بتحريض من المحافظين الجدد،أقدمت الولايات المتحدة على تشريع استعمال التعذيب لأول مرة في
تاريخها. إذ تقدم السيناتور الجمهوري في الكونغرس جون ماك كاين بمشروع تعديل يرمي إلى تعزيز النظام في دولة القانون. مشروع لم يتوانى راي ماك كوفرن،الناطق الرسمي باسم جماعة من المسؤولين القدامى في جهاز الإستخبارات الأمريكية ، في دعمه والإشادة به. وهو يحاول أن يشرح، كما سيلاحظ القارئ ، بأن التحدي الذي يواجه البرلمانيين الأمريكيين لا يتجسد في إيجاد توازن بين الأمن القومي وحقوق الإنسان ، بل في الدفاع أو التخلي عن القيم الجوهرية للديموقراطية.
لقد منح جون ماك كاين وزملائه الكونغرس الفرصة لاستعادة سمعته بطريقة سرية لكن ذات مغزى كبير. فرصة لتدارك تهربه الحقير من مسؤولياته بعد أن تجرأ قبل ثلاث سنوات على إهداء جورج بوش ما وصفته أنذاك توبيخات السيناتور روبرت بيرد باسم " شيك أبيض" للحرب على العراق.
وبفضل المساعدة اللافتة للنظر لمستشار البيت الأبيض آنذاك، ألبيرتو كونزاليس ، وبعض مسؤولي وزارة العدل ، إستغل نائب الرئيس ديك شيني ووزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفلد التوقيع على البياض هذا لإباحة تعذيب المعتقلين في السجون العسكرية و سجون السي أي إي.أما ماك كاين، والذي ذاق مرارة التعذيب في الفييتنام ، فهو يحاول وضع الولايات المتحدة في صورة لا تتعارض مع المعايير الدولية.كل هذا في الوقت الذي تقود فيه إدارة بوش محاولات يائسة لترك منفذ أمام السي أي إي والمحققين الآخرين لانتهاك هذ ه المعايير دون الخوف من المتابعة القضائية.
كما تقدم ماك كاين بمشروع تعديل القوانين المتعلقة بالضباط وبتمويل وزارة الدفاع. إقتراح من شأنه أن يرغم موظفي وزارة الدفاع على احترام مواصفات الدليل العسكري للتحقيقات. فضلا على ذلك ، فإن السي أي إي ومسؤولين آخرين في وزارة الدفاع لا يحق لهم، بمقتضى مشروع التعديل هذا،أن يعاملوا معتقليهم "بوحشية أو بقسوة أو بإذلا بغض النظر عن جنسياتهم أو بلدانهم".
وهو ما دفع بوزير الدفاع إلى قيادة حملة علانية أراد بها معارضة أو تعديل هذا المشروع. غير أنه، وبالرغم من الجهود الهر قلية التي بدلها، خسر الجولة الأولى في حملته عندما أقر 89 عضوا في مجلس الشيوخ القانون الذي جاء به ماك كاين.
إنه نوع من التحدي المباشر لتشيني وللرئيس الأمريكي الذي لابد وأنه علم بالقضية من قبل. وبما أن مشاريع التعديل التي قدمها النواب لا تتضمن طرح ماك كاين ، فإن مصير قضية التعذيب أصبح من الآن فصاعدا بين يدي اللجنة التمثيلية لمجلس النواب ومجلس الشيوخ التي تعمل على تسوية الخلافات في هذاالشأن.ولقد أعلن بوش مؤخرا أنه "واثق" من إمكانية التوصل إلى حل مع ماك كاين.
غير أن السيناتور الديموقراطي كارل ليفاين صرح بأن مجلس النواب رفض حاليا مقترح ماك كاين وبأن مجلس الشيوخ نعته بالأمر "الغير المقبول".
كما أن التصويت الأعرج الذي عرف أطواره مجلس النواب ، والذي دعا مفاوضي المجلس إلى إدراج نص ماك كاين حرفيا، سوف يعقد أكثر فأكثر من مهمة البيت الأبيض في فرض نفسها.
