في الجزء الأخير هذا من دراسته لأعمال ناعوم تشومسكي، يعرّي بلانكفورت على واقع تعمّد فيه الأول إخفاء الدور الذي لعبته ولازالت تلعبه الـ Aipac (اللجنة الأميركية للشؤون العامة الإسرائيلية) بشكل فاضح. فهذا اللوبي القوي الموالي لإسرائيل يقوم بتعبئة الجالية اليهودية الأميركية لممارسة ضغطها على الكونغرس من أجل الحصول على دعم تام لإسرائيل، غالباً ما يكون على حساب المصالح الوطنية الأمريكية.
للإطلاع على الجزء الأول من هذه الدراسة, يرجى النقر على العنوان التالي : « التحكم بالأضرار: ناعوم تشومسكي والنزاع الإسرائيلي-الإسرائيلي. الجزء الثاني من الدراسة متوفر على العنوان التالي : «على عكس نظريات تشومسكي, لامصلحة للولايات المتحدة في مساندة إسرائيل ».
فإن كان الأمر ذلك مازال قائما في واشنطن، فذلك يعود لسطوتهم على الكونغرس ولقدرة هاتين الحاضرتين على التأثير في سياسة البيت الأبيض، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. إن هذا اللوبي ومرتزقته في السلطة التشريعية لا يفوزان حتماً بكل معاركهما، إلا أنهما في نهاية المطاف يخرجان رابحين من حروبهما، كما يشهد على ذلك الرؤساء الثلاثة الذين لا يزالون على قيد الحياة : جيرالد فورد، جيمي كارتر وجورج بوش الأب الذين انتهوا بخسارة كبيرة في الانتخابات..
عاما بعد عام، ومنذ تأسيسها عام ١٩٥٩، أخذت هذه المنظمة تزداد حجما و قوة بشكل مصطرد. مركزها في واشنطن، ولها مكاتب في مختلف مناطق الولايات المتحدة، عدد المنخرطين فيها لايقل عن ٨٥٠٠٠ عضوا، و يشتغل بها ١٦٥موظفا، بميزانية سنوية تقدر بـ ٣٣.٤ مليون دولارا ) [1]، والـ Aipac هي قمّة لتجمّع كثيف من المنظمات الصهيونية ولجان التحرك السياسي (PACs) Political Action Committees المتواجدة في أرجاء البلاد،محلّياً ووطنياً، كرست نفسها منذ البداية للعمل على احتفاظ إسرائيل بالمكانة التي تنعم بها في العاصمة الفيدرالية.
وبالتأكيد، لم تعد إسرائيل تقلق فيما يتعلق بالبيت الأبيض. إذ لم يكن الحال كذلك في الماضي، حيث قام فورد و كارتر وبوش الأب بتحدي الطموحات التوسعية لإسرائيل علناً، وغلقوا كل الأبواب أمام لوبياتها في العديد من المناسبات. وهذا لا يظهر في أي من كتابات تشومسكي عملياً. في المكان أو الموضع، كان يريدنا أن نصدّق أن هؤلاء الرؤساء، كما هو حال سابقيهم، كانوا يساندون بناء المستعمرات الإسرائيلية وما تلى ذلك من جهود رامية إلى ضم مزيد من الأراضي إلى أراضيهم. غير أن جميع المحفوظات التاريخية تقدم لنا الدليل المناقض. هذا لم يمنع, مع ذلك, تشومسكي من كتابة: «على الرغم من أن الحقائق الأكثر أهمية لا تحتوي على أي تعقيب اتفاقي، كما أنها غالبا ما تكون مجهولة أو محرّفة، بما فيها منشورات البحث، فإنها لا تعتبر متناقضة. إنها تعطي الأسس اللازمة، لفهم ما يحدث حالياً.» [2]
والواضح أن الجزء الأكبر مما يصفه بالغير متنازع عليه ليس كذلك، كيف؟! خصوصا ما تعلق منه بعلاقات إسرائيل مع البيت الأبيض. كما أن الباحث الإسرائيلي المحترم، المناضل في مجال حقوق الإنسان، الفقيد البروفسور إسرائيل شاك Israël Shahak، لفت النظر إلى أن تحليل تشومسكي يشكو من : « نزعة أكيدة لإظهار صورة الرئاسة الأمريكية، وبشكل عام التنفيذي الأميركي كشيطان، مع إهماله للسلطة التشريعية. كذلك ميوله المثير للأسف، برأيي المتواضع، إدعاؤه بأن المبادىء الأمريكية وامبريالتها تم عرضها منذ عام ١٩٤٤ تقريباً، وبأنها منذ الوقت ذلك، تلخص في تنفيذ أوامر صادرة عن حاسوب...
وهنا... يتم تجاهل ليس فقط العامل الإنساني في الولايات المتحدة نفسها، بل أيضا، طبيعة أعداء وضحايا الولايات المتحدة المختلفين تماما عبر السنوات العشر الأخيرة. لايختلف إثنان، برأيي، في حقيقة أن جزءاً من سياسة الولايات المتحدة المتبّعة حاليا سيئة ومتأثرة بعوامل عدة، كما هو الحال في جميع الدول الأخرى، حيث تشكل منظمة الـ Aipac (والتي لم يشر إليها تشومسكي في كتاباته على الإطلاق...)».
أخيرا، نستشهد بهذه الفقرة المتميزة بشكل خارق :
«ولكن من نظريات مبّسطة كهذه، مبنية على الذاكرة وعلى قدرته على انتقاء أمثلة ارتحلت (تعود في بعض الأحيان إلى ماضٍ بعيد كما في مثله الساحر فيما يخص ايزنهاور، متجاهلاً كل ما حدث منذ عام ١٩٦٧) كفيلة بأن تلقى إعجاب الشباب الباحثين، أو أولئك الذين لا يريدون الالتزام ببحث جديّ حقيقي حيث يجدون في ما يقوله مهدئا موضوعا على رف من المشاعر القبيحة وعديمة الجدوى». [3]
وقد كتبت لـ شاك، بعد سماعي إجابة تشومسكي على سؤال طُرح عليه في ختام وعظة قام بها في بركيلي، في لحظة تصعيد حرب الخليج الأولى. فقد كان أحد المشاركين يريد معرفة رأيه حول الدور الذي لعبته الـ Aipac في حرب الخليج، وكذلك رأيه في اللوبي بشكل عام. وكما كان متوقعا، أظهر تشومسكي كثيرا من الاسترسال «شخصياً لا أعتقد بأن الـ Aipac لعبت دوراً كبيرا في هذا كله. في الواقع، لدي انطباع -ومرة أخرى أعبّر هنا عن رأيي الشخصي- نحن نبالغ كثيرا، بشكل عام، عندما نتحدث عن دور اللوبي الإسرائيلي. إنه موضوع تقديري برأيي. والمسألة ليست فقط موضوع حقائق أو نزاهة. إذا كان للوبي الإسرائيلي تأثيره الخاص، فذلك لأنه، على الصعيد الداخلي، وبشكل شامل، يتقاطع مع بعض القطاعات القوية للسلطة الأمريكية» [4]
مع ذلك، تعليق تشومسكي ينوّه على أنه «كان للـ Aipac رصيد واسع في لعب دور أساسي في بحثها عن الأصوات التي منحت الرئيس بوش الأغلبية في مجلس الشيوخ . وبسبب الحساسية المفرطة [للرأي العام] في هذه المسألة، سعت الـ Aipac لإخفاء دورها، وذلك لتجنب إعطاء إثباتات يمكنها أن تجلب لها الاتهامات... وإثبات الادعاء الذي يشير إلى أن اندلاع حرب الخليج الفارسي يمكنها أن تكون بتحريك من اليهود، وذلك بغية حماية إسرائيل» [5] «ولتغطية هذا الدور» يضيف الصحافي لاري كوهلر من جريدة (واشنطن الأسبوع اليهودي) «دفعت الـ Aipac بعضا من أعضاء مجلس الشيوخ للتصويت ضد الحرب، وفي الوقت نفسه ضغطت داخليا على أعضاء مجلس شيوخ من غير اليهود، لا يوجد في ولاياتهم يهودا بأعداد كبيرة، بدفعهم للتصويت مع هذه الحرب... إن حقيقة عدم تنحية صدام حسين عن الحكم في تلك الفترة أثارت انتقادات لاذعة من يهود الدرجة الأولى الحمقى الجدد، وكذلك (بشكل أقل حدّة) من قِبل الـ Aipac. طوال فترة رئاسة كلينتون، فقد كانوا ينادون بضرورة تغيير النظام في العراق سريعا، وتحت بوش الابن، أصبحوا قادرين على إيصال هذه المهمة إلى غايتها» [6]
ولكن الظاهرة المثيرة جدا للقلق في إجابة تشومسكي هي تقليله من أهمية دور اللوبي الموالي لإسرائيل. فمعظم المراقبين السياسيين يعتبرون أن المنتَخَبين السياسيين مدعومون على كل المستويات بدرجة أو بأخرى من ممولي حملاتهم الانتخابية (الشبيهة بحملات وكلاء الأعمال الذين يتحدثون باسم الشركات الكبرى) - حيث تعتبر الـ Aipac بطلاً مؤكدا في هذا المجال- إن جواب تشومسكي في أحسن الأحوال كان غير متوازن.
