من أهم الجوانب المجهولة في حرب يونيو 1967 ذلك الدور الذي قام به الملك حسين لحماية عرشه في وجه العواصف القادمة، ومن أهم الكتب التي صدرت حديثاً وألقت الضوء على دور الملك حسين أثناء حرب يونيو 1967 ذلك الكتاب الذي صدر حديثاً عن دار نشر بالانتاين بوكس الإنجليزية تحت عنوان 6 أيام من الحرب: يونيو 1967 وتشكيل الشرق الأوسط الحديث. ومؤلف الكتاب هو مايكل أوبراين وهو باحث إنجليزي متخصص في دراسات الشرق الأوسط، وحاصل على الدكتوراه من جامعة برنستون، ومن كتبه الأخرى جذور الحرب العربية الإسرائيلية الثانية، ورغم أن المؤلف يعبر عن انحيازه الصريح للمواقف الإسرائيلية فإنه يأتي بالعديد من الأسرار التي يتم الكشف عنها لأول مرة، ومن هذه الأسرار دور الملك حسين والوضع الذي وجد نفسه فيه بينما عواصف حرب يونيو على وشك أن تهب على الجميع.
في الفصل الرابع المعنون العد التنازلي الذي يحكي قصة الأيام الخمسة قبل الحرب أو الأيام من 31 مايو إلى 4 يونيو يتحدث المؤلف عن أوضاع الملك حسين والمأزق الذي وجد نفسه فيه، يقول أوبراين: عندما بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق وجد الملك حسين نفسه في موقف لا يحسد عليه، وجد الملك حسين نفسه محاصراً بالعرب الثوريين من كل جانب بينما العرب المعتدلون في السعودية والخليج كانوا منصرفين عنه، أما الولايات المتحدة التي طالما التزمت بالحفاظ على عرشه من السقوط فقد وجد رئيسها ليندون جونسون منحازا تماماً لإسرائيل ومستعدا لفعل كل ما هو ممكن وغير ممكن للخلاص من عبد الناصر، هكذا وجد الملك حسين نفسه في أزمة حقيقية، فهو الوحيد الذي يقف على أرض هشة بينما كل الدول المجاورة حوله يساندها حلفاء أقوياء، فإذا استمر الحال بالملك حسين على هذا الوضع فإن الحرب قد تكلفه انهيار مملكته وعرشه وربما حياته هو نفسه.
ويقول أوبراين:إنه منذ أن سطع نجم عبد الناصر وتتويجه بطلا للقومية العربية والملك حسين يشعر بالخطر خصوصاً أن أكثر من نصف مملكته من الفلسطينيين المؤيدين لعبد الناصر واتجاهاته القومية العربية، منذ أن أدرك الملك حسين خطورة عبد الناصر عليه وعلى عرشه قرر فتح قناة مخابرات سرية مع إسرائيل يتم من خلالها تبادل المعلومات مع تل أبيب سواء فيما يخص نفوذ عبد الناصر أو حول الفلسطينيين الفدائيين ووصفهم الكتاب بالإرهابيين.
عندما جاءت الأخبار بأن هناك حشوداً إسرائيلية على الحدود مع سوريا لم يصدق الملك حسين نفسه لأن الأردن كان يمتلك محطة رادار قوية في عجلون وهذه لم تلتقط أي إشارات بوجود حشود إسرائيلية على حدود سوريا، وعندما أخبر الملك حسين الإسرائيليين بمعلوماته عن الحشود طلب منه ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يصمت بل إنه طلب منه أيضاً أن تكف الأردن عن انتقاد عبد الناصر وأن تنضم للدول العربية التي تصفه بأنه بطل العرب الأوحد، وأطاع الملك حسين الأمر في الحال.
