ليس اللبنانيون وحدهم الذين عاشوا “حالة طوارئ نفسية” وهم يترقبون تقرير “كولومبو برلين” أي ديتليف ميليس كما وصفته الصحف الألمانية، فالسوريون أيضا عاشوا حالة الطوارئ تلك، وهم يترقبون ما سيقوله “هانس بليكس سوريا”، ويتحسسون أخبار الداخل بقلق، فثمة من ينتظر حالات انتحار لاحقة تنوس بين الموت بكرامة او الموت بين مخالب ديتليف ميليس. وثمة من يتفرج على سوق الفرجة السياسية السورية، التي راحت تعزو انتحار مسؤوليها الى الضغط المتواصل للسلطة الرابعة.
بين انتظار “بليكس سوريا” الذي غلب على تقريره الوصف وبين “انتظار غودو”، يتطلع السوريون باتجاه الرئيس بشار الأسد،يرصدون حركته،ملامح وجهه، طريقته في التعبير،خطابه السياسي العلني منه والمسكوت عنه ،الحدود الصراطية التي يرسمها بين “الخيانة” كما جاء في مقابلته مع مراسلة “السي إن إن”، و”الوطنية” بين الخارجين عليه والموالين له، يدققون في أدق التعابير، باحثين عن مراميها، لا ينافقون كما فعل سابقون، من الذين كانوا يحصون عدد حروف الجر في خطاب الرئيس السوري حافظ الأسد، فالمرحلة دقيقة وحساسة ووجه الرئيس بشار يكاد يكون مرآتها العاكسة، من هنا مصدر حالة الطوارئ التي يعيشونها، ومصدر تساؤلهم: كيف السبيل الى الخروج من حالة الحصار بأقل ما يمكن من الخسائر، خاصة ان التاجر الدمشقي الذي يحصي أرباحه أكثر من خسائره يتقن المراهنة جيدا كما يكتب هنري كيسنجر في مذكراته.
ومع تزايد الضغوط الخارجية التي تأخذ صيغة بازار سياسي مفتوح يهدف الى تحقيق مكاسب أمريكية في العراق، وتعديل المواقف السورية، وتزايد الضغوط الداخلية ممثلة في إعلان دمشق الأخير، والذي عزا حالة الحصار والأخطار التي يمر بها البلد الى حالة الاحتكار التي أسست “لنظام شمولي فئوي “اغتال السياسة وأخرج الناس من دائرة الاهتمام العام”.
أقول في سياق البازار هذا، تتطلع الأنظار الى الطريق الذي يمكن للرئيس السوري أن يسلكه، وهو واحد من ثلاثة طرق، لكي لا نقول ثلاثة خيارات.
- الطريق الأول :أن يقتدي بالنموذج الليبي فيدخل الى سوق البازار السياسي الأمريكي المفتوح، يقبل بشروطه لكي لا نقول يركع لها، يصبح جزءا من الأجندة الأمريكية الطامعة في إعادة صياغة المشرق العربي من جديد، يرضى عن طواعية بكل ما تمليه الإدارة الأمريكية، مقابل بقائه في السلطة، وبذلك يكون قد تخلص من الضغوط الخارجية والضغوط الداخلية معا، التي يمكن الالتفاف عليها كما جرى في النموذج الليبي الذي بات نموذجا يحتذى.
- الطريق الثاني: أن يقتدي الرئيس السوري بالحدث الموريتاني، بمعنى أن يوجه قبلته من العقيد القذافي الى العقيد أعلي بن محمد فال بن عبدالعزيز، وهذا يعني أن عليه أن يقطع الصلة مع الحقبة السياسية التي صادرت الحياة السياسية في سوريا، فيصدر عفوا عاما ويبيض السجون من أهل الرأي، وينفتح سياسيا على المعارضة في الداخل،ويمهد الى تحولات ديمقراطية في فترة حرجة، والى تبادل حقيقي للسلطة، وبذلك يكون قد قوى جبهته الداخلية وأزال كل أسباب التوتر الداخلي التي عبر عنها إعلان دمشق، وهذا ما تنتظره منه قوى الداخل، أي أن يقوم بانقلاب من داخل المؤسسة العسكرية يثبت فيه أن العسكر ليسوا بعيدين عن الديمقراطية وإنها قد تكون خيارهم في اللحظات الصعبة التي يمر بها الوطن.
- الطريق الثالث: أن يتجه الى المقاومة وهي ورقة لا يمكن الاستهانة بها، والى طريقه المترع بالإيديولوجيا والوطنية معا،الذي يعتمد فيه على رؤية للإصلاح، مفادها ان الإصلاح الاقتصادي سابق على الإصلاح السياسي،وان المطلوب هو إصلاح تدريجي لا يسمح لأعداء الوطن بالولوج من الخرم الضيق للإصلاح، وبالتالي الاعتماد على قواه الذاتية (الجيش والحزب والجماهير التي باتت كارهة للمشروع الأمريكي بعد تجربة العراق)في مناهضة المشروع الامبريالي،الذي لا يعرف أحد ماذا يريدون منه وهذا ما أعرب عنه في لقائه الشهير مع “سي إن إن”، وهذا أمر مكلف.
ثلاثة طرق تقض مضجع الرئيس والسؤال أيها يسلك في هذا الوقت الحرج الذي يقض مضجع الجميع أيضا؟