وبشكل متوقع صُفق له بحماس شديد من قِبل حلفاء إسرائيل، الذين سُعدوا لأن الباحث المميز والمطلق استطاع تخليص المنظمات اليهودية الأمريكية من أية مسؤولية مما كان يفعله إخوانهم في الدين، من معاناة للفلسطينيين، أو في تأثير هذا اللوبي في مساندته لحرب العراق الأولى. قررت أن أُطْلع البروفسور شاهاك على انطباعاتي. وجوابه الصريح لي كان :
«مثلك الآن، كان لي تباعد الرؤية ذاته، -بل أكثر حدّة- مع تشومسكي الذي تربطني به صداقة شخصية منذ مدة طويلة فيما يتعلق بموضوع الـ Aipac وتأثير اللوبي اليهودي بشكل عام. إضافة إلى عدد من الأصدقاء المشتَركين الذين حاولوا بدورهم أيضاً تغيير رأيه، لكن بدون جدوى.
بغض النظر عن خصاله الرائعة وعمله المُعتبر، أخشى في الواقع أن يكون تشومسكي رجلا قطعياً في عديد من النقاط. ولا أشك للحظة واحدة بأن خطأه الأساسي بشأن الـ Aipac هو تأكيده على أنه «ليس له وزن» -مغالطة غالباً ما يكررها- وهذا له تأثير كبير في مساعدة الصهاينة بشكل يؤخذ بعين الاعتبار، وكما برهنت أنتَ على ذلك بشكل يلفت النظر» [7]
على الأقل، اكتشفت أنني لم أكن وحيدا في حكمي على تشومسكي. إن موقفه كان خبزا مقدسا للـ Aipac الشيء الذي كان له فضل كبير على المصالح الإسرائيلية في الولايات المتحدة. بالحقائق، كما أوضحت مسبقاً، لم يتكرّم تشومسكي الإشارة إلى اسم المنظمة في أي من كتبه المذكورة كتابةً (على الرغم من عددها الكبير) والتي كرّسها للشرق الأوسط. بتحويل المناضلين عن مجابهة مع ساسة الليبراليين الذين يسيطر عليهم اللوبي وبتأنيبه حكّام البيت الأبيض بخصوص تصرفات إسرائيل، من المؤكد أن تشومسكي تعهّد «بضبط الخسائر» لمصلحة الـ Aipac وبدلاً عنها...
أما البروفسور المرحوم ادوارد سعيد -صديق آخر من الذين كانوا معجبين بتشومسكي- فلم يمضغ كلماته حول الموضوع. فمساهمته في العمل الجماعي «الانتفاضة الجديدة The new Intifada» والذي يحمل عنوان: «آخر الممنوعات الأمريكية»، كتب:
«ما الذي يفسر الوضع الحالي؟ والجواب يكمن في تأثير المنظمات الصهيونية على سياسة الولايات المتحدة، إذ أن دورها طوال فترة «العملية» المسماة «بالسلام» لم تتم دراستها بشكل كافٍ. وهذا إهمال مذهل عندما نعلم أن سياسة منظمة التحرير الفلسطينية تتضمن بشكل أساسي وضع مصيرنا، كشعب [إدوار سعيد كان فلسطينيا] بين يديّ الولايات المتحدة، دون أن ندرك ولو بشكل مبدئي أن أسلوب سياسة الولايات المتحدة المهيمَن عليه من قِبل أقلية قليلة من الأشخاص الذين يحملون أفكارا حول الشرق الأوسط، والذين يُعتَبرون أكثر تطرفاً من الليكود نفسه» [8]
ويقول سعيد في موضوع الـ Aipac :
«في الولايات المتحدة تعتبر منظمة الـ Aipac _ اللوبي الأكثر قوّة على الإطلاق منذ سنين. باستطاعتها الاعتماد على رهط من اليهود المنظمين والمنخرطين جيدا المرئيين والأغنياء، فهي هاجس ساسة الولايات المتحدة، توحي إليهم بالخشية والاحترام. من ذا الذي لديه استعداد لمواجهة هذا (الإله الأسطوري Moloch) للدفاع عن فلسطينيين لا يملكون أي شيء يقدّمونه في المقابل، في حين أن الـ Aipac تستطيع تحطيم حياتك المهنية فقط لمجرد إغلاقها دفتر شيكاتها؟ في الماضي، عضو أو عضوان من مجلس النواب حاولا الثبات علناً في وجهها، غير أن عدة لجان ناشطة سياسيا، بزعامة الـ Aipac سهرت على عدم إمكانية انتخابهم ثانية ... إذا كان هذا وضع السلطة التشريعية، فأترك لكم حرية التكهن لما يمكن أن يكون عليه الوضع في السلطة التنفيذية!» [9]
كل الذين امتثلوا للوبي الموالي لإسرائيل، بقي دفتر الشيكات مفتوحا لهم باستمرار. وهكذا، تبرع الإسرائيلي-الأمريكي شيم صبان عام ٢٠٠٢ بمبلغ ١٢.٣ مليون دولارا للحزب الديمقراطي دون أن يلاحظ أحد ذلك على الإطلاق. قارنوا الذي سبق بالضوضاء الإعلامية التي حدثت في فترة سابقة عندما تبرعت شركة إكسون للبترول بمبلغ ١٠ ملايين دولارا للحزب الجمهوري على مدى مدّة تزيد على الستة أعوام! بالإضافة إلى ذلك، وحسب موقع الانترنت لمجلة «أم جونز» Mother Jones، حوالي ١٢٠ من أصل ٢٥٠ من كبار المتبرعين لانتخابات عام ٢٠٠٢ كانوا من اليهود. في واشنطن يتم الحديث عن لوبي إسرائيلي مالي...
بنفس الحرص، قام البروفسور خوان كول من جامعة ميتشيغان بقرع أجراس الخطر بخصوص الـ Aipac، عندما تحدث عن خبر أذيع على شاشة سي إن إن، مفاده أنها «تنظم سنويا ٢٠٠٠ لقاء مع أعضاء مجلس شيوخ ومع أعضاء البرلمان الأميركيين، الأمر الذي يؤدي إلى تبني حوالي مئة نص قانوني كل عام!» وفي فقرة لاحقة كتب :
«بعض القراء أشاروا إلى أنني أسرف في التحدث عن سطوة الـ Aipac على البرلمان. ولكنني شخصياً أعرف أعضاء من مجلس الشيوخ وممثلين يخشون التحدث بالشؤون الإسرائيلية بسبب سيط الـ Aipac الذائع في استهدافها للبرلمانيين المتجاسرين، عاملة على خسارتهم للإنتخابات. وهذا شيء يمكن التأكد منه. لنتفحص الجريدة الرسمية لمداولات البرلمان. هل رأينا مرة في جلساته خطابا واحدا قام بإلقائه سيناتور أو ممثل انتقد السياسة الإسرائيلية، واستطاع الفوز بالانتخابات التالية ؟ ولنتفحّص مداولات أي برلمان في العالم: انتقادات من هذا النوع يتم صياغتها في العالم، إلا في الولايات المتحدة! الكونغرس الأميركي رهينة في يدّ منظمة مهووسة، تعمل على تبدية مصالح إسرائيل، قبل مصالح الولايات المتحدة...» [10]
قبل ٢٠ عاما -أي قبل ظهور المسيحيين الصهاينة- لفت سيث تيلمان نظرنا إلى أن:
«رؤساء الولايات المتحدة نشدوا باستمرار تجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو مع حلفائها البواسل، وذلك بسبب المنازعات الداخلية المخيفة التي يمكن أن تولدها مجابهة كهذه، والرصيد السياسي المفرط المتوجب بذله في معركة كهذه، على حساب خسارة أهداف أخرى، سواء داخلية أم خارجية، لأية إدارة مفترضة، وأخيراً، بسبب الريبة في أن رئيسا سيكسب هذه المبارزة الداخلية، تحديدا عندما يستخدم جميع السلطات التي يمنحها إياه مركزه كرئيس، في المجالات السياسية و التربوية...» [11]
على خلاف اللوبي الوطني الآخر، لا يوجد للـ Aipac منافسين خطرين عليها: فالمنظمات الأمريكية العربية في واشنطن L’American-Arab Anti-Discriminationo Committee (ADC) و l’Arab-American Institute (ADI) تعتبران صغيرتي الحجم وخجولتين جدا بحيث أنهما لا تستطيعان الوقوف في وجهها أو حتى في ظلّها... وهذا ما يعطي اللوبي الموالي لإسرائيل قوته الأسطورية، دون التنويه بمهاراتها التنظيمية، لأن أعضائها يرتبطون بعلاقات حميمة مع منظمات وفيدراليات ومجالس علاقات جماهيرية يهودية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وكذلك مع مسؤولي النقابات الرئيسيين، بالإضافة إلى أنها، ومنذ عدة سنوات ارتبطت مع الحركات المسيحية الإنجيلية، التي يزداد حجمها وامتدادها بشكل كبير، آتين بدعم لإسرائيل لم يسبق له مثيل في التاريخ، في ظروف تعتبر بشكل عام من مهمات الجمهوريين اليمينيين. جدير بالملاحظة أن تشومسكي و أعوانه، خصوصا البرفسور ستيفن زن وجويل بينين إلى جانب فيليس بنيس، من معهد دراسات (السياسات) العامة انتظروا دخول المسيحيين المتصهينين في اللعبة قبل أن يبدؤا التحدث عن «اللوبي» وموعزين لفكرة أن الإنجيليين سيشكلون المُركّب الأكثر قوة. والترجمة (أو حلّ الشيفرة) يمكنها أن تجعل من هؤلاء المسيحيين الصهاينة، مُرحَبا بهم بشكل خاص لأنهم يحوّلون أنظار العامة عن الـ Aipac...
