هل يمكن النظر إلى <<الإشكال الوزاري>> بصفته <<وقف إطلاق النار السياسي>> الأول في أزمة مرشحة للتصاعد؟ لولا الخوف مما قد تستدعيه الكلمات لكان أمكن إطلاق هذا الوصف على ما حصل الخميس الماضي. إنه إنذار. والمهم أن محاولة تطويقه نجحت. وقد لعب الوزير غازي العريضي، ببراعة، دور الإطفائي، وساعدته في ذلك رغبة الفريقين في التطويق.
إلا أن قراءة سريعة لما هو متوقع من أحداث في المستقبل، تشير إلى أن الضغط على الوضع اللبناني سيشتد. وثمة وجاهة للمطلب القائل بضرورة البحث الجدي والمعمّق في العلاقات اللبنانية السورية وعدم التوقف عند المطلب المحق بالرد على كلمات كان يمكن تفاديها. إن ما قاله رئيس الحكومة فؤاد السنيورة أمس مطمئن. إلا أنها طمأنينة نظرية تنتظر وضعها على محك الممارسة اليومية وترجمتها حيال قضايا عملية وتفصيلية.
لا ضرورة لإيهام النفس بالقدرة على إنتاج وطنية لبنانية جامعة عبر توتير العلاقة مع سوريا. إن أي مراقب، ولو جاء سائحاً، يمكنه تمييز ثلاثة أمزجة لبنانية متباينة حول هذا العنوان: المزاج السلبي النضالي، المزاج السلبي الانتظاري، المزاج الإيجابي.
يتشكّل المزاج السلبي النضالي من رافدين، ثانيهما هو الأهم في المرحلة الحالية. وهذا الرافد (تيار <<المستقبل>>) يمزج لبنانوية مستجدة بعروبة وديعة، علماً بأن للاثنتين مآخذ على السياسة السورية وتعاطيها مع لبنان. ويبدو، أحياناً، أن العروبة الوديعة تلعب، فحسب، دور الغطاء التبريري للأولى. يُنتج هذا المزيج شحنة توتر تميل أحياناً إلى إبداء قلة اكتراث بالمصير السوري العام طالما أن لبنان نجح في تحصيل <<حقه>>.
أما المزاج السلبي الانتظاري، المعبّر عنه سياسياً في <<التيار الوطني الحر>>، فيعتبر أصحابه أن ما أصابهم من السياسة السورية وما أصابها منهم، يُعفيانهم بعض الشيء من التأكيد اليومي لنزعة لبنانية متوترة. ومن الواضح أن قيادة هذه البيئة تعتبر أنها غير مضطرة لممارسة نضالية طالما أن آخرين يؤدون المهمة، وطالما أن الذين يؤدون المهمة أغلقوا باب المشاركة في السلطة.
المزاج الإيجابي يمثله <<حزب الله>> و<<أمل>>. يعتبر طرفا هذه الثنائية أن لبنان محكوم بأن يخوض المعركة إلى جانب سوريا
ضد استهدافات دولية. ولا يثنيهما عن ذلك إدراك غير معلن بأن أخطاء ارتُكبت في لبنان. لن ترضى هذه القوى بأن يؤخذ لبنان إلى حيث يُستخدم، بإرادة بعض بنيه وبقرار <<دولي>>، كأداة ضغط ضد <<الحليف الاستراتيجي>>.
لا تختصر هذه اللوحة المشهد العام طبعاً ولكنها تعبّر عن اتجاهاته الرئيسية المنظمة، التي تشكل في ما بينها توازناً شديد الهشاشة. تعيش هذه الاتجاهات توترات. تتساجل مباشرة ومداورة. إلا أنها مرتضية، حتى الآن، إبقاء اللعبة تحت السيطرة، وليس مستبعداً أن كل واحد منها يفضل أن تحصل المواجهة الأولى بين الاثنين الآخرين.
