قرأنا في صحيفة الثورة بتاريخ 22/02/2007 نتائج أعمال لجنة القطاع العام الصناعي التي تم تكليفها من قبل السيد رئيس مجلس الوزراء لوضع الإطار التشريعي لإصلاح القطاع العام الصناعي، وتبين من نتائج أعمال اللجنة أن هناك إجماعاً بين أعضاء اللجنة على ضرورة إصلاح القطاع العام الصناعي (الذي بلغت خسائره في العام 2006 مبلغ 85 مليار ليرة سورية)، وإجماعاً على توسيع صلاحيات مجالس إدارة شركات ومؤسسات القطاع العام الصناعي. ولكن كان هناك اختلافاً جوهرياً بين أعضائها حول منهجية وآلية إصلاح هذا القطاع، مما جعل اللجنة تخلص إلى صيغتين لمشروع قانون إصلاح القطاع العام الصناعي، تاركين لصاحب القرار اعتماد البديل الذي يراه مناسباً.
ولدى قراءتي لأوجه الاختلاف أجد نفسي مع الصيغة الأكثر مرونة والتي تنادي بفصل القطاع العام الصناعي عن وزارة الصناعة وإلحاقه بهيئة تنفيذية تقام لتأهيل القطاع العام، وإخضاع منشآت القطاع العام لقانون التجارة وقانون العمل، وإغلاق الشركات الخاسرة منه فوراً. وأجد بنفس الوقت أن الصيغة الأخرى المتشددة التي تكرس ارتباط القطاع العام الصناعي بالهرم البيروقراطي للدولة وإخضاع عماله للقانون الأساسي للعاملين في الدولة، ومعالجة الشركات الخاسرة من خلال الدمج أو تغيير النشاط أو نقل تبعية الشركة إلى إحدى الجهات العامة الأخرى، ما هي إلا صيغة تشكل استمراراً للمحاولات السابقة غير المجدية لإصلاح القطاع العام الاقتصادي التي بدأت في العام 1994 بإحلال المرسوم التشريعي رقم 20 محل المرسوم التشريعي رقم 18 لعام 1974 ثم إحلال القانون رقم 2 لعام 2005 محل المرسوم رقم 20 لعام 1994، والتي لم تتضمن إلاّ إصلاحات تجميلية أدخلتنا في دوامات مفرغة على مدى ثلاثة عشر عاماً وأضاعت علينا فرصاً للإصلاح الجدي للقطاع العام ووقف نزيفه المستمر للمال العام، وخسارة عوائد كان يمكن أن تجنى من استثمار هذا القطاع استثماراً جيداً.
وبالمقابل فإن الصيغة المرنة المقترحة لإصلاح القطاع العام الصناعي (والتي يمكن وصفها بالإنجليزية "Corporatization") تحمل معها بعض الأمل، ويمكن أن تنجح في تقليص خسائر القطاع العام واستنزافه للمال العام إذا طبقت بطريقة سليمة. ولكنني مع ذلك غير متأكد من إمكانية قدرتها على جعل القطاع العام ديناميكياً وقادراً على النمو والازدهار وقادراً على إدخال سوريا في الأسواق التنافسية العالمية، وذلك للأسباب التالية:
1 - صعوبة فصل المنشآت الإنتاجية عن الهرم البيروقراطي في الدولة وإعطاء هذه المنشآت الاستقلالية التامة في قرارات الشراء والبيع والتوظيف بعيداً عن تدخلات الدولة والحزب، وصعوبة خلق ثقافة المنافسة لدى المديرين والمرؤوسين والتابعين خلال فترة قصيرة من الزمن وصعوبة وقف الفساد والهدر والصفقات الكبرى غير المشروعة في القطاع العام وصعوبة إقامة رقابة فعالة على إدارة هذا القطاع (على غرار رقابة الجمعيات العمومية في شركات القطاع الخاص).
2 - عدم توفر المال الكافي لدى الدولة لدعم القطاع العام الصناعي حتى يستطيع القيام بالاستثمارات الكبيرة اللازمة لإعادة الهيكلة التقنية (رفع المستوى التقني للآلات والمعدات وتكثيف استخدامه لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات) بالتلازم مع الهيكلة الإدارية المقترحة، وذلك بسبب تراجع الموارد المالية للدولة مع انحسار الحقبة النفطية، ومتطلبات الاستثمار في رأس المال البشري والإنفاق في مجالات الصحة والتعليم، فضلاً عن متطلبات تجديد البنية التحتية في البلاد، ومتطلبات الأمن القومي. كما أكد القانون المالي الجديد للدولة (الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2006) على إلزام مؤسسات القطاع العام بتمويل استثماراتها بنفسها من خلال فوائضها المالية المحققة، ومن خلال الاقتراض من السوق المالية أو طرح الأسهم للاكتتاب العام. ولا يخفي على أحد صعوبة نجاح القطاع العام بطرح أسهمه للاكتتاب العام بأمل إدخال شركاء معه من القطاع الخاص.