الوحيدون الذين استطاعوا شن معركة بطولية ضد الـ Aipac كانوا «أعضاء مجلس المصالح الوطنية Conseil de l’Intérêt National CNI » المشكّل من دبلوماسيين قدماء من وزارة الدولة والسفارات، ممن لهم تجربة سابقة في الشرق الأوسط، وأعضاء برلمان سابقين مثل بول فندلي، وبيت ماك غلوسكي إذ أدّت انتقاداتهم لإسرائيل ومساندة حقوق الفلسطينيين إلى نتائج وضعتهم على مرمى هدف الـ Aipac، وعملت ما بوسعها لإسقاطهم في الانتخابات... كما أن الموظفين الكبار السابقون يوصفون بازدراء بـ «المستعربين» من قِبل حلفاء إسرائيل ومن أصدقائها الإعلاميين، ساعين لنشر فكرة أن التجربة التي عاشها هؤلاء في الشرق الأوسط عملت على تشويه حسّهم الوطني! من الناحية العملية، أصبحت هذه التسمية تلميح يستخدم مكان مصطلح «معاداة السامية». ولكن، بالمناسبة، متعقبيهم اليهود لم يعودو يولون أي اهتمام حتى لاستخدام هذا التلميح!
أما موقف مجلس المصالح الوطنية فيرتكز ببساطة على القول: بأن مساندة واشنطن المسرفة للسياسة الإسرائيلية المحتلة والتوسعية لا تخدم مصالح الولايات المتحدة...
إن لصق تهمة «معاداة السامية» له تأثير لا مثيل له. فالاستنكار الذي لحق بشخصيات معروفة، مرموقة ومتنوعة كالمبجّل «بيلي غراهام» أو الممثل مارلون براندو أجبرهم على تقديم اعتذاراتهم العلنية راكعين ومن عيونهم تنهمر الدموع.
الجمعيات الفلسطينية في الولايات المتحدة اختارت الحلّ الأسهل: فهي تسير في هشيم تشومسكي... وللأسف، يسيرون في هذا الطريق وبحماس، لدرجة أن موضوع الـ Aipac واللوبي الموالي لإسرائيل لا يتم الإيحاء إليهما، ولا حتى من باب أولي ليتم نقاشه أثناء الندوات التي يعملون على تنطيمها. هذا يعود بشكل جزئي لانتمائهم إلى عدة منظمات سياسية بقيادة يهود يعلنون عن أنفسهم أنهم ضد الصهيونية، وهم فوق هذا يخشون إثارة اللاسامية، مفضلين إلقاء الغلط على «الامبريالية الأمريكية»: هدف بعيد، معترف به ولكنه أقل خطورة بكثير.
والحدث الذي يمكنه أن يعطينا فهما عميقا لسلطة الـ Aipac هو المعركة الخاسرة التي شنّها الرئيس جيرالد فورد في وجه إسرائيل والـ Aipac عام ١٩٧٥ التي تعتبر إحدى الحقائق المسّجلة في تاريخ العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة عام ١٩٨٢، حيث كرّس له تشومسكي ثلاثة سطور، ومنذ ذلك الحين، لم يرد أي ذكر لهذا الحادث» [12]
هذه المواجهة ورّطت فورد وسكرتير الدولة آنذاك هنري كيسنجر من ناحية، وإسرائيل و الـ Aipac من ناحية أخرى. وهذا ما سرده سيث تيلمان :
«من بين العديد من غنائم الانتصارات التي حققها [اللوبي الموالي لإسرائيل] في حلبة السلطة التشريعية، الأكثر بروزا وأهمية في نتائجها كانت «رسالة ٦٥ّ» التي أرسلها عدد من أعضاء مجلس الشيوح للرئيس فورد، بتاريخ ٢١ مايو/أيار ١٩٧٥. بعد سقوط الجولة الأولى «لسياسة الخطوات الصغيرة» لكيسنجر الذي قام بتحضير جولة ثانية لفك الارتباط من سيناء [بعد حرب اكتوبر ١٩٧٣] أعلن رئيس الوزراء بغضب و خيبة «إعادة تقييم» سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: إدارة فورد تؤجل صفقة الأسلحة المنتظر إرسالها لإسرائيل، كما أنها علّقت مباحثات التفاوض من أجل معونة مالية وعسكرية، والتي تتضمن طائرة الهجوم الجديدة الصنع الـ ف-١٥. خلال مرحلة تقييم تلك السياسة، كان معظم الخبراء المنتمين إلى سرايا الحكومة، بالإضافة إلى آخرين متطوعين من الخارج، استطاعوا التوصل إلى شبه إجماع لصالح نداء الولايات المتحدة لحل الأزمة مبنياً على انسحاب إسرائيل حتى حدود ١٩٦٧ (مع تغييرات طفيفة لا تذكر) مترافقة مع ضمانات قوية تحفظ الأمن لإسرائيل... مستشاروا كيسنجر استبصروا نداءا يلقيه الرئيس فورد أمام الشعب الأميركي يُنقل على شاشات التلفزة في كل الولايات المتحدة، طارحا مواضيع جوهرية وثيقة الصلة بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. مبررا الانسحاب الإسرائيلي على هذه الأسس، مقابل الضمانات.» [13]
عندما شعرت منظمة الـ Aipac أن إدارة فورد سترمي بورقتها في الساحة، أتت ردّة فعلها. فبعد ثلاثة أسابيع من الحركة المكثفة، قام ٧٦ عضو مجلس شيوخ بتوقيع رسالة وُجهّت إلى الرئيس فورد، أكّدوا فيها على دور الحاجز الذي تشكله إسرائيل [في وجه التأثير السوفياتي في الشرق الأوسط] ومحذرين.
«حَجْب بعض المعدات العسكرية عن إسرائيل له صدى استحسان خطير لجيرانها وهذا محبط لإسرائيل، كما يعطي جيرانها دفعا لاستخدام العنف ضدها. في الأسابيع المقبلة، ينتظر الكونغرس طلبات المساعدات الخارجية للسنة الضريبية لعام ١٩٧٦. ونحن مقتنعين بأن توصياتكم ستستجيب للضروريات الأكثر إلحاحا لإسرائيل العسكرية منها أو الاقتصادية. ونحن نستحثكم للبوح بشكل جلي، كما نفعل نحن، بأن تتفاعل الولايات المتحدة وفق مصالحها الوطنية الخاصة، وتقف بحزم إلى جانب إسرائيل في البحث عن السلام عبر مباحثات قادمة، كما تشكل هذه السابقة قاعدة لإعادة تقييم السياسة الآلية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط» [14]
و بالفعل هذا ما وضع حدا لمشروع «إعادة التقييم» الذي قدمته الحكومة، الذي زاوجه إعفاء عن نيسكون وحاز فورد على قسط من الآمال في إعادة انتخابه عام ١٩٧٦.
