عند التأريخ للوعي الديموقراطي في الثقافة السورية لا بد من ذكر ثلاثة مواقف ذات دلالة تعطي تكثيفاً تعبيرياً دقيقاً لتطور هذا الوعي في هذه الثقافة:
الأول, هو موقف المثقفين السوريين من الانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم عام 1949 بوصفه إجراءً يتعدى العمل السياسي ويتيح للجيش حرية التدخل في السياسة للمرة الأولى في الشرق الأوسط ويكشف في الوقت نفسه مفهوم المثقفين للديموقراطية بصيغتها الدستورية والبرلمانية المعمول بها في تلك الفترة. وفي الواقع فإن الإجابة تحمل كثيراً من الأسف، اذ ان معظم المثقفين المنخرطين في الأحزاب السياسية الأيديولوجية اتخذوا مواقف مؤيدة ومشجعة لانقلاب الزعيم. ففضلاً عن العلاقة التي ربطت أكرم الحوراني بالزعيم، أرسل ميشيل عفلق رسالة من سجنه يعتذر فيها عن معارضة الزعيم ويستجدي إطلاق سراحه اعتُبرت بمثابة إهانة لحزب البعث نفسه. أما الحزب الشيوعي فبدا مؤيداً في البداية على الأقل لتخليص الشعب السوري من «الطغمة البرجوازية الحاكمة»، بل إن بعض الصحف الدمشقية طرحت فكرة الحكم العسكري بوصفه يتمتع ببعض المزايا الإيجابية وكتبت ان «ليس هناك شك في أن سورية ستفقد القليل من حريتها، لكن حاجة الدول الناشئة للانضباط أكثر من حاجتها للحرية».
وكانت غالبية تعليقات الصحف مؤيدة للانقلاب، ونكاد لا نجد موقفاً واحداً لمثقفٍ سوري بارز في تلك الفترة دان مبدأ الانقلاب على الشرعية الدستورية، بل ان المواقف كافة تصبُّ في نعي عهدٍ سابق ذهب غير مأسوفٍ عليه، الأمر الذي يعكس مدى هشاشة الثقافة السياسية والدستورية والديموقراطية التي كان يتحلى بها المثقفون السوريون، وطبيعة نظرتهم إلى الدولة بوصفها مجرد أداة للوصول إلى الحكم.
الثان,ي هو عندما عارضت بعض الأحزاب القومية واليسارية «الجبهة الوطنية التقدمية» التي استخدمها الرئيس الراحل حافظ الأسد كصيغة تؤمم السياسة وتحتكرها ،اذ نص ميثاق الجبهة على اعتبار الجبهة «قيادة سياسية عليا تقر مسائل السلم والحرب، والخطط الخمسية، وترسخ أسس النظام الديموقراطي الشعبي وتقود التوجيه السياسي العام»، ونص على قيادة البعث لها من خلال تمثيله للأكثرية فيها (النصف + الواحد) واحتكار العمل السياسي في قطاعي الطلاب والجيش، وأن يكون «منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجهاً أساسياً لها في رسم سياستها العامة وتنفيذ خططها».
والمعارضة لهذا الميثاق لم تكن من زاوية الديمقراطية وإنما من مواقع أيديولوجية يسارية أو من مواقع التحفظ على مزايا البعث القيادية فيها, كما لاحظ ذلك أحد الباحثين. فالديموقراطية إذاً كانت غائبة تماماً عن مستوى الوعي السياسي الموجود في تلك الفترة ، وكانت الأحزاب اليسارية والقومية, التي هي في الواقع أحزاب النخب, تؤمن بديموقراطية خالية من المتاعب، فهي ترغب من الديموقراطية أن تبقيها حيث هي، أما الأحزاب الدينية ذات الشعبية الجماهيرية فإنها تؤمن بديموقراطية لمرة واحدة، إذ هي تطلب الديموقراطية كي توصلها إلى السلطة, وبعد ذلك هي في حل عن أن تفسح المجال للتداول السلمي للسلطة عن طريق الديموقراطية التي أتت بها. لذلك كان من الطبيعي أن تتحول أحزاب الجبهة إلى أحزاب عائلية وراثية تتعيش من السياسة على حد تعبير ماكس فيبر وتعمق الأزمة السياسية الداخلية عندما تعجز عن القيام بمهماتها الحزبية وتصبح هي نفسها عبئاً على المجتمع بدءاً من حفظ أسمائها الصعبة المكرورة وانتهاءً باحتكارها صيغاً سياسية يرغب المجتمع في تجاوزها، إذ هي ترمز دوماً بالنسبة إليه إلى صيغة متقاعدي السياسة.
