سورية هي بوابة الحل..
وسورية هي بوابة المشكلة..
من سيقوم باغلاق الباب الذي تأتي منه الريح ويستريح ويريح؟
عشنا زمنا نردد مقولة ان لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سورية. وكان ان ذهبت مصر الى السلام منفردة، ولم تذهب الى الحرب، وتبعها الفلسطينيون ثم الاردنيون، وبقيت سورية في حالة اللاحرب واللاسلم.
دمشق كانت قبلة الساسة والعسكر في لبنان بمن فيهم الاخوة الاعداء الحاليين. طريق دمشق بيروت كانت سالكة دائما حتى في احلك الظروف والاوقات. وكانت ممرا للذاهبين والقادمين في رحلة الشتاء والصيف بحثا عن دفء سورية، او هربا من لهيبها.
ثم ان سورية اصبحت بوابة الحل في فلسطين والعراق، كيف؟ اسألوا العسكر والساسة في الادارة الامريكية! دمشق المحاصرة سياسيا تفتح ابواب القصر الاموي لرئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بوليسي التي جاءت في مهمة رغما عن انف رئيسها جورج بوش. هل حقا انها، وهي الشخصية الثالثة في الهرمية القيادية الاميركية، جاءت دون رغبة من الرئيس بوش، ام انه كان الحاضر الغائب، وانها تحدثت باسمه في الصالات المغلقة؟
كانت دمشق، مثل خبز الشعير، مذموما ومحمودا، او هي مثل ليلة موحلة بالبرودة في ليلة كانونية. تتمنى قليلا من ضوء الشمس للهروب من وخزها. او مثل شمس حارقة في الصيف تجلدك بخيوطها الملتهبة. تتمنى بعضا من مطر او ثلج لتطفىء نارها المتوقدة في مسامات جلدك.وفي الحالين تفتقدها وتعافها.
هي الجغرافية اذاً التي جعلت دمشق بوابة الحرب والسلم، من دمشق انطلقت الحرب الاهلية الاولى بين العرب، بين عسكر الامام علي ابن ابي طالب وعسكر بني امية بقيادة معاوية ابن ابي سفيان، ثم انها استمرت وتواصلت عبر مئات السنين. هل ما يحدث الان في العراق من صراع طائفي، وفي مناطق اخرى من صراع سياسي، هو الجمر الذي كان غافيا تحت رماد الخديعة؟
دمشق المناكفة والمشاكسة، القريبة والبعيدة. هل لبنان اسير ارادتها ورغباتها، ام انها هي المكبلة بخيوط لبنانية لا انفكاك منها؟ من يدفع فاتورة الصراع بين المعارضة والموالاة، وعن أي لبنان نتحدث هنا، لبنان ساحة الشهداء والاقلية، ام لبنان قصر بعبدا، ام لبنان الاكثرية النيابية والمقر الحكومي؟
وبعدما خال اللبنانيون مع مرور السنين ان الحرب الاهلية دفنت الى غير رجعة، اخذوا يتحدثون بشكل متزايد الآن عن "عرقنة" الازمة اللبنانية. وقبل الاحتلال الاميركي للعراق كانت تستخدم كلمة "لبننة" للاشارة الى تمزق أي دولة ونسيجها الاجتماعي ودخولها في مواجهة بين الطوائف وصولا الى حرب اهلية. العراق خرج من حالة "اللبننة" الى حالة الفوضى والاتكاء على النص والفتوى، ولبنان خرج من" لبننيته" ليدخل في "العرقنة"! لا نتمنى ذلك ابدا.
بعد انتهاء النزاع الذي شهد تدخلات عسكرية سورية واسرائيلية وفلسطينية ومواجهات دامية بين ميليشيات محلية، وتقلبات في التحالفات، استعاد اللبنانيون طريق السلم الاهلي وكان ثمة امل بان يعود لبنان "سويسرا الشرق الاوسط".
السياسيون لعبوا بلبنان ابان الحرب الاهلية، وحكموا ضمن كنتوناتهم الطائفية، واقتسمت الطوائف والمذاهب الجغرافيا والبشر. بيروت الشرقية للمسيحيين والغربية للمسلمين.
