حلت الذكرى الرابعة لاحتلال العراق في وقت تتعالى فيه الأصوات يوما بعد يوم منددة بشناعة ما يجري في بلاد الرافدين, ومطالبة برحيل الأمريكان وحلفائهم. الذكرى كانت مناسبة لعدد من المثقفين العرب للتعبير عما يخالجهم من حزن وتدمر حيال الوضع القائم هاهناك. وهو السياق الذي يندرج فيه المقال التالي للصحافي والكاتب العربي عبد الباري عطوان. هذا الأخير يجرد معنا حصيلة الهجوم الامريكي الغاشم على العراق لينتهي إلى أن الأرقام والواقع الحاضر يؤكدان لامحال أن الإنتصار ليس أمريكيا, بل هو حليف المقاومة العراقية الباسلة.
قبل اربع سنوات، وبعد استيلاء القوات الامريكية علي العاصمة العراقية بغداد، اعلن الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش بكل فخر ان الحرب انتهت وان مرحلة الأمن والاستقرار والرخاء في العراق قد بدأت.
في اليوم نفسه، كان الرئيس العراقي الراحل وسط انصاره، محمولاً علي الاعناق، ومؤكداً ان الحرب الحقيقية ستبدأ الآن لمواجهة الاحتلال، بعدها اختفي عن الانظار ليقود المقاومة، ويعيد تنظيم صفوف المتطوعين بطريقة بدأت تعطي ثمارها بشكل لم يتوقعه الرئيس جورج بوش ولا حليفه توني بلير، وكل الزعماء العرب الذين تواطأوا مع العدوان، وفتحوا ارض بلادهم وقواعدها لانطلاق قواته نحو بغداد.
وقفنا في هذه الصحيفة، ومنذ وصول اول جندي امريكي الي ارض الجزيرة العربية صيف عام 1990، وبعد اجتياح القوات العراقية للكويت، في خندق الأمة العربية، وبالأحري في الخندق المقابل للخندق الامريكي، لأن بوصلتنا كانت دائماً تؤشر الي ما هو عكس السياسات الامريكية في المنطقة التي كانت تصب دائماً في مصلحة العدوان الاسرائيلي.
توقعنا المقاومة، وتوقعنا هزيمة مشروع الاحتلال الامريكي، ليس لأننا نضرب في الرمل ونقرأ الطالع، وانما لادراكنا ان جميع الاحتلالات في التاريخ منيت بالهزائم المذلة في نهاية المطاف، ولم يسجل التاريخ مطلقاً هزيمة المقاومة ورجالاتها الذين يريدون تحرير بلادهم وطرد قوات الاحتلال.
كنا، وما زلنا، علي ثقة مطلقة، بأن الشعب العراقي، والشرفاء منه علي وجه التحديد، وهم الاغلبية، ويمثلون مختلف الطوائف والاعراق والاديان، سيتصدي للاحتلال، ويقاوم مشاريعه، والذين اتوا علي ظهر دباباته، لانه شعب اصيل يمثل سبعة آلاف سنة من الحضارة والتصدي للغزاة، من مختلف الاتجاهات.
لم نفاجأ عندما جاءتنا الرسالة الاولي (واحدة من خمس رسائل) علي جهاز الفاكس بتاريخ 28/4/2003، وبخط يد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مخاطباً الشعب العراقي والأمة العربية عبر هذا المنبر، مبتدئها بالبسملة وآية قرآنية تقول ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار، وكان عهد الله مسؤولا ومبشراً فيها الشعب العراقي العظيم وابناء الأمة العربية والاسلامية، والشرفاء في كل مكان بأنه مثلما دخل هولاكو بغداد دخلها المجرم بوش بعلقمي بل واكثر من علقمي مطالباً شعبه انتفضوا ضد المحتل، ولا تثقوا بمن يتحدث عن السنة والشيعة، فالقضية الوحيدة التي يعيشها عراقكم العظيم الآن هي الاحتلال ومؤكداً علي الوحدة اتحدوا يهرب منكم العدو ومن دخل معه من الخونة مختتماً رسالته بقوله سيأتي باذن الله يوم التحرير والانتصار لأنفسنا، والأمة، والاسلام. عاش العراق العظيم، وعاش شعبه، عاشت فلسطين حرة عربية من البر الي البحر.. والله اكبر .
نبوءة الرئيس العراقي في تصاعد المقاومة تحققت، ولكن تحذيره من الفتنة الطائفية لم يجد من يصغي اليه، خاصة من بعض ابناء العراق، فقد سقط الكثيرون في مصيدة الطائفية التي اعدها الاحتلال ومن جاءوا معه بعناية فائقة، وراح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين الابرياء امتلأت ثلاجات المستشفيات بجثثهم الطاهرة، وتحول العراق كله الي مقبرة جماعية.
