كان يمكن لبعض الانتقادات التي وجهت لـ"إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" أن تكون اكثر إقناعا لو أنها كانت أقل تلهفا على رميه بالطائفية، واقل تسرعاً إلى اتهامه بالاستبعاد أو حتى الاستئصال، أي باختصار لو كانت أكثر تروياً وأقل غريزية. لقد وقعت ضحية تسرعها، لم تستطع إقناع أحد أنها جادة، ولا بالخصوص أن مصدريها أكثر وطنية وديمقراطية، من منقوديهم.
يفترض أن الطائفية هي صفة للإعلان ذاته، فيما الاستبعاد والاستئصال صفتان لما يفترض أنه إغفال لقوى معارضة أخرى. الصفة الأولى إسقاطية ببساطة، تقول شيئاً عن مطلقيها أكثر مما تقول أي شيء عن الإعلان والقوى التي أصدرته. وقد يناسب الإشارة إلى أن مستسهلي رمي المعارضة بهذه الصفة هم أنفسهم ممن لا تنتهي لجلجتهم و"مجادلاتهم في المحسوس" عند تقييم النظام وسياساته. ليس الأمر ازدواج معايير على الأرجح بل شكل مساهمة ما في الصراع على السلطة.
أما المأخذ الثاني، الاستبعاد بل الاستئصال، فيحيل إلى لا توافق قديم في الحساسية الفكرية والنزعات النفسية والسياسية بين تيارات معارضة. وفي جانب منه هو أزمة ثقة عميقة وتباعد وجداني ونفسي أعمق. وهو أكبر على مستوى الثقافة السياسية، أي التصورات والمعايير المؤسسة للتفكير السياسي والبرامج السياسية، منه على مستوى البرامج والمواقف المعلنة. استمرار هذه الحساسيات والبنى أكثر من ربع قرن يوحي بجذورها غير السياسية المحض. ونميل إلى الاعتقاد بأن الشاكين لن يشعروا بالارتياح، لا داخل إعلان دمشق ولا خارجه.
على أن مغزى تهم الطائفية والاستئصال أهم من عدم صدقها المحتمل. إن القلق والعصبية واستسهال نثر الاتهامات ونشر ثقافة الكراهية والامتناع حتى عن بذل شيء من الجهد لإخفاء مشاعر العداوة حيال تيارات وجماعات أهلية وعقائد دينية، تسهم جميعا في مفاقمة ما نسميه أزمة الثقة الوطنية. هذه الأزمة والأجواء المسمومة المميزة لها هي ما يتعين الاهتمام به من قبل ائتلاف إعلان دمشق كأكبر خطر على التغيير الديمقراطي في سوريا.
والأعراض هذه محسوسة في المجتمع الأهلي السوري وفي أوساط ناشطين ومهتمين بالشأن العام بدرجة ربما تفوق ما يلمس منها في سلوك النظام المعلن. ولا ريب أنها هي التي أملت بعض الفورانات الانفعالية التي قفزت فوراً نحو الطائفية والاستئصال. بعض آخر من الفوران، ربما أشد إسفافاً، صدر بلا ريب أيضاً عن وكلاء للنظام، أو بالضبط للمكون الإيديولوجي الأمني منه (تمييزاً عن المكون الحزبي العسكري). وبالإيديولوجي لا أعني البعثي الذي يجمع بين الوطنية والفلاحية والمرتبط بتجربة 1963 المكونة (استيلاء بالقوة على السلطة) بل الفئوي المقنع بعلمانية متشددة والمرتبط بتجربة مكونة أخرى هي 1980 (استيلاء بالقوة على ... المجتمع).
"أكثرية" (وأقلية)، "آخرون" (وأولون)
على أن أشد ما تخفق فيه الانتقادات التي وجهت لإعلان دمشق هو كشف ثغرات حقيقية في الإعلان. بالخصوص في الفقرة التي أثارت جدالاً واسعاً: "الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب. تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه، وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا، ومن خلال الاعتدال والتسامح والتفاعل المشترك، بعيداً عن التعصب والعنف والإقصاء. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة". الفقرة ركيكة الأسلوب، نثرية اللغة، مشوشة الأفكار، وترتكب فوق هذا كله خطأين فكريين ـ سياسيين خطيرين.
