يبدو أن القاضي الآلماني ديتليف ميليس، رئيس اللجنة الدولية المكلقة بالتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الآسبق الشهيد رفيق الحريري واثنين وعشرين شخصا أخرين، لم يفاجئ أحدا في تقريره المنتظر.
لقد نهض التقرير نتيجة عمليات بحث متعددة، دفعت مجموعات عمل اللجنة إلى السعي خلف مختلف العناصر والجزئيات والتقاصيل، كما أتى في / التقرير – ملخص تنفيذي – 4 / : ( ركزت خطوط تحقيق اللجنة الآساسية على موقع الجريمة، وجوانب الجريمة التقنية، وتحليل الاتصالات الهاتفية المراقبة، وشهادة أكثر من 500 شاهد ومصدر، وكذلك من السياق المؤسسي الذي حدثت فيه الجريمة. ).
ومن خلاصة كل ذلك تبين لدى اللجنة وعلى أساس الآدلة المادية مسؤولية لبنانية وسورية، حسبما ورد في / التقرير – 8 /: ( بناء على ما توصلت إليه اللجنة حتى الآن، وعلى أساس الآدلة المادية والوثائق المجموعة، والقرائن التي أمكن الحصول عليها حتى الآن، ثمة أدلة تتفق على أن ثمة تورط لبناني وسوري في هذا العمل الإرهابي. ).
من هنا أتت الإشارة المنتظرة والحاسمة في التقرير، والتي، بنقس الوقت، لم تفاجئ أحدا، عندما حددت بأن الجريمة قد تمت نتيجة تورط أمني لبناني وسوري، أو، لنقل، بأن النقرير لم يقعل شيئا أكثر من تأكيد الشبهات القوية التي كانت تحوم فوق رؤوس أركان النظام الآمني اللبناني السوري المشترك، في ظل هيمنة سورية شاملة، سياسية وعسكرية وأمنية، على لبنان، استمرت أكثر من عقدين، وطبعت الوضع اللبناني العام بطابعها المعروف.
وبينما ارتاحت للتقرير ونتائجه قوى وأطراف وشخصيات عديدة، سياسية وإعلامية واجتماعية، إذ أكد لها صحة انتقاداتها لعهد الوصاية السوري على لبنان، وما ولده من أثار سلبية طالت مختلف جوانب الحياة العامة، قوبل التقرير من قيل النظام السوري ( وزارة الخارجية، وزارة الإعلام، نقابة المحامين...الخ ) و من فئات مرتبطة به، بالرفض حينا، وبالتشكيك في نزاهته حينا ثانيا، ثم بلصق تهمة ( التسييس ) على أهدافه ودوافعه حينا ثالثا، في مسعى للالتفاف على النتائج التي تم التوصل إليها، وكذلك للتنصل من المسؤولية التي تم تحديدها.
وهي طرائق وأساليب تذكر بالكيفية التي تم التعامل بها مع متطلبات والتزامات مختلفة، مثل القرار 1559 الذي نص في أحد بنوده على ضرورة الانسحاب السوري، العسكري والاستخباراتي، من لبنان [ القرار دعى القوات الآجنبية، وقد عنى بذلك القوات السورية ]، وايضا مع لجنة التحقيق الدولية التي تم إنشاؤها في 7 نيسان/ابريل 2005 بقرار من مجلس الآمن الدولي رقم 1595.
يظهر من ردود ومواقف النظام السوري على الالتزامات الدولية، انها تتسم بالتقلب، من الرفض المطلق في البداية، إلى التشكيك، ثم إلى القبول والإذعان، تحت الضغط اللبناني والعربي والدولي، وقد تمت ملاحظة ذلك، على الآقل، في الكيفية التي تم التعامل بها مع مسألة الانسحاب من لبنان بفعل القرار 1559.
من اعتراضات السوريين، القول بأن التقرير استند إلى شهادات سياسيين وإعلاميين لبنانيين ( معادين ) لسوريا، غير أن هذا الزعم لا يثبت عند أول فحص له، لآن مواقف غالبية الشهود اللبنانيين ( المعادين )، إن لم نقل كلهم، شددت دوما على السعي من أجل بناء علاقة سليمة ومتميزة مع سوريا، لكن على أرضية احترام السيادة، والاستقلالية، وهي رؤية تتعارض مع ما تم ترسيخه في عهد الوصاية الآقل.
كما تعتبر مطالبة القوى والشخصيات اللبنانية التي أصبحت هدفا للهجوم الإعلامي السوري، بأن تنحصر العقوبات المتوقعة من قيل المجتمع الدولي على الفاعلين والمتورطين والذين ساهموا في جريمة الاغتيال، وان لا تكون عنصرا جديدا يسهم في مضاعفة معاناة الشعب السوري، إن تم إقرار تلك العقوبات على سوريا، بدون تمييز، كما حدث مع العراق في العقد الآخير من القرن الماضي، وهي نقطة بالغة الآهمية، تعكس موضوعية ونزاهة اللبنانيين، وكذا كل المطالبين، بضرورة حصر العقاب على الفاعلين والمتواطئين فقط.
ويظهر أيضا، من اعتراضات السوريين على التقرير، اندراجه، كما يقولون، في أجندة أمريكية وغربية، عموما، للضغط على سوريا، ويتم الريط بين تلك الآجندة وبين ما يتواتر من مشاريع وبرامج من أجل الإصلاح والتنمية والديمقراطية...الخ.
أعتقد أن هذا الربط يتقق مع ما يعرف بنظرية المؤامرة، التي ( تكتشفها ) الآنظمة العربية عند اصطدامها بالمجتمع الدولي.
تنتج الآنظمة الديكتاتورية الاضطرابات الاجتماعية والإثنية، والهجرة، والجريمة، والإرهاب. وهي أضرار ونتائج كانت تنحصر أضرارها في بيئاتها المحلية، وأوساطها المحددة، لكن وبعد أحداث الحادي عشر من ايلول / سبتمبر 2001 تقجرت هذه الظاهر، وبالآخص الإرهاب، داخل حدود الغرب، الغرب نفسه الذي رعى وحمى تلك الآنطمة بدافع من دعوى الاستقرار.
إن مشاريع الغرب للإصلاح السياسي، وتطوير التعليم، وتمكين المرأة، وتعزيز دور المجتمع المدني، والتنمية، والديمقراطية، الموجهة إلى شعوب الشرق الآوسط، ليست عصية على الفهم، كما أنها ليست مقطوعة الصلة عن مصالح أو أجندات الغرب، في رعاية نوع جديد من الاستقرار في الشرق الآوسط، لا يكون على حساب التنمية وخقوق الإنسان والديمقراطية، هذه المرة، بعد أن طالته أثار ونتائج شكل محدد من الاستقرار تصنعه أنظمة القمع والتأخر.
ختاما، علينا القول، بأن استحقاقات تقرير ميليس، وتداعياته، تتطلب من النظام السوري كيفية مغايرة ومختلفة من التعامل، تقطع مع ما سبق، من أجل درء معاناة جديدة لا يحتملها الشعب السوري، الذي يدفع ثمن أخطاء نهج لم يصنعه ولم يستشر به.