المقاومة العراقية التي بدأت منذ اليوم الاول للاحتلال لم تكن عفوية، وان كانت بعض جوانبها كذلك، بل كان مخططاً لها بشكل جيد، من خلال قيادات سرية ومخازن اسلحة جري بناؤها قبل اشهر، وعناصر مدربة تدريبا متقدما علي حرب العصابات.
نبوءة الرئيس بوش بانتهاء الحرب لم تتحقق، فما زال يرسل المزيد من القوات الي العراق، ويستجدي الكونغرس لاعتماد المزيد من الاموال، أما عراق الرخاء والاستقرار الذي وعد بانشائه فأصبح مرتعاً للسيارات المفخخة، وفرق الموت، والميليشيات الطائفية واللصوص وعصابات الاجرام.
حكام العراق الجديد يعيشون في منطقة لا تزيد مساحتها عن ميلين مربعين، وسط حراسات مشددة، لا يستطيعون مغادرتها، وان غادرها بعضهم فإلي المنافي الآمنة في الغرب، حيث ما زالت تعيش اسرهم وسط بحبوحة من العيش، ينعمون بالمليارات المسروقة من قوت الشعب العراقي.
مئة وستون الف جندي امريكي مجهزون بأحدث العتاد، ومدربون في احدث المدارس والكليات العسكرية، علاوة علي خمسة وعشرين الف جندي من القوات المتعددة الجنسية، ومئتي ألف جندي عراقي موزعين بين قوات أمن وحرس وطني، ومثل هذا العدد من الميليشيات العربية والكردية، وفوق هذا وذاك عشرة آلاف جندي بريطاني، ومع ذلك عجزوا عن تأمين طريق مطار بغداد ناهيك عن باقي احياء العاصمة.
العراق اليوم، وفي الذكري الرابعة لسقوط عاصمته في ايدي القوات الامريكية الغازية، يعيش ظروفاً غير مسبوقة في السوء، فلا ماء ولا كهرباء ولا أمن ولا مدارس او جامعات، ولا مستشفيات، الشيء الوحيد المتوفر هو المقابر وثلاجات حفظ جثث الموتي.
عراق اليوم هو جمهورية الخوف الحقيقية يهرب منها العراقيون بمئات الآلاف شهرياً، ويعيش اسوأ انواع التعذيب والقتل، جثث في الشوارع مثقوبة جماجمها بالمثقاب الكهربائي، وممثل فيها بطرق يعف القلم عن وصفها.
كنعان مكية، مؤلف جمهورية الخوف وابرز مفكري الاحتلال والمحرضين علي غزو العراق وتغيير نظامه، امتلك الشجاعة الكافية لكي يعتذر للشعب العراقي، وينأي بنفسه عما يحدث في بلاده من قتل وتعذيب وتخريب، ويعترف بأنه انخرط في البكاء عندما شاهد الرئيس العراقي صدام حسين يذهب الي حبل المشنقة.
الاعتذار مفيد، ولكنه متأخر جداً، وغير ذي معني، فقد بلغ الخراب درجة يستعصي فيها الاصلاح، او ربما يحتاج الي عقود عديدة، وقيادة جديدة صلبة، وربما شعب جديد.
الرئيس صدام حسين ذهب الي حبل المشنقة مرفوع الرأس، شامخ القامة، ممثلاً كبرياء العراق وعزته وكرامته الوطنية، فالرجل لم يخن، ولم يتعاون مع احتلال، ولم يفرط بالثوابت الوطنية، وترك خلفه اجيالاً من الرجال الذين يقاتلون من اجل تحرير ارضهم.
بحسابات الربح والخسارة، يمكن ان نقول بأن الرئيس العراقي انتقل الي جوار ربه وقد مهد الطريق الي النصر، وجرّع اعداءه مرارة الهزيمة الكأس تلو الاخري، ولذلك استشهد وهو مرتاح الضمير، علي عكس خلفائه الذين تعاونوا مع الاحتلال واوصلوا شعبهم الي ما وصل اليه من خراب ودمار.
العراق المقاوم كلف الادارة الامريكية 500 مليار دولار حتي الآن، وثلاثة آلاف قتيل، وخمسة وعشرين الف جريح، واذلالا عسكريا وسياسيا غير مسبوق، وهي خسائر لم يلحقها بأمريكا الاتحاد السوفييتي في ذروة قوته وعظمته وثلاثون الف رأس نووية في حوزته.
سمينا الاشياء باسمائها، وقلنا انه احتلال، واكدنا انها مقاومة، فعانينا الكثير وما زلنا من اتهامات ابواق الاحتلال، والسائرين في ركبه، وها هو العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز يقولها صراحة، وعبر منبر القمة العربية، بأن العراق يعيش احتلالاً غير شرعي، فهل يا تري قبض العاهل السعودي من صدام، وهل حصل علي كوبونات نفط؟