د. محمد عبدالعزيز ربيع/الراصد للتوثيق الإعلامي
بعد ساعات قليلة من صدور إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948 سارع الرئيس الأميركي ترومان إلى الاعتراف بالدولة اليهودية. وبعد أيام قليلة من صدور ذلك القرار قامت الإدارة الأميركية بتقديم قرض للدولة الصهيونية بمقدار 100 مليون دولار، بينما لم تحاول أن تقدم أي دعم مالي أو معنوي لضحايا العدوان الإسرائيلي من الفلسطينيين.
إن حماس ترومان لقيام الدولة العبرية لم يكن مصحوبا بحماس مماثل من قبل أعوانه وكبار مستشاريه السياسيين والأمنيين الذين اتجهوا ودون تحفظ إلى الاعتراض على قرار الاعتراف بالكيان الصهيوني. ولقد قال مارشال، وزير خارجية أميركا آنذاك لرئيسه، أنه لو جرت انتخابات الرئاسة في اليوم التالي فإنه ـ أي مارشال ـ لن يصوت لترومان.
وفي معرض اعتراضهم على قرار الاعتراف بإسرائيل، قال المستشارون أن من شأن ذلك القرار أن يفتح المجال لتسلل الاتحاد السوفييتي للمنطقة، وأنه يتعارض مع حق تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين، ومع المصالح القومية لأميركا، وأنه سيتسبب في عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها.
كان جواب ترومان على انتقادات مستشاريه ووزرائه واضحا، إذ قال: آسف أيها السادة إن علي أن أتجاوب مع رغبات مئات الآلاف من المواطنين الأميركيين الذين ينتظرون نجاح الصهيونية، وإنه ليس لدي مئات الآلاف من الناخبين العرب.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن الرئيس الأميركي لم يكن في البداية متحمسا لدعم الكيان اليهودي أو متعاطفا مع المخططات الصهيونية تجاه فلسطين.
إلا إن قيام المنظمات اليهودية الأميركية في حينه بالضغط عليه والتهديد بالوقوف ضده في الانتخابات الرئاسية التي كان موعدها قد اقترب دفعه إلى اتخاذ قراره بدعم المطامع الصهيونية والاعتراف بدولة إسرائيل. وهذا يعني أن اعتراف ترومان بإسرائيل جاء نتيجة لاعتبارات سياسية ومن منطلق المصلحة الشخصية، وأنه لم يكن نتيجة لدراسة استراتيجية توخت تعزيز المصالح القومية للدولة الأميركية.
وإذا كانت أقوال وأفعال الرئيس الاميركي قد منحت الصهاينة نصرا سياسيا كبيرا للغاية، فإنها أرست في الوقت ذاته مبدأين جديدين في السياسة الأميركية: (1) السماح لكبار المسؤولين الأميركيين بإعطاء الأفضلية لطموحاتهم السياسية ومصالحهم الشخصية وتقديمها على المصلحة الوطنية، و(2) الاعتراف بحق الأقليات العرقية والدينية بتشكيل قوى ضغط خاصة وقيامها بالتدخل في صياغة وتوجيه سياسة أميركا الخارجية وتسخيرها لخدمة مصالح دولة أجنبية بغض النظر عن توافق أو تعارض مصالح تلك الدولة مع المصلحة الوطنية الأميركية.
ومنذ ذلك الحين لم يعد بإمكان أي رئيس أميركي رسم وتنفيذ سياسة خارجية لبلاده كما تمليها المصلحة الوطنية والمتطلبات الأمنية الأميركية دون تدخل قوى الضغط الخاصة، وفي مقدمتها اللوبي الصهيوني ومع الأيام. اتسع نشاط اللوبي الصهيوني ليشمل إلى جانب المنطقة العربية، سياسة أميركا تجاه الاتحاد السوفييتي وبعض دول أميركا اللاتينية.
وعلى الرغم من أن اللوبي الصهيوني لم يكن قد ولد في عام 1948، إلا أن نجاح قوى الضغط اليهودية بتحقيق أهدافها من ناحية، وعدم حدوث ردود فعل شعبية أو سياسية أو إعلامية مناهضة من ناحية ثانية، أدت إلى تمهيد الطريق لميلاد اللوبي الصهيوني كابن شرعي لأوضاع غير شرعية وغير أخلاقية.