و«بتمهل»، لاحظ ستيڤن سبيغل (من جامعة كاليفورنيا في لوس آنجلوس) «تواقيع سيناتوريون متنوعون مثل تيدي كينيدي، باري غولوير، فرانك شرش ، بول لاكسالت، والتر موندال و ستروم ثيرموند، يمكن اعتبارها حركة احترازية للديبلوماسية الشرق أوسطية لإدارة الولايات المتحدة» [15] إدراك حقيقة أن الـ Aipac بمقدورها الحصول في أي وقت تريد على تواقيع مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ بهذا القدر من التنوع، وبرسالة كهذه، لم تغب عن أذهان الرؤساء اللاحقين أبداً فيما بعد. ولكن، كما سنرى لاحقا، على الرغم مما سبق، مرة أخرى الاستخفاف بقوة اللوبي المساند لإسرائيل هو الذي أدى إلى الإطاحة بالثنائي بوش/جيمس بيكر. خمسة عشر سنة بعدها، (ولا يزال هذا وضع الوقت الحالي. الأسماء فقط تغيرت. ولا يوجد أي موضوع أخر قادر على صناعة شئ آخر غير الديمقراطيين الليبراليين والجمهوريين الأكثر يميناً والذين يمسكون تباعا بزمام الحكم، وكل هذا بفضل الجهود التي أشار إليها تشومسكي، دون دفع مقابل ثمنا للكؤوس المكسّرة). تقييم «تأثير الكونغرس على سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل» (دراسة شاملة ومفصلة لهذه المسألة المنقولة لنفس الفترة) وقد استخلص مارڤين فيوڤرجر، ما يلي على النحو التالي:
«لعب الكونغرس دورا أساسيا في مجرى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية خلال الفترة الممتدة من ١٩٦٩ -١٩٧٦... وفي لحظات معينة، بدت رغبة الكونغرس في ممارسة سلطته، بتجميد قرارات كان مخططا لها من قبل الإدارة [=التنفيذي]، ساهم على إبقاء سياسة الولايات المتحدة داخل الحدود الموالية لإسرائيل... [إسنادا لرسالة أعضاء مجلس الشيوخ إلى فورد] وقد دفع الفرع التنفيذي للتخلي عن خيار يرتكز على فرض تسوية في الشرق الأوسط، تعتبرها إسرائيل مسيئة لأمنها. وكذلك الأمر بالنسبة لتحركات الكونغرس ولمجموعة ضغط الـ Aipac، ردا على خطة روجرز عام ١٩٦٩، التي تضمنت احتمال انعدام أية مبادرة قريبة موالية للعرب أو يمكن تصورها في المستقبل ( من قبل إدارة نيكسون).» [16]
إذا كان تجاهل تشومسكي المقصود لمعركة إدارة بوش الأب الخاسرة في وجه الـ Aipac لا تغتفر، فكذلك الأمر بالنسبة لسرده التعديلي للعلاقات بين جورج بوش الأب و إسرائيل. إذا كان هنالك تقييماً عامّاً لمهنة السياسي، فذلك يمكن أن يقود بوش الأب إلى قفص الاتهام بوصفه مجرم حرب، غير أن مواجهته مع اللوبي الموالي لإسرائيل كانت إحدى نقاطه الإيجابية النادرة، في أعين المعارضين للتحالف الشبه الكامل بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن هذه المواجهة الشجاعة كلفته دون شك عدم نجاحه ثانية في الانتخابات...
على الرغم من إقرار إسرائيل و الجالية اليهودية الأمريكية، أن إدارة بوش الأب كانت عدائية مع إسرائيل منذ إنشاء هذه الدولة، فإن تشومسكي، وبشكل لا يصدّق، يساند العكس:
يقول تشومسكي: «هناك وهمٌ يدعو إلى لاعتقاد بأن الإدارة الأولى لبوش تبنّت موقفا حازما في وجه إسرائيل. غير أن العكس هو الصحيح...» وللتأكيد على ذلك فإنه يرتكز على «الموقف الرسمي للإدارة في ديسمبر/أيلول ١٩٨٩، (خطة بيكر) و تأخذ الخطة التي طُرحت في مايو/أيار ١٩٨٩ من قِبل الحكومة الإسرائيلية لتحالف بيريس-شامير، دون أي إنقاص منها، و تعلن عن عدم إمكانية وجود دولة فلسطينية، وكذلك عن عدم إجراء أي تغيير للوضع الراهن في الأراضي المحتلة، وبأن لا تفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية» [17]
وقد شكى تشومسكي من أن هذه المعلومة تم ترجمتها بشكل سيء من قِبل الصحافة، لأن الذي نقرأه هو أن «بيكر أصر على مساندة الولايات المتحدة بقوة "لانسحاب كامل من الأراضي، مقابل علاقات سلمية"، في حين أنه كان يوافق بشكل سلس على مساندة حاسمة لبرامج ترمي لعدم حدوث هذا الأمر.» إن الأرشيف التاريخي لا يؤكد رأي تشومسكي، ولكن الموضوع، وللمرة الألف، إحدى أمثلته المعروفة حيث «يفحص عددا ضئيلا من الشهادات إلى أن يجد ما يمكنه أن يتطابق مع فكرته المحددة مسبقا من الحقيقة، كما يرغبها أن تكون... فيقوم بعملية انتقائية «للأدلّة» التي تؤكد نظريته، أما الباقي فيتجاهله...» وتبعاً للنوع، هذا «الباقي» كان كثيفا، والجزء الأكبر منه كان مصدره وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي السابق، موشيه أرينز، الذي شكل كتابه «التحالف المكسور» نقضا همجيا فج للطريقة التي تجرأت إدارة بوش التعامل بها مع إسرائيل.
بصفته نائبا للرئيس رونالد ريغن، خان بوش (الأب) حفيظته نحو إسرائيل عندما حاول (عبثاً) الإيعاز للرئيس باتخاذ عقوبات ضد إسرائيل، بعد أن قام هذا الأخير بتدمير المفاعل النووي العراقي أوزيراك (تموز)، عام ١٩٨١. وفي شهر حزيران التالي، لم تحالفه الشهرة عندما نادى وللمرة الألف لعقوباتٍ بعد اجتياح لبنان: تم تحويله إلى أقلية من قِبل ريغن وسكرتير الدولة الكسندر هيغ. [18]
كتب أرينز في واشنطن، بصدد أولى مقابلاته مع الرئيس بوش المنتخب حديثا : «أثار الرئيس مسألة المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي، ولم يترك أي شك بشأن استمرار خلافه الشكلي تجاه جميع التحركات الاحتلالية.» [19] وفيما بعد، أدت محادثات أرينز مع بيكر إلى تلخيصه بأن : «النظام العالمي الجديد» الذي تَحَدَثت عنه وزارة الدولة كان عالَماً قررت فيه إدارة بوش تولي انعقاد جلسة مواجهة مع إسرائيل، حليفتها و صديقتها منذ تاريخ طويل... «والحل الدائم» الذي كانت تشيد به هذه الإدارة، كان يرتكز أساسا على عودة إسرائيل إلى حدود ما قبل يونيو/حزيران ١٩٦٧.» [20]
ونراه: حان وقت دعوة اللوبي للمؤازرة...
«كان يجب على إدارة بوش أن تتعلم «من حسابها الخاص» أن إسرائيل لا تعرف اللوم ولا الانتهار، وكان واضحا لي، أن الإجبار الوحيد المُلزِم لها والذي يجب على إدارة بوش مراعاته تكتيكيا لمواجهة إسرائيل يكمن في السياسة الداخلية... فقد كان على بوش وبيكر مراعاتهما تكتيكيا عدم إثارة معارضة مهمة في الرأي الجماهيري، لذلك بدا مرجحا أنهما سينتهيان بالعدول عن ذلك، بالإضافة إلى أن الانتخابات كانت تقترب.
أدركت أننا سنُرغم على تعزيز مساندتنا لإسرائيل في الكونغرس وأمام الرأي العام الأميركي... خصصتُ اليوم التالي، في ساحة الكابيتول، لإجراء مقابلات مع اللجان البرلمانية للكونغرس وكذلك مع أعضاء مجلس الشيوخ والممثلين بشكل إفرادي...» [21]
زيارة أرينز وتحرك الـ Aipac كانت ستعطي ثمارها، ولكن بشكل مفاجىء، رمى بيكر في شهر مايو ١٩٩٠ استفزازا عندما عبّر أمام مجلسه في واشنطن (أي في الفترة الثانية لإدارة بوش) قائلا للوبيين المجتمعين ولضيوفهم من الكونغرس بأنه
«حان الوقت لإسرائيل كي تترك جانبا، وبدون رجعة، نظرتهم اللاواقعية عن إسرائيل الكبرى. فطموحاتها في الضفة وقطاع غزة وخصوصا أمنها، يمكن ضمانها في إطار حل يرتكز على قرار ٢٤٢: بإيقاف ضم الأراضي. وبإيقاف إنشاء المستعمرات، وبسماحم فتح المدارس، بيد ممدودة لجيرانها الفلسطينيين، الذين يستحقون التمتع بحقوقهم السياسية.»] [22]
كان يجب على بيكر، الثعلب العجوز لساحة الكابيتول، معرفة ما الذي لا يمكن تجنب حدوثه. وقد وصفه أرينز بهذا الشكل:
«خلال حملة تضامنية مع إسرائيل في بداية يونيو/حزيران، واستطلاع جماهيري خارق للعادة، حدث انعطاف بمقدار مئة وثمانين درجة في السياسة الرسمية للولايات المتحدة نحو إسرائيل، إذ قام ٩٤ عضوا من مجلس الشيوخ (من أصل ١٠٠ عضو) بالتوقيع على رسالة وُجهّت إلى رئيس الوزراء، طالبوا فيها الإدارة أن تضمن «جماهيريا وبقوة» بادرة (المسماة) سلام بيريس-شامير.
