بعد جعجعة صاخبة طعمهّا زلم البعث (من أولئك الديناصورات المعمرة،الآيلة للأنقراض حالياً..) بالإتهامات والتخوين و"التفاسير" المضحكة المبكية طالت شخص القاضي الدولي ديتليف ميلس" الصهيوني" والذي "يضمر في نفسه شراً مستطيراً ضد سوريا"، وكان ينبغي عليه قبل كل شيء "مراجعة ماضيه قبل التلفظ بكلمة تدين بلادنا!". بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبقية "الدستة" التي أصدرت القرارين الدوليين 1559 و1636 على التوالي، وربطّ كل هذه الدول ب"الأجندة الإسرائيلية/ الأميركية" الهادفة "لضرب وتطويق" سوريا. بعد تلك الجعجعة، التي لم تقدم أو تؤخر، كما توقع النظام ذلك أيضاً،ظهرت بعض تباشير "تغييرات ما" فيما يخص الحالة السياسية المتكلسة، والإنفراجة الجزئية في المشهد السوري المتعلق بحقوق الإنسان والمعارضين، والإنفتاح على الشعب بالدرجة الأولى، وكل ذلك كما لايخفى للبيب أو متابع للشأن السوري منذ سطو حزب البعث العربي الإشتراكي على الحكم عام 1963م جاء تحت وطأ وتلويح العصا الأميركية المدعومة هذه المرة بحنق فرنسي حقيقي بعد أن وصل طغيان وإستهتار( وكذلك غباء) النظام السوري إلى ذلك الحد الفجائعي والكارثي الذي أصبح فيه لايطاق أبداً.
ظهرت إذاً بعض بركات ميليس: لقد إنطلق (إعلان دمشق) الذي يدعو للتغيير الجذري، أي رحيل النظام السوري ورهطه من حاشية الفساد واللهط والشعارات، و أفرج النظام عن عدد كبير من المعارضين، قال إنهم مائة وتسعين معارضاً سياسياً بالتمام والكمال، وكان من بينهم الدكتور عبدالعزيز الخيّر أحد أشهر المعارضين السوريين الديمقراطيين، والذي حكمت عليه دولة البعث المخابراتية بقضاء أثنين وعشرين عاماً في السجن لمعارضته النضام الحاكم وتلفظه برأي مخالف لما دأب عليه "رفاق دمشق العروبة". ثمّة كذلك، بعض الحديث، عن إمكانية أن "يمنّ" النظام بالجنسية السورية على حوالي تسعين ألف كردي سوري( من أصل مائة وخمسين ألفاً) في إطار سعيه "لإغلاق هذا الملف بشكل كامل ونهائي"..!.
ثمّة حديث متشعب ومعلومات كثيرة ومتضاربة عن كيفية تصرف النظام السوري مع السيد ميليس ولجنته المتسلحة بقرارين دوليين( كل واحد منهما يهد جبل)، وخصوصاً والسيد ميليس أشارّ في تقريره الذي سلمه للأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، وقرأه فيما بعد أمام مجلس الأمن الدولي، إلى شخصيات محورّية وتلعب دوراً حيوياً ومفتاحياً في تسيّير وقياد الحكم في دمشق. وكان الحديث بالتالي عن "عظام الرقبة" ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري وقائد حرسه الجمهوري، وآصف شوكت صهر الأسد و الضابط القوي ومسؤول المخابرات العسكرية، والإصرار على الإستماع إلى الأخير وفي لبنان تحديداً، جاء ذلك بمثابة الهزة البنيوية التي أتت أقوى من القرارين الدولييّن على أسماع أهل الحل والربط الحقيقيين في دمشق. فكيف إذاً سيكون التصرف مع هذه الدعوة/الأمر، وماهو القرار الذي سيتخذه الأسد لتنفيذ مطاليب ميليس، التي لاضمان في أنها لن تتوسع لتشمل ماهر في وقت لاحق والأسد نفسه بعد ذلك، ربما؟.
هناك مخاوف من أنّ تسليم شوكت والضباط الخمسة الآخرين(بهجت سليمان، جامع جامع،عبدالكريم عباس،ظافر اليوسف، ورستم غزالة) لميليس لن ينقذ الوضع، بل ربما يعقده أكثر في حال تقديم السيد ميليس أدلة جديدة ضد هؤلاء وإصداره قراراً يقضي بوضع اليد عليهم وإلحاقهم بالمسؤولين الأمنيين اللبنانيين الأربعة(ريمون عازار، جميل السيد، علي الحاج، جميل السيد، ومصطفى حمدان) المسجونيين حالياً في بيروت، آنئذ، قد تتطور الأمور وتتصاعد، بإعتراف هؤلاء، وعلى نهج عليّ وعلى أعدائي، على أطراف سورية أخرى، قد يكون رأس النظام واحداً منها، وأهمها بالتالي...
