لماذا شنت الولايات المتحدة الحرب على العراق؟ ذلك هو السؤال المحرج الذي يحاول البيت الأبيض تجنبه لكنه مطروح بإلحاح من جانب الصحافة الأمريكية والرأي العام، ومن جانب أعضاء الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ وكبار المسؤولين المتقاعدين. وبمجرد بقاء الظروف وأسباب الحرب لغزاً محيراً هو أمر مثير للدهشة في مجتمع مفتوح كالمجتمع الأميركي.
فهناك حملات قاسية على الحرب وطريقة إدارتها ظهرت اخيراً على لسان شخصيات تعتبر من الوزن الثقيل في شؤون السياسة الخارجية مثل برينت سكاوكروفت مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس بوش الأب، وزبيغنيو بريزينسكي الذي شغل المنصب نفسه في عهد الرئيس كارتر، ولورنس ويلكرسون الذي شغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية في عهد كولن باول. ويجمع هؤلاء على أن الحرب كانت خطأ كارثياً، بل انتحارياً تم اتخاذ القرار بشأنه من جانب «عصبة سرية مجهولة» على حد قول ويلكرسون.
ولعل الفرصة لاكتشاف شيء قريب من الحقيقة حول ملابسات اتخاذ قرار الحرب قد توفرها محاكمة لويس ليبي إذا ما تمت إحالته أمام محكمة جنائية.
فهذا الرجل كان حتى الآن إحدى أقوى الشخصيات في واشنطن وهو من كبار المحافظين الجدد وأحد أبرز مهندسي حرب العراق إلى جانب بول ولفوفيتز ودوغلاس فايث اللذين كانا يشغلان المنصبين الثاني والثالث في وزارة الدفاع. أما ولفوفيتز فقد أصبح رئيساً للبنك الدولي، وأما فايث فقد ترك البنتاغون.
وهكذا فقدت فئة المحافظين الجدد المؤيدة لإسرائيل ثلاثة من أبرز الشخصيات التي ضغطت بكل قواها من أجل شن الحرب.
غير أن هنالك كثيرين لا يزالون يشغلون مناصب عليا. فإليوت أبرامز هو من الصقور المعادية لإيران في مجلس الأمن القومي في حين أن تشيني الذي فقد ساعده الأيمن ليبي قام بتعيين جون حنا مستشاراً رئيسياً له لشؤون الأمن القومي. وكان المذكور يعمل في «معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى المؤيد لإسرائيل وقد لعب دوراً في تمرير معلومات استخباراتية كاذبة إلى البيت الأبيض حول أسلحة العراق عن طريق الخلية الاستخباراتية التي أنشأها دوغلاس فايث في البنتاغون والتي سميت بـ «مكتب الخطط الخاصة».
وقد يحال ليبي إلى القضاء بجرم الفضح المتعمد لهوية فاليري بلايم، إحدى عملاء وكالة المخابرات المركزية التي كانت تعمل في حقل بالغ الحساسية وهو الحقل الخاص بانتشار الأسلحة النووية. ويعتبر عمل ليبي هذا جريمة فدرالية قد تؤدي بفاعلها إلى السجن مدة ثلاثين سنة. ومن المعروف أن ليبي قام بتسريب فاليري بلايم إلى الصحافة كي يسيء إلى مصداقية زوجها جوزيف ويلسون سفير أميركا السابق في نيجر الذي شكك علناً في ادعاء بوش بأن العراق قد اشترى اليورانيوم من النيجر بغية صنع قنابل نووية. وكان هذا الاتهام أحد الأسباب الرئيسية لاجتياح العراق لكنه كان ادعاءاً مختلقاً ومستنداً إلى وثائق مزورة. وأما الجهة التي زورت الوثائق فلا تزال قيد التحقيق وإن كان «مكتب الخطط الخاصة» الذي أنشأة دوغلاس فايث في البنتاغون أحد أبرز المرشحين.
وبعد تحقيق دام سنتين قام به المستشار الخاص باتريك فيتزجيرالد أحيل ليبي من قبل هيئة محلفين عليا إلى القضاء لارتكابه خمس جرائم تشمل إعاقة سير العدالة والإدلاء ببيانات كاذبة بعد أداء القسم. ولا يزال الأمر غامضاً بالنسبة الى ما سيفعله ليبي، فقد يساوم المستشار فيتزجيرالد على تسوية - وربما يعترف بأسماء شركاء له في الجريمة – أو يقبل المثول أمام القضاء.
وتكمن أهمية قضية ليبي هذه في كونها جزءاً من شبكة واسعة للخداع ولتقديم تحليلات إخبارية مضللة ووثائق مزورة أدت إلى دفع أميركا إلى حرب كارثية ضد العراق، حرب تجاوزت خسائرها ما يزيد عن ألفي جندي أمريكي وعشرات الآلاف من العراقيين وكلفت دافع الضرائب الأميركي مبلغ 250 بليون دولار. وستكشف هذه المحاكمة – إذا ما تمت فعلاً – كل أسرار هذه المؤامرة.