كانت حربا. وكان الجنرالات في الجيش الرسمي والشرعي يقومون بدور الشرطي والمراقب ورجل الاطفاء والاحصاء، من الذي خرق وقف اطلاق النار وكم قتيلا سقط في مواجهات اليوم؟
العائلات والساسة تسيدوا ساحة المعركة، آل الجميل وال شمعون والبطريركية وآل المر في الشرقية. وخلطة عجيبة من السنة والفلسطينيين والقوميين في الغربية، وحركة امل، قبل ان يأتي حزب الله، كانت الواجهة العسكرية والسياسية للشيعة في الضاحية الجنوبية. وفي الجبل تربع وليد جنبلاط على هرم الطائفة الدرزية. واكتفت عائلات السنة التقليدية بالحكومة، وتبادل ال كرامي وال الحص وال الوزان المنصب.
في الحرب حكم الساسة وفي السلم حاول الجنرالات استعادة ما اخذ منهم بالقوة. هل نتذكر العماد ميشيل عون وسعيه للسلطة ثم خروجه من لبنان الى المنفى الاختياري في باريس! ثم عودته الى بيروت ليدخل في المعسكر السوري.
ساسة الحرب الاهلية وقادة الميليشيا، وحين هدأت المعارك، دخلوا البرلمان من اوسع ابوابه، واتفق الجميع في الطائف على المصالحة الوطنية. ثم انهم دخلوا الحكومات واستلموا المناصب الوزارية والدبلوماسية. غسيل سياسي على درجة عالية من النظافة لجيل من القادة ولد وكبر أمام فوهات البنادق.
الطائف لملمت شتات اللبنانيين، فجاء الجميع دون استثناء الى السعودية واتفقوا على اغلاق ملف الاقتتال، لكن العماد ميشيل عون قائد الجيش لم يرض بما اعلن في الطائف. فأعلن عن حكومة انتقالية في بيروت الشرقية بدعم من الرئيس السابق امين الجميل.
العماد اميل لحود لم يرق له حال رفيق السلاح فانتقل الى الغربية، ولانهاء تمرد عون عين لحود قائداً للجيش فدعا الضباط والجنود الى الالتحاق بالقيادة الشرعية للجيش وعدم الخوض في السياسة، واذاب الطائفية والفئوية مقدماً الجندية.
قرأ لحود السياسة وعرف من دروس الجغرافيا ان اقرب طريق الى بيروت هي طريق دمشق، بذلك اندمج في الوان الطيف اللبناني الدمشقي. رغم انه لم يتردد على سوريا اثناء قيادته للجيش طيلة تسع سنوات سوى مرتين في زيارتين رسميتين. على غير عادة السياسيين اللبنانيين الذين امضوا سنواتهم الاخيرة على طريق دمشق بيروت.
اصطدم لحود بعد انتهاء فترة ولايته بالدستور الذي لا يسمح له بالتمديد او التجديد، فطلب تعديل المادة 49 من الدستور. انظروا الى خبث الصحفيين، جمعوا الرقمين فكان الرقم (13) وهو رقم شؤم في الثقافة المسيحية لانه رقم التلميذ الثالث عشر الذي سلم المسيح لاعدائه، وانعقد المجلس ووافق 96 نائباً على التعديل ورفض 29، واصبح لحود رئيساً للبنان من جديد بشرعية تعديل الدستور.
اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري واضطرار سورية الى سحب قواتها من لبنان. قلب شروط اللعبة اللبنانية، او كما يقولون قلب الوضع رأسا على عقب. وبات المأزق سوداويا بين معسكر قريب من الغرب والدول العربية الكبرى وعلى رأسها السعودية، ومعسكر قريب من المحور السوري الايراني.
واستعصى الفتق على الرتق بعد صمود حزب الله في المواجهة مع جيش الاحتلال الاسرائيلي، وبات النصر العسكري على العدو، بحاجة الى نصر سياسي على الاخوة الاعداء.
انقلب المشهد السياسي. اصبح جماعة سورية ولحود والمعارضة اقلية. وجماعة الحكومة والحريري اكثرية، وعطلت الاقلية عمل الاكثرية . اعداء لسورية سابقا اصبحوا حلفاء لها. واصدقاء موالون لدمشق نقلوا البندقية الى الكتف الاخرى.
الصراع لم يكن ابدا طائفيا، ففي كلا المعسكرين ديانات وطوائف مختلفة. من يريد "عرقنة" لبنان وعرقلة الحل؟ "الفوضى الخلاقة" اصبحت فوضى خانقة.