لكن وبموازاة ذلك كله،هناك حديث عن تغيير ما يٌحضر لدمشق وطبخة تطبخ في عدة عواصم قرار دولية، ربما يكون إنقلاباً عسكرياً يٌطيح بالحكم الحالي، يقوده شخص أو مجموعة مدربة قريبة من الغرب، وعلى أتم الإستعداد لإحداث "تأقلم" مع الوضع الجديد في المنطقة، ذاك الوضع الذي لم ينجح نظام الأسد وأجنحته في إستيعاب تطوراته. على أن تكون هذه الثلة الإنقلابية من نفس المنظومة الطائفية/التحالفية التي تحكم سوريا حالياً،أي نموذج شبيه بنموذج إنقلاب نواكشوط و(المجلسالعسكري للعدالة والديموقراطية) الذي تصدرّ المشهد بعد الإطاحة بنظام ولد أحمد الطايع الشمولي.
وهناك تقارير تٌنشر كل يوم في الصحافة الغربية عن إعتكاف واشنطن وحلفائها لإختيار الخلف/البديل ليحل محل الأسد ونظامه في حال "وقوع الساعة" ودنو أجل النظام السوري. لكن ثمّة في المقابل،حديثٌ عن "تأقلم" الولايات المتحدة مع النظام السوري بعد "إبرام عدة صفقات" يكون النظام قد غيره جلده وأذعنّ لكافة الشروط والمطالب الأميركية( منع تسلل الإرهابيين للعراق والتعاون الجاد مع واشنطن وبغداد لتثبيت الأوضاع في بغداد، والعمل على إستقرارها، نزع سلاح منظمة حزب الله الإصولية وطرد الفصائل الفلسطينية المعادية للعملية السلمّية مع إسرائيل، و عدم التدخل في الشأن اللبناني وسحب جميع المخابرات من هذ البلد، مع تأجيل أميركي دائم لملف الحريات وحقوق الإنسان كما هو واضح ومطروح...)، وتلعبٌ بعض الدول العربية دوراً بارزاً في سبيل أن تأخذ واشنطن بهذا الإنموذج في التغيير والتعامل مع النظام السوري، لوضوح عاقبته وبعده عن مخاطر المواجهة المسلحة والتدخل العسكري.
فهناك بالإضافة إلى عرّاب التسويات في المنطقة الرئيس المصري حسني مبارك، كلٌ من قطر والسعودية والكويت. ولعلّ الجولات المكوكية لمسؤولي هذه الدول إلى دمشق وواشنطن، وكذلك جولات وليد المعلم نائب وزير الخارجية السوري المستمرة منذ "ميليس1" في نيويروك، توحي بسعي النظام العربي المحموم لضبضبة الأوضاع وإعادة الملفات الأميركية المفتوحة مع دمشق إلى أدراجها، وتغريمها بتنفيذ كل الأجندة الغربية مع التضحية ببعض الرؤوس الكبيرة( قد يكون آصف شوكت أبرزها) كثمن مقبول للإبقاء على الأسد، وكل ذلك بحجة "الحفاظ على إستقرار الأوضاع في المنطقة، وعدم فتح جبهة أخرى للتصعيد، وإستقطاب الإرهاب الإسلامي"، أو حتى التلويح بالبديل الأخطر لنظام الأسد: حركة الأخوان المسلمين الدينية الأصولية، وخطورة حكمها لبلد تعددي، وموزاييكي مثل سوريا.
هي إذاً أوراق متعددة يلعب بها المسؤولون العرب، ويتناغم النظام في دمشق معها بكل هدوء( كقراره بتأسيس محكمة خاصة ومستقلة لمتابعة قضية إغتيال الحريري، والإعلان عن قبوله التام للقرارات الدولية كأمر واقع وتعاونه معها، في المثال المرئي لا الحصر...). كل ذلك في سبيل الخلاص من السيف الأميركي والخروج من تحت مرمى النيران الأميركية التي لاترحم.
