تمر إدارة الرئيس جورج بوش في مرحلة صعبة بالتأكيد. ليس في أزمة عابرة فحسب، وإنما في معضلة متمادية. إنها، منذ أشهر، على منحدر. والسؤال المطروح في واشنطن يتناول قدرة الرئيس على <<الولادة ثانية>> والإجراءات المطلوبة من أجل استرجاع رصيد بُدِّد بسرعة.
الطعنة الأخيرة إلى الإدارة وجّهها القاضي باتريك فيتزجرالد عندما وجّه اتهامات خطيرة إلى لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني وأحد أبرز الرجال النافذين في المجموعة الحاكمة.
يجدر بالمواطنين العرب (واللبنانيين ضمناً) إيلاء عناية إلى هذه الاتهامات لاتصالها بالمقدمات التي مهّدت لغزو العراق، واحتلاله، ووضع دولته على شفير التفكك والتلاشي. الاتهامات محطة لها ما بعدها، على الأرجح، في قصة طويلة جديرة بأفلام السياسة الخرافية: كيف يمكن بناء هرم هائل الارتفاع من الأكاذيب؟ كيف يُعمَّم وعي زائف على الكون كله في ظل ما يقال عن ثورة الاتصالات؟ كيف تُصنع السياسة الأميركية، أو، بالأحرى، كيف يمكن اختطافها من جانب جماعات ضغط؟ كيف تبنى الملفات التي يمكن لها أن تقود إلى حروب تدميرية؟ كيف يتداخل محتال إيطالي مع رئيس وزراء تافه مع مسؤول استخباراتي حديث العهد مع الأجهزة الأميركية والبريطانية مع مواقع النفوذ التي تحتلها حفنة من المتعصبين مع كبريات وسائل الإعلام <<الليبرالية>> مع معارضين لأنظمة بلادهم مع أموال الرشى وشراء الذمم...
الاتهامات الموجهة إلى ليبي تتناول الكذب تحت القسم وعرقلة العدالة. والأصل هو أنه كشف هوية موظفة في الاستخبارات المركزية (فاليري بلايم) من أجل معاقبة زوجها (جوزف ويلسون) أو التشكيك فيه لأنه نجح في إثبات كذب الرواية القائلة بأن العراق سعى إلى شراء 500 طن من اليورانيوم من النيجر في سياق محاولته تجديد وتفعيل برنامجه النووي العسكري.
نبدأ من النهاية. لقد أثبتت التطورات اللاحقة أن ويلسون على حق والإدارة الأميركية على ضلال في ما يخص الأسلحة العراقية. لم يعد ثمة مجال للشك في ذلك وإن كان هناك مَن يؤكد أن الإدارة، بدفع من جناح فيها، تعمّدت التضليل ولم تكن فقط على ضلال.
حول البرنامج النووي العراقي صرّح تشيني المسؤول المباشر عن ليبي (آذار 2002، أي قبل العدوان بسنة) أن <<صدام حسين رجل شرير ويحاول الآن، بنشاط، تطوير أسلحة نووية>> (C.N.N). وقال إن واشنطن <<تملك سبباً جيداً للاعتقاد أن العراق يطوّر أسلحة نووية>> (N.B.C). وأكد <<أن صدام حسين يملك أسلحة بيولوجية وكيميائية ويمكنه أن يحصل على أسلحة نووية وهذه فرضية مرعبة>> (C.B.S). ولقد استعاد جورج بوش هذا الادعاء في خطابه المهم عن <<حال الاتحاد>>، وكذلك فعلت مستشارة الأمن القومي وقتذاك كوندليسا رايس غير مرة. ولم يتردد كل من بوش ورايس في تحذير مواطنيهما من اقتراب <<الفطر النووي>> من مدنهم.
لقد بات محسوماً، حسب مذكرات رسمية بريطانية تُعرف <<بمذكرات داوننغ ستريت>>، أن قراراً اتخذ على أعلى المستويات في بريطانيا والولايات المتحدة، قبل أشهر من الحرب، بإخضاع المعلومات والمعطيات الاستخبارية للقرار السياسي العدواني (علاقة نظام بغداد ب<<القاعدة>>، <<الأنابيب النووية>>... إلخ) ووصل الأمر، في هذا المجال، إلى حد تقديم دراسة لأحد الطلاب بصفتها كشفاً استخباراتياً بريطانياً.
تنفيذ هذا القرار كان يتم بشكل معقد. يتم تسريب معلومات إلى الصحافة بالاستفادة من شبكة علاقات ضمنها ومن وجود ذوي أغراض سياسية، وتتم الاستعانة ب<<علماء>> فارين من العراق يقدمهم معارضون يتلقون ميزانيتهم من الإدارة، يتولى الصقور الأميركيون التعميم، تتدخل مراكز أبحاث ومعاهد دراسات. بعد ذلك تستعاد هذه المعلومات عبر تصريحات رسمية على أعلى المستويات فتتحول إلى موقف سياسي ينهض على مزاعم الحرص على الأمن الوطني في مرحلة ما بعد 11 أيلول. والمسار الذي تنتقل فيه هذه المعلومات يتجنب المحترفين في وكالات الاستخبارات، وكذلك الدبلوماسيين في وزارة الخارجية المشبوهين بإصابتهم بلوثة <<الواقعية>>.