إن قوانين الدفاع هي التشريعات الملزمة بالنسبة إليهم، كما أن تشيني وبوش كانا قادرين على التأثير في قرار المرور إلى الفعل من خلال حق الفيتو الذي طالما لوحا به. ولا يختلف اثنان في أن هذا سيعجل بكارثة دولية على مستوى العلاقات العامة. غير أن هذا النوع من الاعتبارات لم يمنع وقوع أحداث من هذا القبيل في الماضي. وحتى إن كان همهما الشاغل هو مخافة أن تصبح الولايات المتحدة منبوذة أكثر فأكثر في الخارج، فإن بوش وتشيني يتعللان بأمل ضعيف على أن تناط المهمة لكبارالدعاة كارين هيكز. علاوة على ذلك ، فهما على ما يبدو للأسف يراهنان على استطلاعات الرأي الأخيرة التي تشير إلى أن نسبة كبيرة من الأمريكيين أصبحوا مذعورين بما فيه الكفاية لارتضاء التعذيب كحل مؤسف، لكن مسموح به إذا تعلق الأمر بمن هم "إرهابيين مفترضين".
في الإطار ذاته، لم يتم بدل أي مجهود للتستر على ما يراد تجنبه من خلال معارضة ماك كاين. فحتى المحامي والسيناتور الجمهوري لندزاي كراهام ، المعروف باعتداله في مسألة استعمال أسلوب التعذيب، لم يتردد في التسليم بأن "الإشكال" يتجلى في إيجاد سبيل لحماية المحققين الذين
يتجاوزون الصلاحيات المسموح لهم بها. على الأقل، بالنسبة لهذا السيناتور، لا يبدو أنه من الممكن فك تربيع دائرة كهذه. أحاول دائما أن أتعود، بتواز مع بلاغة " صيغة نحن لا نعذب"، على فكرة أن بلدنا تبنى علانية ولأول مرة في تاريخه منهج التعذيب.
من سيستسلم، تشيني أم ماك كاين؟
لقد فضل أنصار المدرسة الفكرية لتشيني إسماع صوتهم عبرالإستناد إلى الصيغة المنمقة " سيناريو مذهل للقنبلة الموقوتة". والمراد بها، في واقع الأمر، تسويغ التعذيب. والواضح أن هذا كان له وقع معين. إذ أنه، حسب استطلاع للرأي قامت به وكالة أي بي- أيبسوس أواخر شهر نونبرالماضي، 61 في المائة من الأمريكيين المستطلعين يرون أن التعذيب يمكن تبريره على الأقل في مناسبات ناذرة. 36 في المائة فقط لا يرون تبريرا له في كل الحالات. كما أن استطلاع رأي آخر أجري في يناير 2005، غطى أكثر من ألفي مكالمة هاتفية، أظهر بأن 53 في المائة من المستطلعين، مقابل 37 فقط ، لا يرون أي حرج في استعمال أسلوب التعذيب. كما أفاد استطلاع الرأي ذاته بأن 82 في المائة من مشاهدي القناة التلفزية فوكس نيوز يؤيدون اللجوء إلى التعذيب في "عدد كبير من الأحوال".
في هذا السياق الرهيب، لم يتوانى الناجي من الموت ماك لاين في ر كوب خطر تبني موقف الاعتدال في صفوف الجمهوريين. الذين يرجى منهم، مع ذلك، دعم الرجل للتمكن من تمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية لعام 2008. إذا ، ورغم الدعم الكبير الذي يحظى به بين زملائه في مجلس الشيوخ ونكاية في موقفه الذي يتشدد به حتى الآن ، يحتمل دائما أن يرضخ ماك كاين إلى بند من بنود التسوية- صيغ تضمن للإدارة بأن محققي الس أي إي ، وبمقتضى اتفاقية معينة ، لن يتابعوا قضائيا إن" تصرفون بدون تأن"، كما سبق للرئيس السابق لمصلحة مقاومة الإرهاب في الس أي إي كوفر بلاك أن وصف به منهج مركز الاستخبارات هذا منذ أحداث 11 شتنبر 2001.