«الاقتراحات المقدمة من إسرائيل» تقول الرسالة «لم تنل بعد العناية التي تناسبها من قبل بعض أطراف النزاع، ولا من المجموعة الدولية بشكل عام. وكي لا تتكرر هذه الحالة من جديد، يجب على الولايات المتحدة أن تبيّن مساندتها الكاملة، سواء على الصعيد العملي أم الشكلي».
و بعد ذلك، أوجز أرينز المنتصر التالي:
«إن الرسالة الموجهة للإدارة كانت واضحة تماما. وكذلك الأمر بما يتعلق بتكذيب خفي. وقد نُقل أن بيكر اندهش حقا من صيغة تلك الرسالة، وكذلك من حقيقة أنه تم التوقيع عليها من قِبَل ٩٤ سيناتورا.» [23]
منذ سنوات والكونغرس يوافق باستمرار على تقديم مساعدات مالية استثنائية لإسرائيل. ولم يبخلوا عليها على الرغم من أن الأموال كانت تنقص لتمويل برامج عمل أساسية على الصعيد الداخلي. كما كان الحال عليه عام ٢٠٠٢، فبعد أن رفض مجلس الشيوخ مشروع قانون كان يخصص١٥٠ مليون دولارا للمدارس الواقعة في وسط نيويورك والتي عانت من هجوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وافق على الفور إعطاء ٢٠٠ مليون دولار لتمويل إسرائيل، تحت حجة الأمن الداخلي: وكأن إسرائيل هي التي كانت هدف هجوم ١١ سبتمبر وليست مدينة نيويورك أو واشنطن...
وقد تكرر نفس الشيء عام ١٩٩١، إذ أن ستة مدن أمريكية من أصل ١٠ كانت في عجز مالي وعدة ولايات لم تكن قادرة على تأمين معاشات موظفيها. ففي شهر آذار من نفس العام، صوتت غرفة الممثلين الحكوميين، (٣٩٧ صوتا ضد ٢٤) بإعطاء إسرائيل منحة سلفا مقدارها ٦٥٠ مليون دولارا، في إطار قانون تمويل الطوارىء أثناء حرب الخليج، متجاوزين اعتراض إدارة بوش على ذلك. وقد هدد بوش باستخدام الفيتو في حال تم التصويت. ولكنه عندما أدرك عدم استطاعته الحصول على الأغلبية المطلوبة تراجع عن ذلك...
فور انتهاء الحرب عام ١٩٩١، عاشت الـ Aipac أشد فتراتها العصيبة منذ معركتها ضد الرئيس فورد، بسبب إدارة بوش. ففي منتصف مرحلة الجهود الرامية إلى توحيد الأطراف التي كانت ستشكل «مؤتمر السلام» في مدريد، ملحقة ضررا كبيرا برئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير، أخرجت إسرائيل من جعبتها مفاجأة ضخمة للرئيس الأميركي: طلب قرض غير منتظر بقيمة ١٠ مليارات دولارا تكفله الحكومة الأمريكية لمدة خمس سنوات...
بالطبع كان الكونغرس مستعد مرة أخرى، للقفز عبر حلقة المدرب التي تمسكها إسرائيل، منفذا بذلك أوامرها، ومُتجاوزا معارضة الرئيس بوش الحانق من الطلب الإسرائيلي، وبدون شك خوفا من أن تسمح هذه القروض المكفولة والمعتمدة لإسرائيل بالانسحاب من المؤتمر مثيرا سخط الضيوف العرب، لذلك طلب بوش من شامير تأجيل تقديم طلب القرض المكفول أربعة أشهر، مشترطا أن يكون الاتفاق مرهونا بتجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية.
ذكّر أرينز أنه حين أعلمهم بوش بأنه سيطلب مهلة «أدلى عضو مجلس الشيوخ السيناتور دانييل أنوي (ديمقراطي، إيداهو) بكلام لا لبس فيه : «سأرتدي يارميلكتي : سنذهب إلى الحرب!» (وهذا بالطبع لم يكن محل صدفة أن عمله الأول المأجور، بعد تسريحه في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان يرتكز على بيع... قسائم دولة إسرائيل!).
رفض شامير بشكل حازم، لأنه كان يعلم أنه سيربح معركته ضد بوش إذ ما رُفع النزاع أمام الكونغرس. في ١٢ سبتمبر، أدرك حقيقة أن الـ Aipac قد ضمنت ما يكفيها من الأصوات في الغرفتين، كي تُقبل القروض المكفولة و يتم تأجيل الفيتو الرئاسي، آخذا بالاعتبار حقيقة أن «أكثر من ألف يهودي أميركي، يمثلون العديد من الجمعيات المعبأة عبر الـ Aipac، متجمعون في ساحة الكابيتول ليعبّرون عن مساندتهم لتنفيذ سريع لهذه القروض» [24]، كان رد فعل بوش غير عادي: إذ دعى إلى مؤتمر صحفي. وقد تم وصف ما حدث آنذاك بشكل مؤثر في الأسبوعية (واشنطن الأسبوع اليهودي) [25]:
«بربارة ميكولسكي، عضوة مجلس شيوخ عن ماريلاند، مدللة الديمقراطيين اليساريين منذ مدة طويلة، والتي وعدت اللوبي اليهودي بالتصويت لصالح منح القرض، أثناء قيامها بمداخلتها، قدم لها موظف ورقة صغيرة». «فجأة اكفهرّ وجهها» كتب مراسل الواشنطن الأسبوع اليهودي. «علمتُ أن الرئيس أقدم على إعلان معارضته، باسم الشعب الأميركي، للقرض المكفول لمدة ١٢٠ يوماً !»، صرّحت ميكولسكي . «الشعب الأميركي»؛ تصوروا قليلاً... : الأميركيون كانوا بالنسبة للـ Aipac والكونغرس آخر الذين يرغبون أخذهم بعين الاعتبار في مداولاتهم !...
وكما قال أرينز:
«دعا بوش وبشكل عاجل إلى مؤتمر صحفي، مُطلقاً نداءا تلفزيونيا خارقا للعادة وجّهه للشعب الأميركي. كان ظاهرياً غاضباً، قارعاً بقدمه المنصّة، ومعلنا بأن إصرار إسرائيل على الضمانات تهدد ليس فقط المؤتمر المُعلن عنه [مدريد]، بل والسلام نفسه، «ونقاش (بهذا الموضوع) يمكنه بالتأكيد أن يهدم قدرتنا على جمع الأطراف حول طاولة السلام... وإذا اضطررت سأستخدم حق الفيتو كي أمنع من حدوث ذلك...».