من الجائز طرح السؤال عن إمكانية إنتاج توافق لبناني على مدى بعيد. إن ما حصل في المجلس الوزراي مؤشر قابل لشتى التفسيرات مع ميل إلى التقدير بأن الوضع سيزداد صعوبة مع تصاعد المواجهة بين سوريا و<<المجتمع الدولي>>.
لا وجود لقوة سياسية لبنانية تجاهر بالعداء لسوريا. ولكن ذلك لا يلغي أن ثمة أطرافاً في لبنان يضمرون عداءً مريراً لسوريا دولة وشعباً. ولذلك فإن الاختبار الفعلي لحقيقة المواقف لا يمكنه الاكتفاء بقراءة التصريحات والمواقف، بل يتوجب عليه التدقيق في كيفية ترجمتها بالملموس في الواقع.
يبدو، شكلاً، أن الإجماع قائم على مقولة <<إن لبنان لا يُحكم من سوريا ولا يُحكم ضد سوريا>>. ولكن في الإمكان تقديم عشرات الأمثلة المتناقضة على تجسيد هذه المقولة في السياسة.
لنأخذ، مثلاً، قضية استجواب الشهود السوريين. هناك، عندنا، مَن يتحرّق شوقاً لحصول ذلك في لبنان. وهناك مَن يميل إلى الرفض. يمكن للفريق الأول أن يختبئ وراء ديتليف ميليس والقرار 1636. كما يمكن للفريق الثاني التحذير من تحميل لبنان فوق طاقته. الفريق الأول يريد أن يثأر (لا علاقة لجريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري بالأمر). الفريق الثاني يحاول الجمع بين تطلُّب العدالة وعدم قطع الخيوط. ووراء كل من الطرحين يكمن تصوّر للعلاقات يمكن له الاختباء وراء شعارات فضفاضة عن <<الأخوة>>.
لنأخذ مثلاً آخر: الدعم الدولي للبنان. هناك مزاج لبناني يطلبه ويرتاح إليه ويعتبره فرصة. وهناك مزاج يقلق منه ويتطيّر ويتخوّف. الأوائل يعتبرون حضور اليزابيت ديبل الاجتماع التحضيري عنصر طمأنينة إلى مدى الالتزام الأميركي. الأخيرون يعلّقون على كلامها حول ارتباط الاقتصاد بالسياسة. الأوائل يقولون، صادقين، إن ديبل لم تحمل دفتر شروط معها. الأخيرون يقولون إن المشكلة هي في المناخ العام وإن الشروط حاضرة في مطالب أميركية معروفة حتى لو لم تطرح على هذا الاجتماع بالذات. باختصار، يقول الأوائل إن الولايات المتحدة دولة صديقة للبنان، في حين يجزم الأخيرون أنها دولة معادية للبنان والعرب والمسلمين وشعوب المنطقة.
إن العلاقة مع سوريا ليست جزءاً من السياسة الخارجية للبنان. إنها، في الواقع، جزء من سياسته الداخلية ومن صلات قواه وطوائفه ببعضها. ولذلك فإن المطالبة بالوضوح في السياسة الخارجية تنطلق، في ما تنطلق، بتحديد هذه السياسة أخذاً بالاعتبار موقف أصحابها من سوريا أيضاً.
لقد مرت مرحلة على لبنان قيل فيها إن السياسة الخارجية للبلد لصيقة بالسياسة السورية الخارجية ورجْع صدى عنها. أما اليوم فلا نعرف للبلد سياسة خارجية لأن لا توافق جدياً حولها. لا بل يبدو، أحياناً، أن الأكثرية الجديدة تبحث عمن يملأ الفراغ كأن تقول، مثلاً، إن قرارات تعني لبنان وعلاقته بسوريا هي من مسؤوليات <<المجتمع الدولي>> حصراً ولا دخل لنا بها. إن في هذا السلوك تبريراً متأخراً لسلوك سابق، وهو تبرير يفيد، في العمق، أن الحياد اللبناني مشروع مستحيل.