كان الملك حسين يرى الأمور وهي تخرج عن نطاق السيطرة ويحاول مراجعة جميع الخيارات وتحديد خطرها على مملكته، لو قام عبد الناصر بالضربة الأولى ثم نجحت إسرائيل في صدها فإن عبد الناصر قد يستخدم الأردن ككبش فداء مما سيجعل الفلسطينيين يثورون وقد ينضم لهم الجيش الأردني أيضاً وعندها تنهار المملكة أو يتم استبدال الحكم الملكي بحكومة جمهورية يرأسها أحد زعماء منظمة التحرير.
من ناحية أخرى، رأى الملك حسين أنه لو قامت مصر بالهجوم ونجح هذا الهجوم، فعند ذلك قد تقوم القوات المصرية باقتحام صحراء النقب وقد يصل بها التيه إلى الانطلاق نحو عمان وإسقاط نظام حكمه، هكذا رأى الملك حسين أن أغلب البدائل سوف توقع الأردن في ورطة وأزمة حادة، إذا لم يشارك الأردن في الحرب فأن اللوم سيقع عليه في حالة تعرض العرب للهزيمة أما إذا حقق العرب النصر فأن الأردن سيصبح معزولاً أي في كلتا الحالتين، الأردن خاسر خاسر، هكذا رأى الملك حسين نفسه ومملكته، ومن هنا بدأ الملك حسين يتحرك سريعاً قام بإرسال رسالة مطولة لواشنطن يطلب منها ضمانات بأن يتم المحافظة على سلامة أرض بلاده في حالة اندلاع الحرب، وفي نفس الوقت أعلن الملك حسين عن نيته الطلب من القاهرة إعادة إحياء بنود اتفاق الدفاع المشترك ضمن القيادة العربية الموحدة وكان حسين يريد أن يلعب على الطرفين حتى لا يغضب أي جانب وينجو الرجل بمملكته.
بالنسبة لواشنطن أعلنت التزامها في خطاب للملك حسين بضمان أمن الأردن واستقلاله ولكنها رفضت أن تعلق هذا الالتزام على الملأ نظراً لاعتبارات من الكونجرس، أما القاهرة فقد قامت بإبلاغ عامر قماش رئيس أركان الجيش الأردني بأن ما يسمي القيادة العربية الموحدة قد انتهي ومات.
وإزاء هذا حسم الملك حسين موقفه، سوف يقف ويساند عبد الناصر في العلن بينما سيقوم في السر بمواصلة اتصالاته المخابراتية مع إسرائيل خوفاً من انتقامها، وهكذا قام الملك حسين في يوم 31 مايو بعمل استعراض عسكري في شوارع عمان وهو يرتدي ملابس عسكرية، كان الغرض هو القيام باستعراض قوة بينما كان يعرف في قرارة نفسه أنه لن يستخدم هذه القوة أبداً، وقد حدث في يوم الاستعراض أن قرر عبد الناصر إغلاق مضيق تيران، وعندما علم الملك حسين بهذا القرار ازداد غيظاً من عبد الناصر لأن الرجل حرمه حتى متعة الانتشاء بالعرض العسكري حتى ولو كان عرضاً مزيفاً، هكذا تعود عبد الناصر أن يخطف الأنظار من الملك حسين دائماً، وفي الحال قام الملك حسين بإرسال برقياته لإسرائيل وللدبلوماسيين الأجانب في الأردن: هذا القرار قرار مجنون سيؤدي لكوارث لأني أعرف أن العرب ليسوا مستعدين لخوض الحرب وقال الملك حسين في برقياته: إن عبد الناصر رجل مجنون لا يقدر العواقب ويعتمد على دعم وهمي من السوفيت، أما في العلن فقام الملك حسين بإصدار أوامره للمتحدث باسمه بأن يمتدح قرار عبد الناصر وأن يعلن عن استعداد الأردن لتقديم الدعم الكامل له، وفي نفس الوقت أيضاً التقي الملك حسين بيرنز السفير الأمريكي في عمان وطلب منه ضرورة أن يحث الرئيس جونسون إسرائيل على مهاجمة تيران ولكن واشنطن لم تستمع له.
