أراد بن غوريون ألا تكون إسرائيل دولة شرق أوسطية، متخلفة، بعيدة عن الحضارة الغربية. في الوقت نفسه أراد كل سياسي إسرائيلي أن تكون دولة اليهود معترفاً بها من شعوب المنطقة ودولها. العنف وحده يتفصد من ثنايا هذه المفارقة التي لم تلبث أن انقلبت على نفسها. فحيث أرادت إسرائيل ألا تكون دولة من دول المنطقة آل أمرها إلى أن تكون واحدة منها: دولة قمعية، تقتل كثيراً، نازعة للاستقرار، تقوم على الاستثناء. وحيث أرادت أن تكون من المنطقة، أي أن تنال اعتراف الدول العربية وتعتبر دولة طبيعية، فإن عدوانيتها، وعدم اعترافها بالمساواة مع دول المجال العربي وشعوبه، وفرط تسلحها، وبثها ثقافة عنصرية حيال العرب والفلسطينيين... غرّبتها عنها وأخرجتها عملياً منها.
لا تملك إسرائيل حس الانتماء للمنطقة، إنها في <<الشرق الأوسط>> من دون أن تكون منه أو تريد أن تكون منه (على كل حال لا أحد يرغب أن يكون في <<الشرق الأوسط>>، ربما إلا الأميركيين وبالتأكيد ليس العرب). هذا يدفعها إلى أن تعمل على أن تنتمي المنطقة لها (تغدو تابعة لها)، أو أن تتصرف كقلعة محاطة بالأعداء من كل جانب. لقد قادت رغبة إسرائيل في التفرّد والاختلاف، لا في الشراكة والانتماء، إلى أن تغدو دولة شرق أوسطية تطمح إلى تأبيد ذاتها Israel forever بطريقة لا تفكر فيها دولة طبيعية، لكنها طريقة تشكل نسخة طبق الأصل عما تفكر به أنظمة عربية عديدة. لا شيء يشبه forever الإسرائيلية اكثر من أبدية الأنظمة العربية. يوحدهما شعور بالطروء والهشاشة والزوال، ودافع لا يرتوي إلى مراكمة القوة وسحق الخصوم.
من جهتها، الدول العربية، وبتناسب مع إخفاقها في التصدي لإسرائيل، استسلمت لنظم تقوم على الاستثناء والعنف والقرابة. لقد فشلت في آن واحد في لجم إسرائيل وإيقافها عند حدّها، وفي اقتراح نموذج للسياسة والدولة أكثر عدالة وحرية من النموذج العدواني الإسرائيلي. بعبارة أخرى اقترن العجز العسكري أمام العدو باستنساخ نموذج علاقته مع محيطه العربي، ونقله إلى علاقة أنظمة الحكم هذه مع شعوبها. ليس من المبالغة في شيء القول إن هذه العلاقة الإسرائيلية تجمع بين كثير من العنف والكراهية ونزعة الخلود. والنموذج هذا كما نعلم يشبه تماماً علاقة دولة جنوب أفريقيا العنصرية بكل من رعاياها السود والدول الأفريقية المجاورة. ولا نظننا نبالغ أيضا إن قلنا إن هذه العلاقة الإسرائيلية تفرز عنصريتها الخاصة بين حاكمين امتيازيين وغير منتخبين ومحكومين محرومين وبلا حقوق. الطائفية مظهر عارض للعنصرية هذه، أعني أن عنصرية الأنظمة لا تنبعث منها، بل تعثر عليها وتجعل منها منطلقاً لتمييزيتها وركيزة لدوامها.
بالإجمال، ثمة نظام عربي إسرائيلي موحّد، يجمع أنظمة الحكم العربية والكيان الإسرائيلي. هذا النظام ليس غير ديموقراطي فقط بل إن الديموقراطية غير ممكنة إلا ضده.
ليس هذا النظام ثمرة تفاهم مباشر بين الدول العربية وإسرائيل أو تواطؤ بينهما. الواقع أن ملامحه الراهنة تكونت عبر مواجهات وبدأت ترتسم بعد حرب تشرين 1973، حين تبين أن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يُقهر، لكنه ممنوع أن يُقهر، وأنه لا يمكن بحال السماح للعرب بالانتصار على إسرائيل. كانت السياسة الممكنة حيال هذا الدرس هي تسوية من نوع ما، لا يمكنها أن تكون عادلة، لكنها قد تستمدّ تبريرها المحتمل من التحول نحو استراتيجية مدنية لبناء الدولة والمجتمع، أي منافسة إسرائيل والتغلب عليها في المجالات السياسية والثقافية والأخلاقية؛ أو الاستمرار في حرب لا تفضي إلا إلى هزائم ثقيلة. هذا الخيار الأخير غير معقول لكنه هو بالضبط الذي رست عليها أنظمة حكم كانت غير منتخبة فأضحت فاشلة وطنياً. لماذا؟ لأن وظيفة الحرب تحولت من مواجهة العدو والسعي إلى إلحاق الهزيمة به إلى إضفاء شرعية على الأنظمة الفاشلة هذه، وتسهيل تحكمها بالمجتمعات المحكومة، وتقييد التعدد الداخلي فيها، وتسويغ أنظمة استثناء أبدية. بعبارة أخرى، أضحت الحرب وظيفية، موجهة نحو الداخل. الواقع أن الحرب صارت نظام سياسة تعبوية وقانون تحكم وثقافة طوارئ وخطاب استنفار، وكفت في الوقت نفسه أن تكون حربا مادية مع العدو المفترض. الحرب هذه وهم طبعاً، لا تقع أبدا لكنها موجودة دوماً، بل هي الشيء الوحيد الموجود. هذا ما نسمّيه وهم الميدان، وقد جعل حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، طوال عقود، ميداناً للوهم.