ثم وجه حديثه إلى اللوبي الموالي لإسرائيل مباشرة قائلا: «نحن هدف لقوى سياسية مؤثرة... لمجموعات قوية وفعّالة تمارس تأثيرها حتى في ساحة الكابيتول». «لم نخدش إلا شخصا صغيراً معزولا، هنا، وهو في حالة عمل ذلك... ولكنني سأقاتل من أجل أفكاري. بحيث يصبح شعبياً وسياسياً. ودون شك، ليس هذا ما هو عليه الحال... السؤال ليس معرفة إذا ما كان هذا جيداً لسياسة عام ١٩٩٢. المهم بالأمر هو أن نعطي فرصة لعملية السلام... وحتى لو لم أحصل إلا على صوت واحد، هذا غير مهم، فأنا متأكد أن الشعب الأميركي سيكون إلى جانبي.» ثم أضاف الرئيس رافعاً صوته:
«... منذ عدة شهور فقط، أمريكيون يرتدون الزي ا لموحد، رجالا ونساءا، خاطروا بحياتهم للدفاع عن إسرائيل في وجه صواريخ السكود التي أطلقها العراقيون، وبالنتيجة، بفوزها حرباً ضد العدوان، أدت أيضاً إلى هزيمة أخطر أعداء إسرائيل.» وأضاف أيضاً، أنه خلال العام الضريبي الحالي، «على الرغم من انشغالاتنا بالوضع الاقتصادي، أعطت الولايات المتحدة لإسرائيل أكثر من ٤ مليارات دولارا كمساعدات، أي حوالي ١٠٠ ألف دولار لكل إسرائيلي رجلٌ كان أو إمرأة أو طفل». [26]
لم يحدث أبدا لرئيس أميركي أن توجه لشعبه بمثل هذه الصراحة، ولم يعد الكرّة بعده أحد على الإطلاق. استطلاعات الرأي العام التي تمت فيما بعد، دلّت على أن الولايات المتحدة كانت تساند بوش بنسبة واحد من كل ثلاثة , وأن نصف المجيبين كانوا يعارضون إمداد إسرائيل بأية معونة اقتصادية. أسبوعين فيما بعد، بيّن استطلاع آخر أجرته إن بي سي والستريت جورنال، أنه ما بين ٥٨ إلى ٣٢٪ من المنتخبين الأميركيين يوافقون على تقديم المساعدات إلى الاتحاد السوفييتي وأن ٥٥٪ إلى ٢٢٪ من المنتخبين وافقوا على مساعدات لبولونيا، في حين أن المعارضين لأية مساعدات اقتصادية لإسرائيل كانوا بين ٤٦٪ و ٤٤٪. بالإضافة إلى ذلك، ٣٤٪ كانوا يرون في إسرائيل عائقا رئيسيا للسلام في المنطقة، بينما لم يكن إلا ٣٣٪ منهم يفكرون بأن الدول العربية هي العائق. [27]
إذا ما وجدت «فرصة سانحة» مفتوحة لمناضلي القضية الفلسطينية، فهي حقا هذه اللحظة. ولكن تشومسكي أغلقها بكثير من المهارة. إذ كتب عدة شهور بعد نداء بوش، ودل بذلك على أنه ماكر، أو بالأحرى ساذج، وحرص على عدم نشر استطلاعات الرأي العام:
«في لحظة المجابهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كان كافيا أن يعقد الرئيس حاجبيه حتى ينهار اللوبي الإسرائيلي، في حين أن الصحف الرئيسية التي لا تنحرف إلا نادرا عن مسار الحزب الإسرائيلي بدأت تقف في الطابور كي تنشر مقالات منتقدة فيها التصرفات الإسرائيلية، مرددة على الأسماع أن مساندتها لإسرائيل لم تكن ميكانيكية... وهذا أيضا لم يكن ليخدعنا. إن فِرَق الضغط الداخلي ترغب، بشكل عام، أن تبقى غير فعّالة، إلا حين تودّ تعديل مقومات مهمة في سلطة الاقتصاد-الدولي، أو طالما أنها لم تبلغ بعد حجما وحدة تتطلّب تحركا يهدف لتهدأتها. عندما ترافع الـ Aipac لصالح سياسات يسعى التننفيذي أو القطاعات القيادية لمجتمع الأعمال الأميركي تنفيذها، عندئذ تصبح نافذة الكلمة. ولكن بمجرد اعتراضها على السلطة الحقيقية، ويتطلب ذلك اتفاقا، فإن هذا اللوبي يختفي بسرعة.» [28]
إن تقليل تشومسكي من قيمة موقف بوش، والذي اختصره بـ «عقد الحاجبين»، صادقت عليه هزّات رؤوس الدلافين المدجنّة، لحركة [التضامن]. وحسب قوله تحوّلت الـ Aipac إلى «نمر ورقي» واجتاز هذا الشعور الولايات المتحدة كونه تكرر من قبل البروفسور جويل بينين من ستانفورد. مع ذلك، مؤتمر بوش الصحفي أوضح تماما النفوذ الواسع الذي تمارسه الـ Aipac على مجلس نواب الولايات المتحدة، لدرجة أن هذا الأخير مستعد لوضع مطالب إسرائيل -البلد الأجنبي- فوق مأرب رئيس الولايات المتحدة.
وبعد أسبوع من الضغط، اضطر بوش إلى اتخاذ قرارات يائسة لم يسبق لها مثيل. فعلى الرغم من الضغوط حاول الحفاظ على موقفه مؤقتاً، إذ كان بحاجة إلى أقل من أسبوع ليكتب إلى مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، وهي فيدرالية واسعة تمارس ضغطها اللوبي على البيت الأبيض (تضم بين صفوفها الـ Aipac) معبرا عن اضطرابه أن بعضا من ملاحظاته أدّت إلى «تسبيب توجّس في وسط الجالية اليهودية... وأن إشاراتي إلى اللوبي وإلى قوى سياسية قوية لم يكن الغاية منها في جميع الأحوال الإهانة على الإطلاق... » [29]
ردّ فعل تشومسكي على سلسلة الأحداث هذه وقراره بمحوها من نسختة عن التاريخ تكشف لنا جيدا في أية جهة سيقف من الصراع، إذا ما اضطره الأمر أن يختار. فعوضاً عن حث المناضلين على استغنام الفرصة التي سنحها الشرخ الكبير، والذي ظهر نتيجة نداء بوش الدرامي، بين إسرائيل والشعب الأميركي وعوضا عن أن يوعز بحملة تطالب وقف كل المساعدات إلى إسرائيل، تكفّل تشومسكي بـ «ضبط خسائر» الـ Aipac. وإذا ما أردنا تأنيب حركة التضامن لعدم استغلالها الفرصة ولعدم تصرفها، على الرغم من استطلاعات الرأي التي أوردناها سابقاً، إلا أن تأثير تشومسكي وردة فعله حينها كانت فتاكة، وهي لا تزال كذلك اليوم.
وبالطبع، لم تحمل الـ Aipac خيمتها وترحل بسهولة... ففي اليوم التالي من المؤتمر الصحفي الرئاسي، أعلن توم دين، المدير التنفيذي للوبي الموالي لإسرائيل: «١٢ سبتمبر سيبقى لذريتنا وصمة عار»، وأعلن بعدها الحرب على الرئيس. وبناءً على استطلاعات الرأي العام، وجدت إسرائيل والـ Aipac أن التصدي للرئيس في مجلس النواب ستكون عملية غير مجدية، وأنه يجب انتظار الـ ١٢٠ يوما. ولكن خلال فترة الانتظار هذه، تبيّن أن عدد المقالات الصحفية التي تنتقد نهج بوش وممارستة الرئاسة، بدأت بالازدياد بشكل ملحوظ، وخصوصا ما تعلق منها بالجانب الاقتصادي. انتخابات نوفمبر تلوح في الأفق، وإسحاق رابين الذي خلف شامير كرئيس للوزراء في إسرائيل، وافق بوش على إعطاء القرض المكفول، مع تحفظه على أن تُخصم المبالغ التي صرفتها إسرائيل في الأراضي المحتلة من المجموع العام للمساعدة، ولكن هذا لم ينقذ بوش من القضية. لخّص أرينز الوضع كالتالي:
«فشل بوش في محاولته الحصول على تفويض ثان. المحاولات المتكررة التي بسطتها إدارته للتدخل في السياسة الداخلية الإسرائيلية لم يكن لها سابق في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل... مع أنه خلال الأشهر اللاحقة لهزيمة الليكود، أعطى بوش رابين كل الذي كان يرفض إعطائه لشامير، بما فيها القرض المكفول الشهير، غير أنه لم يستطع التوصل إلى تبديد انطباع أن إدارته كانت معادية لإسرائيل.هَزَم بيل كلينتون بوش في الانتخابات الرئاسية. لأن أغلبية الجالية اليهودية الأمريكية والعديد من غير اليهود، من المؤيدين المستبسلين للتحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، عزموا على عدم التصويت لمصلحة جورج بوش. أسلوب بوش وعلاقته بإسرائيل، القريبة من المواجهة، وبشكل خاص تعليق الكفالات القرضية، ساهمت في هزيمة الليكود، ناهيك عن الهامش الانتخابي الضيق الذي كان مهيأ لرابين. اليوم على ما يبدو، نَهْج السياسة نفسه ساهم في هزيمة بوش أيضاً...» [30]
يفترض من القّراء التساؤل كيف يمكن لتقرير كُتب بسطحية يمكنه أن يلتصق مع ما وصفه تشومسكي بـ «إدارة بوش/بيكر حكم بلا رويّة، موالي لإسرائيل»، في حوار صحفي أتاحه لعميله، دافيد برسمان؟ [31]