كان حسين يشعر بتجاهل واشنطن له وانحيازها أكثر من اللازم لإسرائيل، أما إسرائيل فرغم معلومات التجسس التي تأخذه منها قد تجتاح مملكته في أي لحظة لو أحست بأنه يخدعها، هنا أدرك الملك حسين أنه يجب أن يلجأ لعبد الناصر في النهاية ويقنعه بإخلاص الأردن لقضية الحرب بينما هو يضمر شيئاً آخر في الخفاء، وبسرعة قرر الملك حسين اتخاذ عدد من الخطوات التي يمكن أن تنال رضاء عبد الناصر، أولا قام بعزل وصفي التل رئيس الديوان الملكي ثم قام بتحريك بعض قواته لعبور نهر الأردن والوصول إلى اريحا وثالثا قام بإرسال رئيس الأركان قماش للقاهرة للاجتماع مع عبد الحكيم عامر بينما رفض عبد الناصر استقباله، وبعد القيام بهذه الخطوات قام الملك حسين بالاتصال بالأمريكان من خلال السفير بيرنز وأخبرهم أن هذه الخطوات هدفها فقط اتقاء شر عبد الناصر ولكنه لا ينوي القيام بأية أعمال عدوانية ضد إسرائيل وطلب منهم أن يبلغوا الإسرائيليين بذلك.
في هذه الأثناء قام الملك حسين بدعوة عثمان نوري سفير مصر في الأردن يوم 28 مايو، كانت الدعوة أصلاً لمقابلة رئيس وزراء الأردن سعد جمعة في منزله الخاص وعندما وصل السفير المصري هناك أصيب بالذهول لأن الملك حسين نفسه هو الذي كان في استقباله، وقام الملك بإخبار السفير بأنه يريد القيام بزيارة سرية لمصر خلال ال48 ساعة المقبلة، كان الحسين يريد كسب اطمئنان عبد الناصر تماماً بينما يخبر الأمريكان والإسرائيليين بكل ما يفعله حتى لا يشكوا في نواياه.
وبسرعة قام السفير المصري في الحال بالاتصال بالقاهرة وعاد بالإجابة بعد منتصف الليل، كانت للقاهرة اشتراطات لإتمام الزيارة، أن يعد الملك حسين بمقاومة أي محاولة إسرائيلية للهجوم على سوريا عبر الأراضي الأردنية وأن يسمح للقوات العراقية بدخول الضفة الغربية عبر الأردن وان يعترف الأردن بأحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وان يعترف بالمنظمة وهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وأن ينضم للمقاطعة العربية لألمانيا الغربية، فإذا استجاب الملك حسين لكل هذه الشروط فإن القاهرة ترحب به، ورغم صعوبة هذه الاشتراطات على الملك حسين إلا أنه قبلها جميعها، ومن ثم رحبت القاهرة به وسافر في فجر اليوم التالي في 30 مايو، وقام الملك حسين بقيادة طائرته كارافيل الخاصة إلى مطار ألماظة العسكري قرب القاهرة وهناك استقبله وزير الخارجية محمود رياض ورئيس الأركان للقوات العربية الموحدة عبد المنعم رياض وأمين عام مكتب الرئيس عبد المجيد فريد، أما من كان يقف على رأس كل هؤلاء فكان عبد الناصر نفسه، تقدم عبد الناصر وأخذ بيد الملك حسين قائلاً له ما لم يتصوره عقل طالما أن هذه الزيارة سرية ماذا يمكن أن يحدث لو اعتقلناك الآن؟ وسرت رعشة مخيفة في جسد الملك حسين متسائلا بينه وبين نفسه هل يعرف عبد الناصر بعلاقاته السرية مع الإسرائيليين؟!
