ما لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقه بالتكنيك السياسي استطاعت نشره عبر أشكال "الإغلاق" الثقافي، فالمدى المحدود الذي خلقته التوترات والحروب جعلتنا في دائرة من مقاومة الضغوط، أو حتى التفكير بالطريقة التي نستوعب فيها الخطر.
ما لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقه بالتكنيك السياسي استطاعت نشره عبر أشكال "الإغلاق" الثقافي، فالمدى المحدود الذي خلقته التوترات والحروب جعلتنا في دائرة من مقاومة الضغوط، أو حتى التفكير بالطريقة التي نستوعب فيها الخطر. ومنذ احتلال العراق لم يعد مستقبل المنطقة يدخل ضمن أحلامها، بل في مجال التكتيك العسكري الذي يتحدث عن "درء المخاطر".
منذ احتلال العراق تكونت دائرة من الترقب استطاعت امتصاص المحاولات التي تبحث خارج الحدث الآني. وجاءت التطورات لتؤكد أن الترقب أساسي في التفكير، حيث أصبحت عجلة السياسة أسرع من المعتاد، ففي ظل العيش بهاجس "القرارات الدولية" يبدو من المستحيل التمتع بحرية التفكير التي كنا نملكها حتى في أصعب اللحظات أو أكثرها تطرفا وهمجية.
استطاعت الولايات المتحدة بالفعل تبويب أسلوب تفكيرنا حتى عندما نعارضها، لأن "الإغلاق" الثقافي ليس مصطلحا فكريا، بل أسلوب نفسي يجعلنا نغرق داخل المشاكل المتلاحقة ونفكر وفق أسلوب هذه المشاكل بدلا من الخروج السريع من النظام الفكري المفروض ضمن سياق عالمي.
ماذا لو استطعنا قلب المعادلة؟ وهو أمر لا يحتاج إلى أكثر من فعل ثقافي يعتمد على قدرتنا على تحدي أنفسنا قبل أن نواجه الآخر ... لكن هذا الفعل يمتاز بإيجابية المواجهة، أي بوضع التحدي في إطار التصور لمستقبل الدور الذي يمكن أن نقوم به. فالمسألة ليست صراع إرادات فقط داخل الشرق الأوسط، بل أيضا فهم للأدوار التي نملكها أيضا، وذلك بغض النظر عن الظروف السياسية الضاغطة.
هذا الأمر يظهر واضحا اليوم في ومضات من التحرك السياسي أحيانا، فزيارة وزير الدولة الدنمركي لسوري يحمل نوعا من البعد لإيجابية التعامل مع الأزمات، وهو يقدم عامل ثقة للعامل الثقافي الذي يمكن أن يظهر اليوم في سورية تحديدا.
عمليا لا يمكن بناء السياسة والتحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية على الإجراءات التي تقدمها الدولة أو تطلبها المعارضة، لأنه قبل أي فعل باتجاه المستقبل علينا التفكير بممكناته على مساحة الشارع السوري، وربما علينا أيضا أن نقدم لهذا الشارع ما يستحقه من الثقة بقدرته على التعامل مع ثقافة جديدة. فالمسألة ليست انحسار في دور المواطنين داخل الشأن العام، بل هي أيضا عدم قدرتنا على التحاور مع الطاقة الاجتماعية لنصوغ معها "الدور السوري" خارج الأطر التقليدية للأحزاب أو للصور الجاهزة للمفكرين والمثقفين والنخب السياسية.
قلب المعادلة هو المواجهة الحقيقية مع نظرية ثقافية كاملة تقدمها الإدارة الأمريكية، وترتد علينا فنعيش فيها ونقومها وفق أسلوبها بدلا من استخدام أسلوبنا ... فلنستخدم أسلوبنا ولو لمرة واحدة.