نظراً لخبرة أسلافهم، قرر بيل كلينتون وجورج بوش حسب الظاهر «إذا كنتم لا تستطيعون الانتصار عليهم، عندئذ انضّموا إليهم.» وضع كلينتون كل دبلوماسيته الشرق أوسطية بين يدي اللوبي الموالي لإسرائيل المرتبط بحزب العمل الإسرائيلي في حين أن بوش الابن، وبعد تصادم أليم وخاسر مع اللوبي ومع آريئيل شارون، بعد انتقاداته للتصرفات الإسرائيلية في جنين عام ٢٠٠٢، سمح لعصابة من الحمقى الجدد الموالين لإسرائيل من كتابة سيناريو الشرق أوسطي بدلا عنه، وهذا على الأغلب ما رجحّ حرب العراق. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما خضع لمتطلبات آريئيل شارون، كما نوهت إليه مصادر عديدة ومختلفة كروبرت فيسك وبرنت سكاوكروفت، مستشارا الأمن الوطني في فترة حكم بوش الأب، فيسك أوعز إلى أن شارون كان مكلّفا بـ «بمكتب علاقات بوش مع الصحافة» [32] وسكاوكروفت، أما رئيس الوزراء الإسرائيلي فقد «ألهب حماس» جورج الابن [33]. في وقتنا الحالي. السيطرة التي تمارسها إسرائيل ومواليها الأمريكيين على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تبدو شاملة. بعد أن درس شيري روبنبرغ تفاصيل هذا للوبي في عمله Israel and the American National Interest. لخص كالتالي:
«إن مقدور اللوبي الموالي لإسرائيل على تحديد وترتيب السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط أصبحت مهددة بالاختناق المقدّر. بغض النظر، من الآن فصاعدا، عن معرفة ما إذا كان مسؤولوا الولايات المتحدة المنتخَبين سيكتتبون إلى فكرة أن إسرائيل ستصبح ورقة استراتيجية رابحة في يد الولايات المتحدة أم لا. على العكس، المهم أن يكون اللوبي الموالي لإسرائيل قادرا على صون غلبة حدّة الذهن، والتي تعتبر تخيليا حقيقة سياسية تفلت من كل نقاش، مع تعرضها الجدي للخطر، إلا أنها تضمن مصالح الولايات المتحدة، فهل هي حقيقةً سياسات إسرائيلية، لا شيء يمكنه أن يثني عزم حكومة الولايات المتحدة لاستحضار مساندتها الكاملة لإسرائيل. إن فعالية هذا اللوبي للتأثير على مسار الانتخابات وقدرته على قولبة الرأي العام الجماهيري واصطناع الثقافة السياسية من العوامل الرئيسية في صياغة هذا الفهم» [34]
ويمكننا التقدم وكلنا ثقفة بأن هذا اللوبي، في مهمته هذه، ليس له حلفاء أكثر فعالية من ناعوم تشومسكي...
قدم لا تزال في جبل صهيون
رغم أنني علمت بالصدفة أن تشومسكي كان صهيونيا في صباه، ولكن هذا لم يبدُ لي كثير الأهمية، منذ أن بدأ يتراكم وصفه للظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون من قبل الإسرائيليين، والمفَصَّلة بقائمة في كتابه المثلث الخطر وفي أعماله الأخرى، عارضا لآلاف القراء الجدد والمناضلين الأقوياء هول ممارسات الصهيونية. وعلى العكس، الذي كان مستغربا هو السبب الذي دفعه لتغطية تحركات اللوبي الموالي لإسرائيل في الفترة نفسها.
وفي بحثي من أجل صياغة هذا المقال، أظن أنني وجدت الجواب على تساؤلي. عام ١٩٧٤، كتب تشومسكي كتيبا صغيرا، Peace in the Middle-East (السلام في الشرق الأوسط)، الذي يحتوي على كثير من الأجوبة على هذا اللغز. لكن الفقرة التالية تربط كل الأجوبة معا. كتب تشومسكي:
«... بعد عدة سنوات [على إنشاء دولة إسرائيل]، أمضيت عدة أشهر مملوءً بالسعادة لعملي في الكيبوتز، وفكرت لعدة سنوات العودة إليه والعيش هناك بشكل نهائي، بعض من أصدقائي المقرّبين، الذي مارس عدد منهم تأثيرا أكيدا على تفكيري الشخصي عبر السنين، يعيشون اليوم في الكيبوتزات، أو في مناطق أخرى من إسرائيل، حافظت على علاقات حميمة معهم لا يؤثر عليها السلوك أو الأحكام السياسية، وأنا أشير إلى كل ذلك لأعرض بشكل واضح أنني أنظر حتماً إلى هذا الصراع الدائم، من وجهة نظر ذاتية، مصبوغة بتلك العلاقات الشخصية. هل لهذه القصة الشخصية نزعة إلى تشويه رؤيتي. لهذه الغاية [أنا أُعلم] القارىء، [الذي] يجب أن يكون لديه فكرة.» [35]
مع أن (السلام في الشرق الأوسط) أعيدت طباعته في القسم الأول من (الشرق الأوسط، الوهم) واحد من بين العديد من كتبه العديدة عام ٢٠٠٣، فمن المجاز التساؤل عن عدد المعجبين الذين يعرفون هذا «الأمر الثانوي» عن ماضيه. نجد إشارة إلى الشباب الصهيوني لتشومسكي، في مقابلته السابقة الذكر مع سافوندي، وهذا على ما يبدو يبرر تصميمه على حماية إسرائيل (بلد يكن له علانية محبّة كبيرة)، ضد أية عقوبة، على الرغم من ابتزازاتهم. فيما يلي ما صرّح به تشومسكي أثناء مقابلته الصحفية الأخيرة:
«كنت متورطا في ذلك [=الصهيونية] منذ صغري، في سنوات ١٩٣٠. كنت أنتمي للحركة الصهيونية. في الحقيقة، كنت أترأس الشبيبة الصهيونية، ولكني كنت ضد فكرة دولة يهودية، التي تشكل جزءا من برنامج الحركة الصهيونية في ذلك الوقت. ولم تكن هذه الفكرة هي الأساسية في برنامج الحركة، ولكن كان هذا يعتبر جزءا لا يتجزأ من الكل... وهكذا، استطعت أن أكون زعيما مناضلا للشبيبة الصهاينة -وهذا الجزء هو الأهم من أي شيء، بالنسبة لي، أثناء مراهقتي- ولكنني بقيت معارضا لخلق دولة يهودية، حتى عام ١٩٤٨.» [36]
بقراءة (السلام في الشرق الأوسط) ولآخر كتاباته، يظهر بشكل واضح رؤى رواد الصهاينة، السذاجة والرومانتيكية، والتي كانت كذلك رؤية تشومسكي وعقيدته المخلصة التي تقاسمها مع زعماء اليشوف اليهود (مستعمرة يهودية) في فلسطين -فرغم الأدلة المناقضة والعديدة- كانوا بشكل صادق مهتمين باقتسام سلمي للأراضي مع العرب الفلسطينيين (الذين كانوا مع ذلك يصادرونها) وأنهم لم يختارو إنشاء دولة إلا عام ١٩٤٢، في الأمسية التي اندلع فيها الهولوكست النازي. وإليكم طريقته في تقييم هذا التبرير، في كتابه towards a New Col War [نحو حرب باردة جديدة]:
«من المهم أن نذكّر أنه خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، الزعماء الصهاينة (خاصة هؤلاء الذين كانوا على صلة بحزب العمال، المسيطرين في اليوشوف الفلسطيني) كانوا معارضين بحدة لفكرة دولة يهودية، «كان ذلك يعني في نهاية الأمر سيطرة يهودية على العرب، في فلسطين»، على أساس المبدأ الذي يقول «السيطرة لمجموعة قومية على أخرى» هي غير شرعية وبأن «عرب فلسطين» لهم الحق في أن لا يجدوا أنفسهم تحت رحمة اليهود.» [37]
يجب العودة إلى الهوامش في أسفل الصفحات، كي نجد أن الخطيب المذكور ما هو إلا داڤيد بن غوريون، الذي بقي شخصية رائعة في معبد تشومسكي. الذي لم يذكره هذا الأخير، هو حقيقة أنه عام ١٩٣١، في الحقبة التي كتب بن غوريون هذا التعليق، لم يكن عدد اليهود الذين يعيشون في فلسطين أكثر من ١٧٢٣٠٠ يهودي، أي ١٨٪ من عدد السكان، يقابلهم ٧٨٤٨٣١ عربي، وأن ما يملكونه من الأراضي كان فقط ١٢٠١٥٢٩ دونم، أي ٤.٦٪ من إجمالي مساحة البلد... [38]
بما أن هذه المجريات كانت معروفة، فإن ما قاله بن غوريون وزعماء آخرون صهاينة في تلك الحقبة لا يمكنها أن تفاجىء أحداً. في الحقيقة كانوا يفضلون، كما أنهم لم يتوقفوا عن فعله منذاك، «خلق حقائق مثالية على الأرض» في الفقرة المذكورة أعلاه التي استحضرها تشومسكي، كان يمكن للكلمة «علناً» [بمعنى: للرواق] أن تكون أكثر وضوحا من كلمة «حديّة» وهنا أيضاً رأي القائد الصهيوني الفقيد ناحوم غولدمان، الذي ذكره تشومسكي، مشككا «بصحّة شرحه، أعوام عديدة بعد هذه الوقائع، وبعد أن تأسست الدولة اليهودية، حقيقة.» غولدمان، الذي سينشىء لاحقا المؤتمر اليهودي العالمي، وجد نفسه حقاً في فلسطين، في الثلاثينيات، وشارك في المناقشات والمحادثات، في سيرته الذاتية، يلفت النظر إلى أن صمت الصهاينة المرصود في خلق دولة يهودية -والذي يعود للعشرينيات- لم يكن إلا صمتا تكتيكيا محضا، ولكن تشومسكي لا يصدق إلا الذي يودّ تصديقه، بالإضافة للذي يريدنا أن نعتقده... [39]
يجب طرح السؤال على هؤلاء الذين يساندون موقف تشومسكي، كنقيض لموقف غولدمان (ولأغلبية مراقبين ذلك الوقت)، لمعرفة ما إذا كان الصهاينة، الذين هم أغلبية ومراجعون، يبذلون كل هذه الطاقة، و ينفقون كل هذه الأموال، ويقومون بكل هذا الضغط السياسي منذ أعوام وأعوام، منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، لغاية واحدة «كي لا» ينشئوون دولة يهودية ؟!؟
تطرّقت أعلاه إلى انتقاد تشومسكي لموافقة مجلس أمن الأمم المتحدة على قرار ٢٤٢ في عام ١٩٦٧، والذي نبذه هو بسبب «رافضيته». بيد أن رأيه الشخصي في ذلك الوقت، يكشف بوضوح انسجامه ورعايته لإسرائيل، والتي تُبْلغنا عن أفكاره منذ ذلك الوقت، والتي لم تتغير حتى يومنا هذا.
