يتجه العراق نحو محطة سياسية جديدة: انتخابات تشريعية على قاعدة دستور دائم يفترض فيها أن تكون الحلقة الأخيرة في المسار الذي حدده قانون إدارة الدولة المؤقت، ويحصل ذلك في ظل استمرار العنف وتداخل أعمال الإرهاب مع أعمال المقاومة.
وفي ظل ثبات الرأي القائل بان الاحتلال عاجز عن حسم المواجهة عسكريا كما أن رافضيه عاجزون عن إرغامه على الجلاء بالقوة.
ستجري الانتخابات بعد أسابيع، بعد أن طرأت مستجدات تجعل منها عملية مختلفة عما سبقها في السنتين والنصف الماضيتين:
ـ القانون الانتخابي جديد. لقد ألغيت النسبية على الصعيد الوطني الشامل مع امل اعتمادها على صعيد المحافظات، وإذا كانت أثيرت اعتراضات على عدد المقاعد النيابية الموزعة على هذه المحافظات فان ذلك لا يلغي أن النتيجة المباشرة لذلك هي تراجع الأهمية التي كانت معطاة سابقا لنسبة المشاركة.
يعني ذلك بالملموس انه إذا اقترع 60% في محافظة و10% فقط في محافظة أخرى فان عدد ممثلي الأولى لن يتغير وكذلك عدد ممثلي الثانية والحصيلة من ذلك، في المعطى العراقي.
ان التوزيع المذهبي والعرقي للنواب لم يعد ترجمة لنسبة الاقتراع في البلد كله، لذا لا مجال لان يكون المجلس الجديد تكرارا لسابقه وبصورة خاصة لجهة تواجد العرب السنة فيه، سيزداد عددهم بصورة ملموسة بغض النظر عن إقبال العرب السنة على المشاركة.
ـ تحصل هذه الانتخابات بعد الاستفتاء على الدستور. ولقد شهد الاستفتاء كثافة إقبال العرب السنة(مقابل تراجع في التصويت في محافظات الجنوب).
والمعروف أن أكثرية سنية ساحقة رفضت الدستور ودفعت إلى الهامشية القوى التي شقت »الإجماع« داعية إلى الموافقة عليه.
ولكن يبقى ان مشاركة حصلت وان المشاركين سواء من رافضي الدستور أو قابليه سيكونون، ولو امتنع بعضهم، حاضرين في الانتخابات التشريعية.
فالحوافز التي تشجعهم على ذلك كثيرة، منهم يريدون ان يكونوا وازنين في التعديلات الدستورية التي يفترض الإقدام عليها وفي الشروح المقدمة لبنود تُركت غامضة من اجل ان يعطيها مضمونا المجلس الجديد.
إلى ذلك هناك من يريد نقل مطلب رفض الاحتلال إلى داخل الندوة بحيث يتمتع بحصانة قانونية وهو يرفع شعار المقاومة والدعوة إلى خروج القوات الأجنبية.
ـ تأتي هذه الانتخابات بعد التحرك العربي الذي تمثل بزيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى العراق، ويفيد هذا التحرك في إيضاح أن النظام العربي أعلن قبوله بالوضع الناشئ في العراق، وانه يشجع العملية السياسية وانه يحتضن ويحمي التوجه السني إلى المشاركة.
ـ لقد شهد العراق في غمرة التحضير للانتخابات إعادة تشكيل للوضع الشيعي. تغيرت تركيبة "الائتلاف"، لم يعد يضم تيارين رئيسيين هما "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
و"حزب الدعوة" (بفروعه العديدة) فقط، لقد انضم إليه بقوة التيار الصدري، بكلمة أخرى أصبح »الائتلاف« متشكلا أساسا من أطراف ذات مرجعية دينية ما أدى إلى خروج قوى وشخصيات ذات ميول علمانية أو معترضين على الدور المتعاظم لرجال الدين والعاملين في الشأن العام تحت إرشاد روحي.
ـ بقي الوضع الكردي على حاله،و لم يسجل على هذا الصعيد سوى انسحاب الحزب الإسلامي من التحالف مع الحزب الرئيسي وذلك في محاولة منه لاختبار قوته الشعبية الخاصة.
وإذا كانت نسبة التصويت المرتفعة في المرة السابقة معطوفة على المقاطعة العربية السنية، أعطت الأكراد وزنا برلمانيا يفوق وزنهم العددي فان توزيع المقاعد على المحافظات يمكن له هذه المرة أيضا أن يضمن لهم هذا الوزن "الفائض". ولقد اعترض كثيرون على هذه "الهوية".
ـ نجحت المحاولات التي بذلت من اجل تشكيل كتلة وسطية ذات ثقل شيعي مميز. الرمز الأول لهذه الكتلة هو أياد علاوي الذي نجح في أن يضم إليه قوى ترفض التعبير الطوائفي الخالص.
وتسعى إلى تقديم لوائح انتخابية تعكس التنوع المذهبي والعرقي. ثمة شخصيات سنية وازنة إلى جانب علاوي،وأحزاب علمانية مثل الحزب الشيوعي، كذلك انحازت إليه أقليات مسيحية.
وليس سرا ان هذه القائمة تحظى كما في المرة السابقة بدعم قوي من الأميركيين ومن أطراف عربية ،خاصة وان علاوي حاول تمييز نفسه بالدعوة الى مخاطبة أوساط شاركت في النظام السابق ولم تذهب بعيدا في التورط بالجرائم التي ارتكبها.
ـ امتنع المرجع الروحي علي السيستاني، حتى الآن على الأقل، عن دعم لائحة معينة، هناك من يقول ان الفتوى السابقة بدعم الائتلاف قائمة وهناك من يدحض ذلك مؤكدا حياد المرجعية هذه المرة. بكلام آخر فان نتائج الانتخابات تحولت إلى اختبار لجاذبية الأحزاب الشيعية في لحظة امتناع النجف عن دخول المعركة إلى جانبها.
تفيد هذه المستجدات كلها في جعل الأنظار تتوجه إلى المجلس المقبل لمراقبة توزع القوى فيه، وما يجدر الالتفات إليه أساسا، هو صعود التمثيل السني العربي أولا، وقدرة أياد علاوي والملتفين حوله على قضم الحجم التمثيلي للأحزاب الشيعية الدينية.
و إذا حصل ذلك فان الباب يصبح مفتوحا أمام احد خيارين:
الأول: هو احتمال تشكيل جبهة واسعة تضم علاوي والأكراد والسنة تستطيع الحكم بمفردها دافعة الأحزاب الشيعية إلى المعارضة. الثاني: هو القدرة على تشكيل توازن يستطيع توفير الفرصة للتفاوض مع هذه الأحزاب من اجل إرغامها على تقاسم السلطة.
وفي الحالين فان القصد الأخير من تطويق الأحزاب الشيعية هو إقامة سد أمام النفوذ الإيراني المتمدد إلى جنوب العراق . هذا هو المغزى السياسي العميق للانتخابات القريبة في العراق، إلا انه مغزى قد يشجع الميول الانفصالية ويسمح لها باستخدام الدستور الحالي لتمارس حقها في "تقرير المصير".