لم يكن ممكناً لهذه العملية أن تتم، وهي أشبه ما تكون بالمؤامرة، سوى أنها ليست كذلك لأنها مكشوفة وتتم علانية، لولا وجود شبكة خاصة شديدة التنظيم والتماسك والعصبوية يشكّل هوسها الإيديولوجي لحمتها وسداها. إن أركان هذه الشبكة هم من بتنا نعرفهم باسم <<المحافظين الجدد>> الموجودين في وزارة الخارجية (جون بولتون) وفي وزارة الدفاع (بول وولفويتز، دوغلاس فيث، ديفيد وورمر، مايك معلوف، وليام لوتي، أبرام شولسكي...)، وفي مكتب تشيني (لويس ليبي)، وفي مجلس سياسات الدفاع (ريتشارد بيرل، جيمس وولسي، كينيث اديلمان). إلى ذلك فإن هؤلاء موجودون في مواقع نفوذ أخرى تلعب دوراً كبيراً في التأثير على الرأي العام وصناع القرار.
لقد كان لويس ليبي في قلب هذه الشبكة لأنه كان في قلب صناعة الموقف، في مكتب نائب الرئيس صاحب الكلمة العليا في الإدارة والذي وصفه صديقه <<السابق>> برينت سكوكروفت بأنه <<منبع الظلمات>>. لقد كانت وظيفة ليبي الجوهرية هي وضع المعطيات المزوّرة أو غير المدققة على مكتب الرئيس ونائبه ليجدا فيها ما يتلاءم مع توجه حسما أمره مسبقاً.
ليبي تلميذ نجيب لبول وولفويتز. تلميذ بالمعنى الحرفي، إذ درس عليه في جامعة بال في السبعينيات وبالمعنى الروحي، وولفويتز هو الذي أدخله إلى الإدارة في ولاية رونالد ريغان ثم نقله معه إلى وزارة الدفاع (تشيني) في عهد بوش الأب. ومنذ ذلك الوقت ارتبط ليبي بعلاقة قوية مع تشيني حتى بات ظله.
مع نهاية عهد بوش تكفل ثلاثة (تشيني، وولفويتز، ليبي) في وضع <<خطة الإرشاد الدفاعي>> التي تسرّبت عام 92 إلى الصحف واضطرت الإدارة إلى سحبها والتبرؤ منها. ما هي الخطوط العامة لهذه الخطة:
- بعد انتهاء الحرب الباردة يتوجب على الإدارة الأميركية أن تتجه لبناء نظام عالمي مبني حول القوة الانفرادية الأميركية وليس حول الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المشتركة.
- يجب على الولايات المتحدة أن تمنع قيام أي قوة إقليمية أو دولية منافسة حتى لو كانت صديقة.
- يتوجّب على الولايات المتحدة أن تبقى القوة الأولى المسيطرة على الشرق الأوسط من خارجه.
- من الضروري اللجوء إلى ضربات استباقية على دول تسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل.
- المهمات تحدد التحالفات ويعني ذلك أن المؤسسات الغربية القائمة، مثل حلف شمال الأطلسي، ليست مقدسة.
- إن التدخل العسكري الأميركي في العالم عنصر لازم في النظام الجديد.
لم تعتمد إدارة كلينتون هذه العقيدة، وتحوّل واضعوها، وأصدقاؤهم، إلى المعارضة وبقوا فيها. منهم مَن كتب الوثيقة الشهيرة <<المرفوعة>> إلى بنيامين نتنياهو في 96، ولكن معظمهم التقى في 97 لإنشاء <<برنامج القرن الأميركي الجديد>>. ومن هؤلاء: إليوت ابرامز، غاري باور، جيب بوش، ديك تشيني، إليوت كوهين، باولا دوبربانسكي، فرانك غافني، فرانسيس فوكوياما، زلماي خليل زاده، لويس ليبي، دونالد رامسفيلد، بول وولفويتز. والوثيقة التأسيسية للبرنامج تستعيد ما كان شارك ليبي في وضعه قبل سنوات، وهي تؤشر، بشكل واضح، إلى السياسة الأميركية الجاري تنفيذها هذه الأيام.
اتهام ليبي ضربة قاسية لهذا التحالف بين المحافظين الجدد والتقليديين. سيحاولون طبعاً حصر الأضرار. لكن المطلوب يبقى كشف السياق الذي قاد إلى حرب العراق وإلى الانعطافة في السياسة الخارجية الأميركية، وهي انعطافة ولاّدة للكوارث والأهوال. ما هو أقل من ذلك لا يكفي. فبالأمس كان العالم، في مجلس الأمن، على موعد مع محطة تالية من محطات هذا الحلم المجنون.