إن الهدف ليس مجرد إنقاذ القطاع العام ووقف خسائره ونزيفه للمال العام، فهذا هو الحد الأدنى، لكن الهدف الأكبر هو أولاً رفع أداء القطاع العام الصناعي وقدرته التسويقية والتنافسية وتحقيق عائد مرتفع على هذه الكتلة الكبيرة من الأصول الرأسمالية التي تم ضخها في الاقتصاد الوطني على مدى أربعين عاماً دون أن تحقق ريعية مقبولة، وثانياً ضرورة انتقال الصناعة السورية من الانغلاق إلى الاندماج في حلقات الإنتاج والتسويق العالمية، وهو هدف لابد أن تتبناه الصناعة السورية حتى تعيش في زمن العولمة. وهذه التحديات لا يمكن مواجهتها بقطاع عام مشكوك بقدرته على التنظيم الداخلي فضلاً عن قدرته على التعامل والتعاطي مع هذه المتغيرات العالمية.

وأرى، على الرغم من تحفظاتي هذه، أن يتم تبني البديل المرن المقترح من قبل مجموعة الأقلية في اللجنة المذكورة أعلاه لإصلاح القطاع العام الصناعي (ومنه إقامة الهيئة التنفيذية المقترحة لإصلاحه والسماح له بإجراء عقود الإدارة مع جهات في القطاع الخاص ودعوة جهات القطاع الخاص للاستثمار في بعض منشآته لفترات محددة)، وذلك على أمل احتواء الضرر وتخفيف الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن على أن يشكل القانون المقترح للإصلاح مرحلة انتقال استعداداً لخصخصة القطاع العام الصناعي في مرحلة لاحقة، وتحديداً خلال فترة الخطة الخمسية الحادية عشرة، وكذلك على أن نعد العدة خلال السنوات الأربع القادمة للتحضير للخصخصة. فأنا لا أعتقد أن أي إصلاح سيمكن القطاع العام من أن يصبح قطاعاً ديناميكياً قوياً، كما أني في الحقيقة لا أجد مبرراً للقطاع العام في العملية الإنتاجية على المدى البعيد. وأرى أن الشراكة بين القطاعين يجب أن تكون على أساس توزيع الأدوار، فالقطاع العام يتبنى دوراً اجتماعياً من خلال تركيزه على مجالات الصحة والتعليم وإقامة برامج وشبكات الحماية الاجتماعية (إضافة إلى الإنفاق على البنية التحتية ودوره التوجيهي للاقتصاد الوطني ورسم السياسات المالية والنقدية)، والقطاع الخاص يتولى ريادة العملية الإنتاجية. فقد أثبتت جميع تجارب دول العالم تفوق القطاع الخاص في العملية الإنتاجية وقدرته على تحقيق عائد أكبر للاستثمار في الاقتصاد الوطني، فضلاً عن أن قطاعنا العام محدود الموارد وعليه متطلبات اجتماعية كبيرة. فلماذا هذا الإصرار من قبل البعض على استمرار القطاع العام في العملية الإنتاجية؟ وإذا كان المبرر هو السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية فلنسرع بإصدار تشريعات تعزيز المنافسة ومنع الاحتكار، ولنعجل بإقامة شبكات الحماية الاجتماعية كالضمان الصحي وتعويض البطالة، وهي التشريعات والمؤسسات الموجودة في جميع أنظمة اقتصاد السوق الغربية (أنظمة "الرأسمالية المتوحشة" بالنسبة للبعض) منذ عشرات السنين، بدلاً من الإصرار على ملكية الدولة لعوامل الإنتاج.