في (السلام في الشرق الأوسط) كتب يقول :
«في فترة حرب الستة أيام، في حزيران ١٩٦٧، فكّرت شخصيا بأن تهديدَ الإبادة الجماعية كان حقيقيا، وتفاعلت عملياً بتضامني غير المشروط مع إسرائيل، فيما يمكنه أن يبدو كمجريات تاريخية ميؤوسة. عندما أسترجع الأمر، يبدو أن تطور الحقائق هذا في أفضل الأحوال كان مشكوكاً فيه.» [40]
كان ذلك تعبيرا صادقا من تشومسكي عن شغفه لإسرائيل واعترافاً استثنائياً منه بأحد أخطائه. كما كانت أيضاً، على ما يبدو الأخيرة ! وفي سياق هذا الكلام، تصريحات أخرى مشبوهة له، خصوصا في مقابلته الصحافيّة المشهورة في (أفريقيا الجنوبية)، تصبح مفهومة. إذ ذاك، طُلب منه تفسير الفرق بين إسرائيل قبل إنشاء الدولة وإسرائيل بعد إنشاء الدولة فأجاب:
«فترة ما بعد ١٩٦٧ مختلفة. مفهوم استعمار الشعوب ينطبق أكثر على فترة ما بعد ١٩٤٨. الموضوع بكل بساطة هو أن شعباً قدم من مكان آخر، جاء أساساً ليطرد الشعب الأصلي... فيما يخص ١٩٤٨، ودون الدخول في التفاصيل، هذه الحجة تم تجاوزها. كان [مذّاك] دولة، أكان ذلك عادلا أم لا. وتوجب على هذه الدولة التمتع بكل حقوق أية دولة في النظام العالمي. لا أكثر ولا أقل. بعد ١٩٦٧ [بالمقابل] تغير الوضع تماما. غزو عسكرى.» [41]
يبدو أن ما كان تشومسكي يودّ قوله للفلسطينيين هنا، أنه بعد ١٩٤٨ :
«يجب عليكم أن تعتادوا!»
هل هذا تفسير سيء ؟
لم يكن بالإمكان الدفاع عن العنصرية في أفريقيا الجنوبية، هو أيضاً، على أساس نفس المباديء ؟ وماذا يمكنها أن تكون حرب إسرائيل عام ١٩٤٨ غير اجتياح عسكري ؟ اقتطعت أثناءها ليس فقط المنطقة التي خصصتها الأمم المتحدة لها، بل أيضا الجزء الأكبر من الذي كان يجب أن يصبح الدولة الفلسطينية، لو أن الفلسطينيين قبلوا التقسيم.
وفي النهاية، كيف يمكن لمثالية تشومسكي، ببيت قومي لليهود في فلسطين، أن تتحقق إلا بفضل استعمار الشعوب ؟ هذه بضعة أسئلة فقط ضمن العديد من الأسئلة الأخرى التي يتوجب على تشومسكي الإجابة عليها.
استنتاج مؤقّت
عبر هذه الصفحات المعدودة، تَعَهّدتُ بالذي سيتوّج العمل، تقييم نقدي أكثر تفصيلا لأعمال تشومسكي هو الأمثل. والموضوع ليس موضوع تمرين أكاديمي محض، ولكن أداة تسمح بتفعيل تلك الحركة العريضة غير المؤثرة، فيما يخص المعركة للوصول إلى الإنصاف في إسرائيل/فلسطين، جنوداً منحوا أنفسهم لتشومسكي كي يرشدهم. أنا أعي حقيقة أن ما كتبته سيزعج هؤلاء اللذين أضفوا عليه تشريع الألوهية، كما أنه سيغيظ آخرين من الذين تركوا لصداقتهم له أن تدفعهم إلى الصمت على أغلاطه، عندما كانوا واعين بالأمر.
هذه هي غايتي
عوضا عن أجوبة تأخذ شكل تهجمات شخصية، أود أن نعرض الأسئلة الواردة أعلاه للنقاش.
وليبدأ النقاش.
ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: نائلة
جميع الحقوق محفوظة
2007 ©
[1] Ha’aretz, Sept 7, 2004.
[2] The New Intifada, p.7.
[3] Lettre à l’auteur, 10 août 1991.
[4] Univ. of California, Berkeley, March 16, 1991.
[5] Benjamin Ginsberg, Fatal Embrace : Jews and the State, Univ. of Chicago, 1993, p. 208.
[6] Déjà cité dans Jeffrey Blankfort, A War for Israel, Left Curve, Oakland, 2004.
[7] Shahak, op. cit..
[8] The New Intifada, p. 260.
[9] Ibid., p.262.
[10] Information Clearing House, Aug. 30, 2004.
[11] Tillman, « United States Middle East Policy : Theory and Practice », Arab-American Affairs, Spring, 1983, cited by Rubenberg, p. 8.
[12] Towards a New Cold War, p. 294.
[13] Tillman, op. cit., p. 66.
[14] Ibid., p. 67.
[15] Stephen L. Spiegel, The Other Arab-Israeli Conflict, Univ. of Chicago, Chicago and London, 1985, p. 296.
[16] Marvin C. Feuerwerger, Congress and Israel : Foreign Aid Decision-Making in the House of Representatives, 1969-1976, p. 296..
[17] The New Intifada, p. 12.
[18] Moshe Arens, Broken Covenant, Simon & Schuster, NY, 1995.
[19] Ibid., p. 56.
[20] Ibid., p. 58.
[21] Ibid., p. 59.
[22] May 22, 1990, ibid., cited by Arens p.. 69.
[23] Ibid., p. 72.
[24] Ibid., p. 246.
[25] Washington Jewish Week, Sep. 19, 1991.
[26] Arens, op. cit., p. 246-247.
[27] Ginsberg, op. cit., p. 220.
[28] Z Magazine, Dec., 199.
[29] New York Times, Sep. 20, 1991, cited by Ginsberg, op. cit, p. 221.
[30] Arens, op.cit., p. 301-302.
[31] The Progressive, January 21, 1993.
[32] The Independent, June 26, 2002.
[33] Washington Post, Oct. 16, 2004.
[34] Rubenberg, op. cit., p. 375.
[35] Peace in the Middle East, p.51.
[36] Safundi, Znet, op. cit..
[37] Towards a New Cold War, p. 259.
[38] John Chapple, Jewish Land Settlement in Palestine (non publié) 1964, cité par Walid Khalidi, From Haven to Conquest, Institute of Palestine Studies, Beirut, 1971, Appendix 1.
[39] Towards a New Cold War, p. 259.
[40] Peace in the Middle East, p. 124.
[41] Safundi, Znet, op. cit.