الخطأ الكبير الأول أنها تقوم بنقل غير شرعي لمفهوم الأكثرية من مجال سياسة التعاقد إلى مجال سياسة الهوية. ينتمي مفهوم الأكثرية والأقلية إلى السياسة الحديثة القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية والانتخابات الحرة والشراكة الوطنية. وتكمن تحتها إجراءات ومعارف مثل علم السكان والإحصاءات الوطنية والتصويت وسبر الرأي العام. الأكثرية والأقلية مفهومان متحولان في سياسة التعاقد لا مكان لهما في سياسة الهوية التي تقوم على الاختلاف والتمايز الوراثيين والثابتين، وفي أقصى الحالات على الأصنافية. ورغم أن علم الاجتماع السياسي يستخدم المفهومين إلا أنه يفعل ذلك في سياق تحليلي لا في سياق معياري كحال الوثيقة التي نناقشها هنا. أما الكلام على أكثرية وأقلية انتخابية أو برلمانية فلا يحيل إلى هويات إلا عرضاً ومصادفة. ورغم أن "إعلان دمشق" ليس برنامجاً ولا دستوراً فإنه ينتمي إلى دائرة الوثائق العملية التأسيسية وليس الوثائق النظرية التحليلية. وفي هذا النوع من الوثائق يصح القول إن استخدام مفاهيم الأقلية والأكثرية الدينية خطأ فاحش ومنبع للتوجس وعدم الثقة. هناك مواطنون سوريون متساوون هنا كما يقول الإعلان ذاته في فقرة أخرى، لا أقلية ولا أكثرية، وواضعو الإعلان مطالبون بتصحيح خطئهم، لا بالصمت عليه. الشك في دوافع بعض من انتقدوا هذه الفقرة لا ينبغي أن يمنع من تصحيح ضروري. ونميل إلى الاعتقاد بأن ما فل الحس النقدي عند واضعي الإعلان شيئان: أولهما رغبة سياسية في "تأليف القلوب" حوله، والثاني هو ربما إرادة القطعية مع خطاب علمانوي لا نقدي ولا يعي شروط تكونه. غير أن البقاء عند لحظة مراجعة أو تنقيح نزعات لا ديمقراطية لا يتيح تركيبا سياسياً وطنياً من النوع الذي طمح إليه الإعلان في توجهه العام وفي فقراته الأخرى.
الخطأ الفكري السياسي الآخر واضح في الجملة التي تختم بها الفقرة نفسها: "مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة". "الآخرين"؟ من هم الأولون إذن؟ هل هم المسلمون؟ أو ربما المسلمون السنيون فقط كما تيسر القول لبعض نقاد الإعلان ومهاجميه؟ وما وجه عطف "الانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم"؟ (اقتبس هنا بحرية ملاحظات وردت في مقالة لمحمد الحاج صالح بعنوان: "نعم، يجب تشريح ونقد إعلان دمشق"، موقع "الرأي"، 20 تشرين الأول، 2005) سياق الإعلان يوحي أن المخاطبين هم السوريون جميعاً، فمن أين أتى الآخرون إذن؟ هنا أيضاً ينقل الإعلان مفهوماً ينتمي إلى رطانة حداثية جوفاء إلى وثيقة سياسية يفترض أنها تأسيسية. يخفق أيضاً في رؤية الفرق بين سياق تحليلي، سواء كان تاريخيا أو سوسيولوجيا، قد يمنح بعض الشرعية للمدركات المذكورة في الجملة المقتبسة، وبين سياق سياسي عملي لا يمكن أن تعني في إطاره إلا سياسات هيمنة دينية. هنا أيضاً ثمة فشل في التركيب. إذ لا ريب أن واضعي الإعلان يدركون حساسية المسألة الدينية والطائفية، لكنهم ربما سمحوا لمقتضيات التعبئة أن تشوش بصيرتهم. أرادوا إعلان تمردهم على التحريم السياسي السلطوي والعلمانوي فوقعوا في محظور أخطر: مفهوم ديني للأمة، مفهوم ينسف المفهوم التعاقدي للوطنية (بالتقابل مع المفهوم العقيدي) الذي يحاول "إعلان دمشق" ذاته أن يؤسس له. بعبارة أخرى، إذا كان غير المسلمين آخرين، فإن القوى الموقعة على "إعلان دمشق" توقع على إعلان نفولها وعدم الحاجة لها. هنا أيضاً يتعين إصلاح الإعلان وإعادة صياغته لمصلحة تصور تعاقدي للوطنية السورية ينأى بها عن سياسات الهوية والمفهوم العقيدي للوطنية.
يوم 30/10 أعلنت "اللجنة المؤقتة لإعلان دمشق" عن قيامها، وقالت إن الموقعين عليه "يتلقون بصدر رحب كل الانتقادات التي وضعت موضع العناية والاهتمام في إطار العمل المستقبلي". أول ما يتعين فعله في تقديرنا هو تصحيح الفقرة الثالثة من الإعلان، لا لتكون أكثر تطميناً للأطياف السورية اجمع، ولكن كذلك لتكون أقرب لروحية الإعلان العامة ذاتها. لا يصح أن يحول دون ذلك إسفاف بعض الانتقادات التي وجهت لها.