أما إذا كان المبرر هو "ضمان الوظيفة" فضمان الوظيفة لا يؤدي إلا إلى الخمول والكسل وقتل روح المبادرة والإبداع لدى العامل وسعيه للارتقاء الوظيفي وتطوير الذات، وهي آخر ما يحتاجه اقتصادنا الوطني في زمن العولمة والثورة الرقمية والتنافسية العالمية. والأفضل أن نعطي الأمان للعامل من خلال برامج الضمان الصحي وتعويض البطالة (فضلاً عن توفير التعليم المجاني والصحة المجانية) بدلاً من ضمان الوظيفة. لا بل أعتقد أن ريادة القطاع الخاص للعملية الإنتاجية (مع برامج حماية اجتماعية) هو في مصلحة الطبقة العاملة، لأن القطاع الخاص الديناميكي يوسع الاستثمارات ويوفر فرص عمل ويمنح أجوراً أعلى. ولتنظر الطبقة العاملة إلى الرفاهية التي وصلت إليها الطبقات العاملة في أنظمة السوق الغربية، حيث تتمتع هذه الطبقات بشبكات الحماية الاجتماعية وتتملك أسهم الشركات، ولم تعد تحتاج إلى اللجوء للإضراب. هل يذكر أحد منا آخر إضراب تم هناك، على غرار ما كان يحصل في النصف الأول من القرن الماضي وما قبله؟ ثم هاهي ماليزيا تخصخص وفيتنام تخصخص والهند تخصخص والصين تخصخص، فضلاً عن عشرات الدول الأخرى التي خصخصت قبلها، سعياً وراء التوزيع الأكفأ للموارد وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني ورفع معدلات النمو وتوسيع فرص العمالة. فلماذا هذا الطهر العقائدي في سوريا وحدها؟ وهل هو الطهر العقائدي حقاً، أم أن بعضه هو المصالح المكتسبة، وبعضه الجهل بما آل إليه العالم من تغيير وبما يتوجب عمله للبقاء في هذا العالم الجديد؟ لقد كان القطاع العام الاقتصادي في سوريا رائداً حين كان النمو يعتمد على الكثافة الرأسمالية (في السبعينيات) وأصبح القطاع العام عبئاً حين أصبح النمو يعتمد على الكفاءة في توزيع الموارد، تماماً مثلما حصل في الاتحاد السوفييتي السابق، ولم يعد بإمكان اقتصادنا الوطني تحمل هذا العبء (الذي يتمثل بهدر موارد عامة كحد أدنى وبفوات عوائد على أصول استثمارية كبيرة كحد أقصى). ولئن تحملت الصين كلفة تأخير إصلاح/ خصخصة مؤسسات الدولة الإنتاجية (حتى النصف الثاني من التسعينيات) فذلك لأن الصين تتمتع بتدفقات استثمارية خارجية وصادرات سلعية هائلة عوضت عن كلفة التأخر بإصلاح وتخصيص مؤسساتها الإنتاجية (المتوسطة والصغيرة). أما نحن فلا نملك هذه الميزة.