الموقف الثالث عبر عنه حراك «ربيع دمشق» الذي أفرز تبلوراً عاماً لاتجاهات العمل السياسي في سورية. فالناشطون والمثقفون على اختلاف توجهاتهم بدوا متفقين على علنية العمل العام ورفض أي شكل من أشكال العمل السري. وفي الوقت نفسه ربط العلنية بالسلمية، وهو ما كان مدخلاً مناسباً لتأخذ فكرة الديموقراطية موقعاً مركزياً في تفكير هذه النخب. وبدا ذلك واضحاً في عددٍ من المواقف والوثائق التي أفرزتها تلك المرحلة.
ويمكن رصد هذا التحول في وثيقتين بالغتي الأهمية :الأولى هي لـ»الإخوان المسلمين» السوريين، والثانية لحزب الشعب الديمقراطي الذي كان يعرف بالحزب الشيوعي – المكتب السياسي، وأعلن اسمه الجديد بعد مؤتمره السادس. فقد أعلن «الإخوان» في أيار (مايو) 2001 ما سموه «مشروع ميثاق شرف وطني للعمل السياسي» أكدوا فيه تمسكهم بالحوار و»آليات العمل السياسي الديموقراطي ووسائله» و»نبذ العنف» والعمل على «حماية حقوق الإنسان والمواطن الفرد».
وبدا أن هناك تحولاً كبيراً، فالميثاق يتحدث عما يسميه «الدولة الحديثة» التي «هي دولة تعاقدية، ينبثق العقد فيها من إرادة واعية حرة بين الحاكم والمحكوم، والصيغة التعاقدية للدولة هي إحدى عطاءات الشريعة الإسلامية للحضارة الإنسانية. كما أن «الدولة الحديثة دولة مؤسسية، تقوم على المؤسسة من قاعدة الهرم إلى قمته. كما تقوم على الفصل بين السلطات، وتأكيد استقلاليتها، فلا مجال في الدولة الحديثة لهيمنة فرد أو سلطة أو حزب على مرافق الدولة أو ابتلاعها. وفي الدولة الحديثة تعلو سيادة القانون، ويتقدم أمن المجتمع على أمن السلطة، ولا تحل فيها حال الطوارئ مكان الأصل الطبيعي من سيادة القانون». ويضيف الميثاق أن «الدولة الحديثة دولة تداولية، وتكون صناديق الاقتراع الحر والنزيه أساساً لتداول السلطة بين أبناء الوطن أجمعين.كما أنها دولة تعددية، تتباين فيها الرؤى وتتعدد الاجتهادات وتختلف المواقف، وتقوم فيها قوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بدور المراقب والمسدد، حتى لا تنجرف الدولة إلى دائرة الاستبداد أو مستنقع الفساد». والتزمت جماعة «الإخوان المسلمين» في ميثاقها «بآليات العمل السياسي الديموقراطي ووسائله، مؤكدة الحق المتكافئ للجميع في الاستفادة من إمكانات الدولة في توضيح مواقفهم والانتصار لرؤاهم وطرح برامجهم» و»بنبذ العنف من وسائلها, وترى في الحلول الأمنية لمشكلات الدولة والمجتمع وفي عنف السلطة التنفيذية مدخلاً من مداخل الفساد».
