلسطينية أن تحميها وتحمي مواطنيها من عنف وهجمات الفصائل الفلسطينية، دون أن تدفع مقابل هذه الخدمة، ولو خطوة واحدة باتجاه مفاوضات الوضع النهائي الفلسطيني، ولا أن تعطــــــي أملاً واحداً للفلسطينيين، بدنو أجـــــــل الإعلان عن دولتهم التي طال انتظـــــــارهم للإعـــــــلان عنها! بل على عكس ذلــــــك تماماً، فقد كانت أول ردة فعل لوزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز، إزاء التجدد الأخير لدورة العنف هذه، تأكيده على أن الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لا تزال دونه سنوات وسنوات•
وهكذا نلحظ أن طهران وتل أبيب، تستفيدان من الضعف الحالي لإدارة بوش، المستنزفة في حربها على العراق، والغارقة في الفضائح بالجملة التي يشهدها البيت الأبيض الآن• فلا هي قادرة في هاتين الحالتين، على شن هجوم عسكري على إيران، ولا هي متفرغة في الوقت الحالي، لمواجهة شارون وإرغامه على العودة إلى طاولة التفاوض السياسي السلمي• وها هي إسرائيل تفعل ما تفعله بالفلسطينيين، في حين يسعى الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لاستنفار مسلمي العالم قاطبة، وحضهم بخطابيته الحماسية الملتهبة، على قتال ما يرى فيه كثير من المسلمين، غطرسة وهيمنة أميركية- إسرائيلية•