كذلك فإن قضية ليبي هذه تهدد بنسف رئاسة جورج بوش نفسه. فهي ذات آثار مدمرة مثلها مثل فضيحة وترغيت التي إسقاط ريتشارد نيكسون عام 1974. ومن المحتمل أن تؤدي إلى إطلاع الرأي العام الأميركي على الثمن الباهظ جداً للعلاقة الأميركية الحميمة جداً مع إسرائيل.
وفي ما عدا المحافظين الجدد الذين رسموا السياسة الأميركية في الشرق الأوسط هنالك شخصيات رئيسية في هذه الفضيحة أولها ديك تشيني نائب رئيس الجمهورية، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع، والمستشار السياسي الأول للرئيس بوش المدعى كارل روف. فكل من هؤلاء له أسبابه المختلفة للذهاب إلى الحرب. ولعل هذا الأخير صاحب الاستراتيجية التي أدت على نجاح بوش قد اعتقد بأن الحرب يمكن أن تصبح فرصة لدعم حظوظ الجمهوريين الانتخابية وإبراز الرئيس بوش كـ»زعيم حرب». وهو بحاجة إلى حرب لأن تأثير الحملة على أفغانستان أخذ يضمحل. وأما تشيني فقد يكون مفتوناً بفكرة تحويل العراق الغني بالنفط إلى دولة عميلة لأميركا ثم الغنم بعقود ضخمة لإعادة إعمار العراق تعود على شركة هاليبرتون التي كان تشيني رئيساً لمجلس إدارتها بأرباح خيالية. وأما رامسفيلد فقد يكون اعتقد بعد أحدا 11 سبتمبر بأن الحرب ضرورية لتلقين العرب درساً قاسياً عن قدرات أمريكا الحربية لأنهم يستحقون أن يروا العصا الغليظة كي لا يتعرضوا لأميركا بأي هجوم آخر.
ولأن أحدا 11 سبتمبر قد خلقت توتراً في علاقة التحالف الطويل الأمد مع المملكة العربية السعودية، ذهب بعض أعضاء الإدارة بما فيهم بوش نفسه إلى الاعتقاد بأن العراق العلماني إذا ما أصبح في الفلك الأميركي فقد يصلح مركز قوة موازياً لوزن السعودية التي ذهب عدة محللين سياسيين في أميركا إلى اعتبارها عدواً ومنبعاً للتطرف الإسلامي.
وأما المحافظين الجدد فقد نظروا إلى الحرب كوسيلة لتقديم دعم أقوى لأمن البيئة الإسرائيلية. ذلك أن تدمير العراق وتقطيع أوصاله من شأنه أن يضعف العرب ويوجه ضربة قاضية للقومية العربية ويقضي على كل احتمال لقيام جبهة شرفية عربية موجهة ضد إسرائيل، ويسلب الفلسطينيين أي مساعدة يمكن أن يتلقوها من العرب. بل ذهب الخيال بالمحافظين الجدد للإعتقاد بأن الحرب قد تؤدي كلعبة الدومينو إلى إعادة هيكلة العالم العربي كله كي يصبح مواليا لأميركا وإسرائيل.
هذا وقد تم إخفاء أهداف هذه الخطة الطموحة وراء ذريعة جلب « الديموقراطية» و»الحرية» على العرب. وأصبح بوش نفسه المحامي الأول لهذه السياسة بعد أن تم إقناعه بأن هناك صلة عضوية بين الديموقراطية العربية والأمن الأميركي. فلا بد إذا من إصلاح المجتمعات العربية – وبالقوة إذا اقتضى الأمر – لكي يتم التغلب على أي تهديد إرهابي لأميركا وحلفائها.
غير أن حرب العراق أثبتت إفلاس هذه النظرية. فهي بدلا من أن تدعم موقف بوش، كما كان يأمل مستشاره كارل روف، أدت إلى إنهيار كارثي لنسبة مؤيديه حيث بلغت 38 في المئة فقط. وبدلاً من أن يجعل من العراق بلداً عميلاً أو بديلاً للسعودية، أثارت الحرب موجة من العواطف المعادية لأميركا لدى العرب والمسلمين وفي العديد من دول العالم. وبدلاً من إلحاق الهزيمة بالإرهاب، تحول العارق إلى مرتع واسع لتوليد الإرهابيين. وأخيراً فقد برهنت الحرب على أن قدرات أميركا الحربية لها حدود وليست غير قابلة للقهر.
وأما خيال المحافظين الجدد الذي دفعهم إلى الاعتقاد بأن «دمقرطة» الشرف الأوسط بالقوة تتفق والمصالح الأميركية والإسرائيلية فقد آلت الحرب إلى خلق منطقة يسودها عنف لا سابق له وفوضى ونزاع طائفي يهددان بالانتشار وبالانتقال من ساحة الحرب العراقية إلى حدود إسرائيل نفسها.
في حدين له مع مجلة «نيويوركر»، قال برينت سكاوكروفت بأنه كان على أميركا أن تركز اهتمامها على حل النزاع العربي الإسرائيلي بدلاص من شن حرب ضد العراق. وهذا الرأي لا يزال صحيحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكن هل سيصغي بوش القابع في حصنه إلى هذا الرأي؟