الفرق بين القومية والقومجية، كالفرق بين "الحقيقة" و"الحقيقة المزيفة"، هذا إذا ما أخذنا القومجية بالمعنى الذي قصده المفكر الراحل ياسين الحافظ. وليس بالضرورة أن يكون القومجي قومجياً عن سوء نية، إذ ببساطة متناهية لا خيار لديه ـ بعد أن عُدمت الخيارات على يدي هكذا خطاب ـ إلا أن يكون كذلك.
ومعروف عن الخطاب البعثي قومجيته التي اتضحت معالمها بعد هزيمة 1967، متكرسة بعيد 1970، لتصبح علامة فارقة في الحياة السياسية السورية الرسمية.
خطاب الرئيس بشار الأسد على مدرج جامعة دمشق في العاشر من الشهر الجاري لم يشذّ عن سياق الخطاب البعثي الكلاسيكي، أي الخطاب المنوه عنه أعلاه، مع فارق بسيط زاد من نسبة "توفيقه" فيه أكثر من أي خطاب سابق له، هو اختياره لمكان إلقاء هكذا خطاب. فرغم إطنابه على تاريخ جامعة دمشق، فاته أن لا علاقة تربط بين جامعة دمشق التي أطنب عليها، وجامعة دمشق التي كان فيها لحظة الخطاب وقبله... الجامعة التي غدت ذات يوم "تصحيحي" ابنة شرعية ومدللة لهكذا خطاب. والفرق بين الجامعتين، أيضاً هو ـ مع الآسف ـ كالفرق بين القومية والقومجية. فمن الصعب بمكان المقارنة بين جامعة دمشق التي وضع لبناتها الأولى أوائل عشرينات القرن الماضي العلامة الراحل فارس الخوري (رئيس وزراء ومجلس نواب سوريا الأسبق) وسواه من أعلام سوريا، وبين جامعة دمشق التي عاثت فيها مخابرات القائد وحزبه فساداً، إلى أن أصبح أي جامع (من الدرجة الرابعة أو الخامسة) في حارات دمشق القديمة وضواحيها يحظى من الرعاية والاهتمام الرسميين أكثر منها بأضعاف مضاعفة. ومن الاستحالة بمكان أن نجد رابطاً يربط بين جامعة دمشق 1959، التي رفض رئيسها الدكتور احمد السمان صدام حسين طالباً فيها، وبين جامعة دمشق التي اشرف عليها هي وسواها من الجامعات السورية "د" رفعت الأسد إبان ممارسته لمهامه التخريبية عقب تسلمه مكتب التعليم في القيادة القطرية أواسط سبعينات القرن الماضي. وبرغم أن أدبيات وكتابات العماد مصطفى طلاس أشبه ما تكون بكتابات أي رفيق طليعي مدجن (ونعم التدجين) إلا انه كان صائباً في وصفه (في كتابه "مرآة حياتي" الجزء الرابع) للفساد الذي خلّفه وجسّده رفعت الأسد في صرح كان من المفترض أن يكون أو أن يبقى حضارياً كجامعة دمشق التي خرّجت الطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري الخ...
ومن الطبيعي أن قومجية كهذه طالت في ما طالت الجامعة وسواها من تفاصيل يوميات الحياة السورية بشقيها المدني (التعليم، العمل، الثقافة...) والسياسي (الأحزاب بشكل خاص)، من شأنها أن تخرِّج طلابا جامعيين قومجيين وثورجيين ووطنجيين (يمكننا إضافة ما شئنا من مصطلحات تتفق والمقام هنا).
إذاً ثمة قومجيتان التقتا معا على مدرج جامعة دمشق، قومجية أولى/ فوقية ترسم وتخطط وتفكر وتقرر مصير بلد بأكمله، وقومجية ثانية/ تحتية تهتف وتبايع بالدم بصورة آلية وعفوية في ظل انعدام أية آلية للتفكير العقلاني. ولا غرابة والحال هذه أن يكون الخوف على حاضر سوريا ومستقبلها كائن بسبب وقوعها بين فكي قومجيتين، قبل أن يكون الخوف عليها من الخارج مع عدم الإقلال من أية مخاوف خارجية على الإطلاق.