تمالك الملك حسين نفسه وابتسم خفيفا قائلا سيدي الرئيس لم يخطر ببالي قط أن يحدث مثل هذا الأمر، ثم تقدم الموكب نحو قصر القبة وانضم لهم هناك المشير عبد الحكيم عامر، ثم قرر عبد الناصر والملك حسين والمشير عامر عقد اجتماع اقتصر على أهم الثلاثة في حجرة منفصلة وامتد الاجتماع لفترة أطول من المتوقع، قام الملك حسين بوضع اللوم في تدهور العلاقات المصرية الأردنية في الفترة السابقة على سوريا لكنه قال إنه مستعد للدفاع عن السوريين كجزء من جهد عربي شامل يهدف لحماية الأردن أيضا وكان رد عبد الناصر يجب أن نتوحد الآن أمام أزمة نواجهها نحن العرب جميعا، لقد كان تقديري الأول أننا لن ندخل الحرب قبل 3 أو 4 سنوات لكن الأحداث داهمتنا، ثم قال الملك حسين لعبد الناصر إنه يريد توقيع معاهدة دفاع مشترك مع مصر مثل اتفاق الدفاع الموقع بين مصر وسوريا وأنه يمكن بموجب هذه المعاهدة السماح بقوات عربية من العراق والسعودية وسوريا وحتى مصر لدخول الأراضي الأردنية.
ويواصل مايكل أوبراين كشف الدور الخفي للملك حسين فيقول: نجحت إسرائيل في التلاعب بالملك حسين فقد حصلت منه على معلومات سرية مخابراتية وبنتائج اتصالاته مع عبد الناصر لكنها خدعته في النهاية وقامت باجتياح الضفة الغربية ورغم مناشدات الأمريكان لها، كان الملك حسين يستغيث بالأمريكان مما فعلته إسرائيل به، وكان رد الإسرائيليين على الأمريكان أنهم بعد اكتمال جميع انتصاراتهم على الجبهة الشرقية والأردن وسوريا سوف يقومون بحوار مع الملك حسين لإعادة أرضه، بشرط أن يقوم بطرد رياض وكل الضباط المصريين في الأردن، اقترح ديان دعوة الملك حسين لاجتماع سري ولن تتعهد فيه إسرائيل بأي شيء وكان الإسرائيليون يعرفون أن الملك حسين لن يستجيب. بعد ظهر اليوم الثالث 7 يونيو كان الملك لا يصدق ما حدث له، كان قد فقد نصف مملكته وتحطم جيشه وأصبح الحسين على أتم استعداد لقبول أي شيء وأولها طرد المصريين من الأردن وإنقاذ مملكته.
ويعود المؤلف ليكتب من جديد عن الأوضاع التي وجد الملك حسين نفسه فيها ويقول: لقد لعب الملك حسين منذ بداية الأزمة على كل الحبال، اتصل سراً بالإسرائيليين وكان تدفق المعلومات المخابراتية معهم لا يتوقف وفي الوقت نفسه طمأن عبد الناصر وخدعه بالتحالف معه وكان أمله أن يخرج سالما بمملكته في النهاية، لقد ضاعت منه الضفة الغربية بكل ما فيها من أماكن مقدسة لكن مملكته ظلت صامدة وسط العواصف الهوجاء لذلك وقف الملك حسين أمام شعبه بعد نهاية الحرب وقال يبدو إنني انتمي لعائلة كتب عليها المعاناة وتقديم تضحيات فإذا لم يكن الأردن قد خرج رابحا المجد من هذه الحرب فذلك ليس لأن الأردنيين لا يمتلكون الشجاعة، لكن لأن تلك كانت إرادة الله، لقد اقتنع الملك حسين بضياع الضفة الغربية واعتبرها ثمنا لبقاء مملكته وعرشه واعتبر ذلك إرادة الله لكنه لم يأبه لحجم الكوارث التي تسببت فيها ألاعيبه وخداعاته ومغامراته الخفية مع الإسرائيليين وأدت في النهاية لجزء من كارثة 67.