من وجهة نظر الإدارة، فإن " تقنيات التحقيق المتطورة" ساهمت لا ريب في تسهيل حرب العراق والحرب ضد "الإرهاب". من الآن فصاعدا أصبحنا نعرف مثلا بأن المعلومات الخاطئة التي جاءت في خطاب بوش بتاريخ 7 أكتوبر 2002 ، ثلاثة أيام قبل أن يعطيه الكونغرس الضوء الأخضر لشن الحرب ، هذه المعلومات القائلة بأن العراق يدرب عملاء من القاعدة على استعمال المتفجرات والأسلحة الكيميائية ، كانت قد انتزعت من الأسير إبن الشيخ الليبي عبر محققين مصريين "سلمناه" لهم. الشيخ الذي استدرك ما شهد به مصرحا أن اعترافاته تمت تحت الإكراه.
ولما كان الوكيل العام آنذاك جون أشكر وفت في حاجة إلى التباهي بالنجاح في حربه ضد "الإرهاب"، كان في كل مرة يقدم خوسيه باديا بناء على شهادة لا أحد آخر سوى العقل المدبر لأحداث 11 شتنبر، خالد الشيخ محمد، الذي استخدم "المغطس" في استنطاقه. ولقد تم العدول عن متابعته في قضية " القنبلة الوسخة" بعد أن قضى ثلاث سنوات ونصف السنة في السجن.
أنا وزملائي في " فيتيران إنتليجنس بروفيشيونلز فور سانيتي" لا نستطيع تصديق ما نراه. إن كنت معجبا بالسيناتور ماك كاين بسبب مواقفه، فإنه من الغرابة بما كان بالنسبة إلي أن يتخذ مثلا الخسائر التي طالت صورة الولايات المتحدة في الخارج كسبب رئيسي لحظر التعذيب. صحيح أن صورتنا الملطخة تعتبر مشكلا حقيقيا، غير أنها في نظري واحدة من الأسباب الأقل أهمية في لائحة طويلة تدعونا إلى إلغاء التعذيب في نظامنا. كما تحضرني أسباب أخرى أسردها حسب أهميتها كما يلي:
– إن التعذيب يضع جنودنا وجنود دول أخرى أمام خطر"التعامل العكسي".
– إن شراسة التعذيب لا تنال من العدو فحسب، وإنما من الجلاد أيضا. أطلبوا مثلي توضيحات أكثر لأولئك الدين شاركوا أو حضروا حصص تعذيب في العراق أو أفغانستان.
– إن المعلومات المنتزعة تحت التعذيب لا تصلح بصراحة لأي استعمال. كما أن المحققين الأكثر خبرة يعلمون جيدا أن التعذيب ربما يكون سبيلا إلى التشوه الإعلامي أكثر منه إلى تحصيل المعلومات الأساسية. علما بأن ضحايا التعذيب مستعدين لفعل أي شيء من شأنه وضع حد لألمهم. في الماضي تم التخلي عن التعذيب خصيصا لأنه لم يكن حلا نجيعا.
إن التعذيب يستوجب اللوم من الناحية الأخلاقية. فهو لا يختلف كثيرا عن الرق والإبادة الجماعية والاغتصاب. كما أن المجتمعات المتحضرة ناهضت طويلا ممارسة التعذيب باعتباره تجاوزا صريحا وغير مسموح به لحقوق الإنسان وكرامته الشخصية. وهو السبب الذي وضعت لأجله كل القوانين المناهضة للتعذيب. إن مناهضة التعذيب ليست
نتاج القوانين التي تحرمه ، لكن هذه الأخيرة تحرمه لكونه مناهض.
مثال "الجريمة العظمى"
لاشك أن تبني التعذيب قبل وبعد الحملة الاستعمارية على العراق يرفع الغطاء عن جريمة أكثر فظاعة تتمثل في استعمار بلد لأسباب تخالف الذرائع التي تم تقديمها لشرعنة هذا الهجوم. فهذه الحرب ببساطة ووضوح هي حرب إعتدائية. أليست محكمة ما بعد الحرب العالمية الثانية "نورمبيرغ" هي التي أقرت بصراحة أن:
"شن حرب إعتدائية هي الجريمة الدولية العظمى التي تختلف عن جرائم الحرب الأخرى باعتبارها تشمل كل مآسيها". هكذا تم وصف الحرب الغير الشرعية من طرف أمين عام منظمة الأمم المتحدة والهيئة الدولية للقضاء وغالبية الخبراء في العالم.