هكذا انتهت النظم العربية إلى أن تكون مثالاً للاستثنائية والشذوذ من حيث أرادت العدالة عبر مواجهة المعتدين. وهي تميل أكثر وأكثر إلى أن تشبه الكيان الغريب بقدر ما تصرّ بلاغياً على مواجه مستحيلة معه وتأسر مجتمعها في وهم الميدان. ونميل إلى إقامة صلة بين ما تتعرض له كياناتها من احتمالات تفكّك وانهيار وبين إدمانها وهم الحرب. فهي لا تستطيع أن تستثمر في هذا الوهم ومردوداته المحتملة من الشرعية دون أن تقع ضحية وهمها، أي دون أن تصنع حروبها المناسبة، وتمارس العنف على شعوبها، وتطبع الاستثناء في حياة رعاياها المناكيد، وتحطم النسيج البشري والإنساني لمجتمعاتها. إن وهم الحرب يتيح لحم التناقض بين الطوارئية والخلود، بين الاستثنائية والبقاء إلى الأبد؛ لكنه لا يدوم هو نفسه دون حروب وحُريْبات أضحت هي الأخرى مستحيلة. إذا بدا أننا نعيش في المستحيل فلأننا نعيش فعلاً في المستحيل: حرب داخلية مستمرة تعوّض حاجة تقتضيها الشرعية إلى حرب مستحيلة ضد العدو، وإرادة جمع الطارئ والأبدي تدفع نحو تحطيم وعي الإنسان أكثر من تحطيم أكبر عدد من الناس، وإن اقتضى ذاك على الدوام هذا. في المآل النهائي الذي نرى وقائعه تترى أمام عيوننا، قوضت قدرة مجتمعاتها لا على إنتاج التغيير بل ربما على محض تحمّل وقوعه.
على أن الدول التي أقامت تسوية مع إسرائيل لم تتجه نحو وضع أفضل. هذا لأن تحوّلها نحو تسوية يستحيل أن تكون عادلة، كما قلنا، لم يكن انعطافاً نحو استراتيجية مدنية. لقد تحوّل نظام الحكم المصري إلى حراسة صلحه مع إسرائيل بدلاً من أن يحرس هذا الصلح تحوله نحو سكة البناء المدني.
بالنتيجة قام الصلح بدور مماثل لدور الحرب في الدول غير المصالحة: منح <<طبقة>> الدولة استقلالاً عن المجتمع غير مؤسس اجتماعياً واقتصادياً، الأمر الذي يقف عائقاً في وجه التحوّل الديموقراطي ويضعف قدرة المجتمع على التأثير على الدولة. على أن استقلال الدولة هذا لم يكن مرتبطاً بالصلح بحد ذاته، بل بوقوع الصلح هذا في سياق تحوّل النظام نحو الرعاية الأميركية الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية. ومن المفهوم أن علاقة متينة مع الأميركيين تعفي من الحاجة إلى علاقة وثيقة مع المجتمع المصري، وتضعف الروابط بين إعادة إنتاج النظام لنفسه وتلبية مطالب الشعب المصري.
ما نريده أن الرعاية هذه كان لها دور مماثل لدور كل من الحرب الباردة، ووهم الميدان، والبترول، في تعزيز استقلال الدول عن المجتمعات، وتالياً رسوخ نظام زبوني أو محاسيبي في المنطقة، يقوم على القوة الأميركية وعلى الولاء لها وعلى الاستثناءات. هذا النظام هو ما نسمّيه النظام العربي الإسرائيلي أو <<النظام الشرق أوسطي>>.
إن دراسة النظام العربي الإسرائيلي تمرّ حتماً بنقد وهم الميدان بكل تجلياته، بما فيها العقيدة القومية التقليدية التي ارتدّت عقيدة مواجهة بلا مواجهة، وبما فيها العقيدة الإسلامية الجهادية التي تسير على درب تلك. إيديولوجية المواجهة تُخفي استقرار أسس النظام وتحجب نظاميته العميقة. لكن نظاميته هذه ينبغي ألا تخفي قيامه على عنف هائل ومستمر لديكتاتوريات محلية، ولسلطة إقليمية دكتاتورية وعنصرية معا (إسرائيل)، ولسيادة دولية امبراطورية ودكتاتورية هي الأخرى. إن اللااستقرار الشهير للشرق الأوسط هو ثمرة الفعل المتآزر لهذه الدكتاتوريات الثلاث.
لا مجال لدمقرطة هذا النظام الذي يقوم على العنف والاستثناء والزبونية دون تقويضه. دون تفكيك عرى التفاهم بين دكتاتوريات ثلاث عنيفة واستثنائية.
هذا نظام يقوم اليوم على تفاهمات علنية أو ضمنية راسخة (وإن لم يتأسس عليها، بقدر ما استدعاها) تصون استقرار التفاعلات القائمة بين عناصره على تفوق إسرائيلي وسيادة أميركية ودكتاتوريات عربية. النظام الداخلي في أي من الدول العربية ليس نظاما داخليا منذ أكثر من ثلاثين عاما، إنه شأن دولي، أو بالتحديد أميركي إسرائيلي، وبدرجة اقل أوروبي. والولايات المتحدة ليست خارج هذا النظام لتجلب له الديموقراطية. إن لاديموقراطيته ولاديموقراطية مكوّناته وثيقة الصلة بنوعية العلاقة غير الطبيعية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية. إن النقد الجدي والجذري الحقيقي للسياسة الأميركية في <<الشرق الأوسط>> هو ذاك الذي يرتكز على كونها قبل كل شيء قوة معادية للديموقراطية.