لابد من إيضاح نقطة تتعلق بالقومجية الثانية/ التحتية التي لا تقتصر على طلبة الجامعة فقط، إنما تطال الكادر الجامعي ككل، لأنه من المحال أن تسمح القومجية الأولى/ الفوقية بكادر جامعي لا يكون على صورتها ومثالها؛ ومن المفيد إن استشهد بحادثة تاريخية قريبة من حاضرنا عساها تقرب لنا صورة راهن الهيئة الإدارية لجامعة القومجيين: منذ بضع سنوات ألقى عالم الاجتماع السوري المعروف خضر زكريا محاضرة في إحدى جامعات الغرب، وكان من ضمن الحضور سفير سوريا في تلك الدولة الذي "ارتأى" أن زكريا اشتط وتجاوز الخطوط الحمر(؟!)، فكتب تقريرين أحدهما إلى وزارة الخارجية السورية والثاني إلى الجهات "الأمنية" لإجراء اللازم وفق الأصول(؟!). ومن المضحك أن المسؤول الأمني الذي قرأ نصّ المحاضرة أُعجب بها (على غير العادة!) , فطلب من مدير مكتبه السؤال له عن المُحَاضِر بغية التعرف عليه، وعندما سأل أتاه الجواب من إدارة الجامعة أن الإدارة أخذت الإجراءات التأديبية اللازمة بحق المحاضِر زكريا نظراً لما أقدم عليه وما طرحه في محاضرته من مواضيع اعتقدت الإدارة أنها لا تروق لمحتكري الحقيقة والوطنية من أهل الإرهاب و"السياسة"، ولكم أن تتصوروا أي شعور اعترى هذه الهيئة الجامعية عندما علمت أن ضابط الأمن يسأل عن الدكتور زكريا لان "معلمه" أُعجب بالمحاضرة ويريد أن يشكر المحاضر ويتعرف عليه لا أكثر !
هذا نموذج بسيط عن جامعة القومجيين، التي حضنت منذ أيام "أهم" خطاب قومجي في السنوات الخمس الأخيرة. وهو كذلك نموذج مبسط عن المحيط "الفكري" و"الأكاديمي" الذي يشرف على تخريج شباب "المستقبل".
طالما استعصى مثل هذا الخطاب على التغيير عبر سيرورته التاريخية، وعندما سبق له وأن وصل إلى عنق الزجاجة أواخر ستينات القرن الماضي أتى الحل من داخله في ظل غياب الـ لاحل، وهذا الأخير أهم "إنجاز" بعثي في سوريا، فما كان إلا أن استبدلت سوريا الحذاء العسكري بحذاء عسكري آخر أكثر شراسة ودموية. مع فارق انه الآن لا وجود للاتحاد السوفييتي ولا وجود كذلك لـ اللاحل! ولأنه لا وجود حتى لـ اللاحل فقد أتت القومجية، على مدرج الجامعة، مبالغة إلى درجة تدعو للرثاء والبكاء. فهي لم تر في لبنان، عندما عرجت عليه ـ النهضوي أحمد فارس الشدياق والشيخ ناصيف اليازجي وابنه الشيخ إبراهيم اليازجي (حراس اللغة العربية وأنبياء قوميتها) وجرجي زيدان والبساتنة وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأمين الريحاني والأخوين رحباني وأغاني فيروز ووديع الصافي وكبرياءنا المطعون الذي اختزله موقف الشاعر خليل حاوي شهيد انحطاط الزمن القومجي... ولم تر فيه صحافته التي حضنتنا ـ وكم دافع بعضها عنه هو، أي النظام ـ في ظل غياب الصحافة في بلاد تديرها عقول قومجية، ولم تشعر بدفء جناحيه اللذين ضما الكثير من المثقفين السوريين الباحثين عن خبز الحرية ولقمة الكرامة الشخصية التي داستها حوافر ونعال القومجيين من البعثيين.