فيما يخص صيغة " تشمل كل مآسيها"، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو التعذيب. فالتعذيب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. زيادة على ذلك ، إذا أخدنا بمصداقية استطلاعات الرأي، فإن جزءا آخر من " الشمولية" تتجلى في حقيقة أن الغالبية من مواطنينا تعرضوا للتخويف. وهو ما جعلهم يظنون بشرعية تدليل وتعذيب بعض الكائنات البشرية.
كما أن قادة بلدنا، بما فيهم ممثلينا في مجلس الشيوخ ونحن جميعا يجب علينا أن ننتبه ونبتعد عما سماه مجرم الحرب النازية ألبرت سبير "العدوى الروحية". دورنا لا ينحصر في غض النظر وترك مؤسساتنا تضاعف ذنوبنا باسمنا.
خلال محاكمة " نورمبيلرغ "، كان الرجل الثالث في هرم السلطة النازية،سبير،المتهم الوحيد الذي إعترف بمسؤوليته الكاملة ليس فقط عن جرائمه الشخصية، بل أيضا عن تلك التي اقترفها النظام. كما اعترف الرجل بأنه أصبح " مدانا روحيا". "لم أكن أرى لأنني لم أكن أريد أن أرى ...لا أستطيع التهرب، تحت أية ذريعة، من المسؤولية...مثيرة هي السهولة التي يمكن بها غض النظر روحيا. كنت كالذي يسير وراء أثار خطوات ملطخة بالدم على الجليد، دون استيعاب بأنها خطوات شخص جريح".
رسالة إلى جون ماك كاين
خلال الأسبوع المنصرم، قام 33 ضابطا متقاعدا من زملائي بإرسال برقية إلى السيناتور ماك كاين. عبروا من خلالها عن دعمهم اللامشروط لمشروعه التعديلي الهادف إلى تعزيز منع المعاملات القاسية واللاإنسانية والمتردية ضد المعتقلين في العالم بأسره. ولقد أقدم موظفي مكتب ماك كاين على توجيه الرسالة هذه إلى عدد من البرلمانيين بتواز مع إذاعة بيان صحافي. غير أن وسائل الإعلام فضلت الصيام عن هذا الموضوع.ولقد جاء في البرقية على الخصوص أن:
"أولئك الذين يدافعون عن " الليونة " لتجاوز الخطوط الحمراء في معاملتهم للسجناء، مستعدون أن يشككوا في نجاعتنا وقيمنا كأمة. مستندين في ذلك إلى الاعتقاد الخاطئ بأن اللجوء إلى وسائل تعذيب مبالغ فيها سيمكن من الحصول على معلومات حيوية. غير أن التحقيقات الميدانية، في الواقع، ناذرا ما تشبه تلك التي نراها على شاشات التلفزة أو في الأفلام...لحسن الحظ أن الخيار بين قيمنا والتوفيق ضد العدو الإرهابي ليس واحدا. لا يجب أن يثيرنا الخيال الذي يصبح بموجبه الوفاء لمثلنا العليا عائقا بين أمتنا العظمى والأمن الذي تستحقه". كل شيء مرتبط في الأساس بقرار ماك كاين في التمسك أو التخلي عن مشروعه التعديلي.
راي ماك كوفرن
رايموند ماك كوفرن محلل سابق في جهاز المخابرات الأمريكية السي أي إي. وهو شريك مؤسس لجمعية "فيتيران إنتليجنس برويشينالز فور سانيتي" ، التي تضم مسؤولين سابقين في جهاز المخابرات ، والذين يناهضون استغلال عملاء بوش لآليات الدولة لأهداف شخصية.
ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: حكيم إدلسان
جميع الحقوق محفوظة
2006 ©