ونلحظ هنا تحولاً واضحاً في آليات التفكير السياسي بالنسبة الى الحركة الإسلامية السورية الأبرز التي كان لها دورٌ في أحداث العنف في الثمانينات من القرن الماضي في تاريخ سورية، بخاصة في ما يتعلق بقبولها مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وهو ما يتشابه مع البرنامج السياسي الذي أعلنه حزب الشعب الديموقراطي (الحزب الشيوعي- المكتب السياسي سابقاً) لجهة الاحتكام إلى الديموقراطية كخيار نهائي، إذ ينص في برنامجه الذي أعلنه في مؤتمره السادس أنه «يناضل من أجل نظام وطني ديموقراطي، مؤسس على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية». ويضيف: «دللت تجارب السنوات الأربعين الماضية على فشل تجربة الدولة الأمنية التسلطية، القائمة على حكم الفرد وفكرة الحزب الواحد القائد, التي أرجعت المجتمع السوري إلى الوراء في ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومزقت نسيجه الوطني، وأغرقته في أزمات داخلية وعربية ودولية. إن تجاوز هذه الحالة يتطلب العودة إلى الديموقراطية». وعلى رغم أنه يستعيد الجدل «اليساري « القديم حول الديموقراطية، لكنه يقر أنه «ليست هنالك ديموقراطيات مختلفة في الجوهر ومفصّلة على قياس كلّ شعب، بل هي ديموقراطية واحدة. إنها النظام الحديث العالميّ القيم والأسس، والذي يقوم على مبادئ الحرية وسيادة الشعب ودولة المؤسسات وتداول السلطة من خلال انتخابات حرة ودورية. يختار فيها الشعب حكومته، ويحاسبها ويراقبها ويبقى جاهزاً لإعادة النظر فيها. نظام قائم على مبدأ حكم القانون وسيادته، وخضوع الجميع له من دون تمييز أو استثناء، يضمن الحريات الأساسية والتعددية». وذلك يشترط بحسب البرنامج « إعادة بناء الدولة الدستورية، التي تتأسّس على دستور ديموقراطي، يكون أساساً لنظام برلماني، يضمن الحقوق المتساوية للمواطنين ويحدّد واجباتهم، وتنعدم فيه أسس الاستبداد والاحتكار، ويغلق طريق العودة إليهما, وتُقِرُّه جمعية تأسيسية منتخبة بحرية ويعرض على الاستفتاء العام. يكفل هذا الدستور استقلال السلطات بعضها عن بعض وخضوع السلطة التنفيذية لسلطة تشريعية منتخبة بحرية. كما يضمن استقلال القضاء وسيادة القانون وتساوي المواطنين أمامه».
نحن إذن أمام حال فريدة في التاريخ السوري. فالفكرة الديموقراطية لم تنتصر في التاريخ السوري كما انتصرت اليوم على الأقل في «الوعي المعارض»، ذلك أن تبنيها في «الوعي السلطوي» تحول دونه حسابات تتعلق بالمنافع والمغانم الشخصية أكثر منها إلى اعتبارات أيديولوجية أو مواقف سياسية وطنية. في الواقع إن اختزان الفكرة الديموقراطية في الوعي السياسي السوري سبقتها مخاضات عسيرة حول مفهوم الديموقراطية وآليات تطبيقها وتاريخها ومدى ملاءمتها للبيئة والثقافة العربية, وغير ذلك، لكنها تجلت بشكل صريح وواضح في عدد من الحركات والتجمعات الثقافية والمدنية التي ظهرت أخيراً كالمنتديات, بخاصة منتدى الحوار الوطني ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديموقراطي اللذين أغلقا بشكل تام، ولجان إحياء المجتمع المدني التي ينتشر مثقفوها وناشطوها في معظم المحافظات السورية والتي حافظت على حيوية ودينامية فكرية وسياسية نادرة، وغيرها من جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان التي أصبح لها دور ونشاط كبيران في الواقع السوري. ويبقى الانترنت كفضاء مفتوح الساحة الوحيدة التي تجمع كل هذه الحوارات الديموقراطية بحكم انعدام منابر أو ساحات للنقاش في الإعلام السوري، فالانترنت في سورية يكاد يكون أشبه بالوعاء الديمقراطي الذي يضم كل هذه الأطر والأفكار، وانتشار المواقع الالكترونية التي تفتح صفحاتها الافتراضية لكل الأفكار دليل على مدى انتشار الوعي الديموقراطي حتى لدى الناشئة والشباب السوري الذي هو بحكم التكوين الأكثر استخداماً لهذه الوسيلة والأكثر استفادة منها.