هل المطلوب من لبنان أن يبقى بقرة حلوباً، وموئلاً لتبييض الأموال ومركزاً لتجارة الحشيشة وتهريب المخدرات كي يحظى بشهادة حسن سلوك في قوميته ووطنية أبنائه؟ وهل من الحكمة الإبقاء على المتاجرة من قبل القيادة السورية، ولو إعلامياً، بدماء شهداء سوريا الذين سقطوا لأجل لبنان وعروبته؟ لعمري إن في دوام تذكير معظم المسؤولين السوريين وحوارييهم بالدماء السورية التي أريقت لأجل لبنان امتهان لحرمة تلك الدماء ونبل مقصدها، وتصغير لسوريا وشأنها.
منذ أقل من عام كان الخطاب ذاته يتشدق بـ"وحدة المسار والمصير" و"شعب واحد في بلدين" وغيرهما من شعارات أوشكت توهمنا أن الوحدة العربية على قاب قوسين أو أدنى، فجأة يصبح لبنان ممراً ومصنعاً وممولاً للمؤامرات؟ إذاً لاعجب إن سمعنا أن الأشقاء كانوا، خلال وجودهم في عنجر، منهمكين بفحص زمر الدم الوطنية في خلايا أهلك وبنيك يا لبنان، كي يتسنى لهم الفرز بين من هو معهم ومن هو ضدهم (كأننا بجورج بوش استعارها من القومجيين السوريين وليس العكس)، فإن لم يكونوا معهم فإن "هؤلاء معظمهم تجار دم" ـ هل بقي متسع في الذاكرة لذكر كل الدماء التي سفكوها وللأعراض التي انتهكوها في سوريا قبل لبنان؟
من جهة أخرى لم يكن ذلك الخطاب الذي يبدو للوهلة الأولى ناضحاً بالمرارة، والموجه أساساً إلى "خدوج، وأم وسوف، وأم علي بديعة في أقاصي الجبال الساحلية، والى القبضاي أبي عبدو القاطن في ريف حلب، أو جدعان الجدوع ابن الجزيرة السورية" يخلو من لمزِ بما لا تحمد عقباه إلى الداخل السوري، وهذا ما عبرت عنه جلّ مقالات الصحافة الالكترونية التي دبجها معارضون في الخارج، كما لمسته شخصياً في أحاديثي مع الأصدقاء في سوريا الذين اعتراهم الخوف من آتي الأيام ومخبوءات النظام.
ومهما يكن الأمر في ما يخص من نوايا مبيتة للداخل السوري، فلا غرابة في ما سيحصل من مساوئ، بما فيها تصدير النظام لأزمته إلى المجتمع على طريقة الثمانينات... ولِمَ لا؟ أليس النظام السوري نظاماً متفرداً في كل شيء؟ أليس هو النظام، الوحيد ربما في العالم، الذي تشرب فئة من مواطنيه المياه بقساطل مسرطنة بعلم جميع الأجهزة المعنية من وزارية وأمنية ورقابية وصحافية (شخصياً سلمت الوثائق بيدي منذ أكثر من شهر لمسؤول امني كبير في دمشق دون جدوى على ما يبدو)؟ وأليس هو النظام ـ ربما أيضا الوحيد في العالم ـ الذي بلط النهر والبحر؟ طبعاً لا مجال للمزاح هنا... ومن أراد أن يتأكد فما عليه سوى زيارة نهر (سابقاً) بردى في دمشق، وشاطئ (سابقاً) مدينة طرطوس... اللهم لا شماتة... اللهم احفظ سوريا لنا.