ولعلّ دور الرئيس مبارك يبرز هنا بوصفه عرّاب النظام العربي التقليدي الذي يسعى للحفاظ على هذا المنظومة الشمولية بكل أهوالها وبلاويها وشموليتها بحجة مايدعوه بالحفاظ على الإستقرار والسكون( لنتذكر هنا دوره في إنهاء الأزمة التي نشبت بين دمشق وأنقرة في عام 1998 ونصيحته للأسد بالتعاون، وإخراج زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من سوريا، مما أفضى لإتفاقية أضنة السرية البنود، والتي قيل إن النظام السوري تنازل بموجبها عن لواء الإسكندورنة وإذعنّ تماماً للأتراك بتسليمهم كل عناصر حزب العمال الكردستاني المتواجدين في سوريا). وبمناسبة الحديث عن تركيا، فيهمنا القول هنا، إنها هي الأخرى بدأت بالإبتعاد شيئاً فشيء و نأت بنفسها بشكل ملفت عن نظام دمشق بعد تطورات تقرير ميليس، والحديث عن تورط إستخبارتي سوري في عملية إغتيال الحريري...
يبقى المهم، في ظل كل هذه التطورات، والتي تتسارع وتستجد مع كل إشراقة شمس، هو المواطن السوري البسيط، والذي يتحسس مصيره ومصير عياله في خضم هذه اللعبة الخطرة التي أدٌخلت سوريا فيها(الوطن والإنسان) بسبب جشع وإستفراد ثلة من المخابرات الحاكمة والمصالح الإقتصادية البليونية بالحكم في دمشق، وقيّاد البلاد بحسب أهوائها ومصالحها الفردية(أو المجموعاتية) الضيقة. ثمّة أخبار تقول إن هناك ترقباً وحالة ذهول يمر بها السوريون وهم يشاهدون بلادهم( ونعود لنكرر: بسبب النظام وجشعه ومفايوزيته الطائشة) تغرق في المجهول وتتموضع لحظة بعد أخرى في مواجهة المجتمع الدولي برمته، جراء تورط رموزها الأمنية/الإستخباراتية في جريمة قتل رجل كبير ومهم مثل الراحل الحريري، المتميز بوزنه الشعبي والإقتصادي وعلاقاته الدولية المتشعبة...
السوريون وبكل طوائفهم وأثنياتهم مقدمون على أيام صعبة ومتغيرات قد تعصف ببلدهم وتضعها على كف عفريت، وليس من حل أو مجال سوى الترتيب والإتفاق على كيفية ردم كتل الركام ومخلفات البعث المرضيّة التي أٌغرقت سوريا بها: أثنياً ودينياً وطائفياً، وليس بخاف أو جديد القول أن هناك شحناً طائفياً في البلاد وتحفزاً من طوائف تحسب نفسها قد غٌبنت وأٌستبعدت وظٌلمت ضد طوائف أخرى حٌشرت ظلماً في خانة النظام والمدافعين عنه.
هناك ضرورة للتيقظ والحذر من الألاعيب التي قد تلعبها بعض القوى والأجنحة النافذة في النظام لجر البلاد إلى مواجهة أثنية أو طائفية لضمان بقائها وإطالة عمرها لأطول فترة ممكنة. وهناك حديث عن "خطط جاهزة" تحركها أجنحة ومراكز قوى ذات إمكانيات هائلة في عدة مناطق من سوريا لخلق إضطرابات ومصادمات أهلية تحدث ضجة وبلبلة كبيرة محلياً وإقليمياً.
ثمّة إذاً حاجة كبيرة للحذر، وثمّة كذلك، حاجة أكبر لإستنهاض المثقف السوري(العربي والكردي وأبناء بقية الأقليات..) ودوره لسد الطريق أمام مثل هذه المحاولات: وهنا لاأملك سوى دعوة كل السوريين للتيقظ والحذر والإعتماد على التاريخ والجيرة الطويلة لتخطي هذه المرحلة الخطرة من تاريخ بلادهم بخير وسلام، وعدم تكرار سيناريوهات نهب وتخريب للأملاك والمنازل مثلما حدث في مدن القامشلي والحسكة وغيرها أثناء تحريض البعثيين وعناصر المخابرات لأبناء العشائر العربية الجارة على نهب منازل وأملاك المواطنين الكرد، وهو ماضرب في عمق الوحدة الوطنية السورية، وأحدثّ شرخاً في العلاقات الأخوية الطيبة بين الكرد وبعض العشائر العربية في محافظة الجزيرة: مما يٌوجب التخطيط الحثيث لتفادي مثيل تلك الأحداث، وفي تلك المناطق المغبونة(والساخنة..) في قادم الأيام...