ويذكرني إحجام الحكومة والحزب الخوض في موضوع الخصخصة اليوم برفضهما الخوض في موضوع (اقتصاد السوق) على مدى عشرين سنة أو أكثر، وقد كنت قد دعوت (ودعا غيري) إلى اقتصاد السوق في دراستي المقدمة إليهما في العام 1987 (الدراسة بعنوان: نحو اقتصاد اشتراكي متطور في القطر العربي السوري 7 تشرين الثاني 1987)، إلى أن تم اعتماد (اقتصاد السوق الاجتماعي) في منتصف عام 2005. كم كلفنا هذا التأخير بينما كان العالم من حولنا يتغير بسرعة. هل قدر سوريا أن تتأخر دائماً ثم تركض على أمل اللحاق بالآخرين؟ ولماذا؟ لعل على مجلس الشعب الجديد أن يسأل الحكومة هذا السؤال وغير هذا السؤال.

أعتقد أنه آن الأوان لاتخاذ القرار الجريء بالاستعداد للخصخصة المتدرجة والمنتقاة (والمبنية على أساس تقييم الوضع الإداري والمحاسبي الحقيقي والتقني لكل شركة على حدة)، وذلك بعد الإصلاح المقترح أعلاه، على أن يتم ذلك بشكل منهجي وبضوابط تبعدنا عن الفساد خلال عملية الخصخصة، (مثلما حصل في الاتحاد السوفييتي السابق وفي بلاد أخرى)، وتحمينا من سيطرة الرأسمال الأجنبي على اقتصادنا الوطني من خلالها، وعلى أن نستعد لهذه الخصخصة من خلال إقامة شبكات الحماية الاجتماعية اللازمة ومراكز التدريب والتأهيل وتشجيع إقامة المؤسسات الفردية الصغيرة والتعامل مع مشكلة العمالة الفائضة (انظر الدراسة التي أعددتها عام 2006 لمشروع التحديث المؤسساتي والقطاعي ISMF بعنوان "خيارات التعامل مع العمالة الفائضة في سوريا"). لا بل أعتقد أنه علينا ألا نباشر بالخصخصة قبل أن نضع هذه البرامج والتشريعات موضع التنفيذ.

أعتقد أن علينا حسم قضية العام والخاص والشراكة بينهما، حتى نستطيع التفرغ لوضع السياسات والاستراتيجيات لتطوير قطاع الصناعة والارتقاء به إلى المستويات العالمية، وكذلك التفرغ لتطوير القطاع الخاص ورفع مستوى مؤسساته، حتى يستطيع ريادة الصناعة والقيام بالاستثمارات الكبيرة اللازمة لرفع السوية التكنولوجية للصناعة السورية وإدماجها في الاقتصاد العالمي من جهة، وحتى يساهم في امتصاص العمالة الفائضة من القطاع العام من جهة أخرى. وكم أتمنى أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه وزارة الصناعة من وزارة غارقة في حل المشكلات الإنتاجية والإدارية للقطاع العام الصناعي إلى وزارة تلعب دوراً تدخلياً استراتيجياً في كل من وضع الاستراتيجيات والسياسات وتحديد فرص الاستثمار الصناعي ذات الأولوية، وتطوير رأس المال البشري الصناعي وتعزيز المنافسة ومنع الاحتكار، فضلاً عن تعزيز نشاط البحث والتطوير واستخدام أنظمة المعلومات والاتصالات لدى المؤسسات الإنتاجية وإقامة الحاضنات التكنولوجية.

وأخيراً، أرجو أن تطلق وجهة النظر التي قدمتها أعلاه حواراً صريحاً وجريئاً تحت عنوان: (إصلاح القطاع العام الاقتصادي أم خصخصته ما بعد الخطة الخمسية العاشرة)، حتى لا نجد أنفسنا وقد دخلنا الخصخصة، حين يأتي أوانها، من دون استعداد وتحضير، لأن الكلفة الاقتصادية للارتجال في موضوع الخصخصة كبيرة كبيرة.