ولقد بقي الدعم الرسمي للكيان الصهيوني محصورا إلى حد كبير في التأييد السياسي في المحافل الدولية وتقديم معونات اقتصادية متواضعة حتى بداية الستينات من القرن الماضي، حيث بلغ مجموع تلك المعونات خلال العقد الأول من عمر الدولة اليهودية حوالي نصف مليار دولار فقط.
إلا أن وصول الرئيس كنيدي إلى الحكم في عام 1960 وحصوله على ما نسبته 82% من أصوات يهود أميركا غيَر كل الاعتبارات السابقة، حيث قام الرئيس الاميركي، ولأول مرة، ببيع إسرائيل معدات حربية وإدخال الكيان الصهيوني كحليف استراتيجي ضمن سياسة أميركا الأمنية وتطلعاتها الدولية.
يحدد جون ميرشهايمر وستيفن وولت في دراستهما عن اللوبي الصهيوني ودوره في توجيه سياسة أميركا الخارجية عدة نقاط هامة كمرتكزات لعمل اللوبي الصهيوني على الساحة الأميركية. ويمكن تلخيص النقاط التي يستخدمها أنصار إسرائيل في دعايتهم للكيان الصهيوني وفي تبرير مطالبتهم المستمرة بزيادة الدعم الاميركي للدولة اليهودية في النقاط التالية:
1. أن إسرائيل دولة ضعيفة محاطة ببحر من الأعداء وأنها بحاجة ماسة لدعم أميركا ووقوف الحكومة الأميركية إلى جانبها في المحافل الدولية، وتقديم المعونات الاقتصادية العسكرية لها.
2. أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، وأنها لذلك تلتقي مع أميركا من حيث القيم والمبادئ الإنسانية.
3. إن اليهود بشكل عام عانوا في الماضي على يد الأوروبيين، وأنهم لذلك يستحقون معاملة خاصة من الأميركيين الذين وقفوا دوما إلى جانب الضعيف.
4. أن سلوك إسرائيل أفضل بكثير من سلوكيات غيرها من دول المنطقة، خاصة من الناحية الأخلاقية.
5. أن إسرائيل هي الحليف الاستراتيجي الأهم لأميركا في منطقة مضطربة غنية بالبترول، وذات أهمية خاصة بالنسبة لمصالح أميركا الحيوية وهيبتها على الساحة الدولية.
وبالرغم من الكذب والمبالغة ومحاولات تزوير الحقائق التي لم يتوقف اللوبي الصهيوني عن ممارستها، إلا انه نجح نجاحا باهرا في رسم صورة جميلة ونقية وأخلاقية لإسرائيل في أذهان الرأي العام الاميركي كان من نتائجها الإسهام بفاعلية في تأييد غالبية الشعب الاميركي لمواقف إسرائيل العنصرية وسياساتها التوسعية.
كما نجح اللوبي الصهيوني في المقابل في رسم صورة متخلفة وقبيحة وغير أخلاقية للمسلمين عامة وللعرب خاصة في مخيلة الأميركيين. وهذا بدوره جعل الدعم الاميركي الرسمي والشعبي لإسرائيل من ناحية، والعداء للعرب والمسلمين من ناحية أخرى، يبدو أمرا طبيعيا، بل ومنطقيا أيضا.
وفي ضوء ذلك النجاح، وعدم ظهور معارضة له، وفشل العرب في رؤية الأخطار المحدقة بهم والقيام بالدفاع عن ثقافتهم ومصالحهم، فإن المعونات الأميركية لإسرائيل بدأت بالتزايد المستمر عاما بعد عام.
كما تغيرت طبيعة وتركيب تلك المعونات. وعلى سبيل المثال، بينما بلغ مجموع المعونات الرسمية في عقد الستينات حوالي 834 مليون دولار قدمت كلها على شكل قروض، تجاوزت المعونات في عقد السبعينات 17 مليار دولار قدم حوالي نصفها على شكل قروض والنصف الآخر على شكل منح لا ترد. وسنحاول في المقال القادم تفنيد مزاعم اللوبي الصهيوني فيما يتعلق بمبررات وجوب قيام أميركا بدعمها في المجالات الدبلوماسية وتقديم المعونات العسكرية والاقتصادية لها.