يمكن القول إن النظام الإقليمي العربي ومن خلال أداء معظم أنظمته السياسية استطاع احتواء آثار العولمة على الصعيد السياسي والاقتصادي، خصوصاً بعد الفشل الأميركي في العراق وارتفاع أسعار النفط الذي مكن تلك الأنظمة من تأمين هامش مريح لتحركاتها في الداخل والخارج، لكن الجانب الإعلامي والمعلوماتي من عملية العولمة ظل عصياً على تلك الأنظمة. فهي غير قادرة على احتواء آثار وتداعيات التطور التكنولوجي المتسارع في مجالات الاتصال والبث واستخدام الانترنت والتكامل بين قطاعي الإعلام والاتصال والترفيه الرقمي.
صحيح أن تلك الأنظمة حاولت احتواء وتقليص هذا الزخم الإعلامي والمعلوماتي لكن هذه المحاولات لم تنجح، وبالتالي أصبحنا إزاء وضع ملتبس يغلب عليه طابع الصراع بين خمسة أطراف متفاوتة القوة والتأثير، الأول يتمثل في الجمهور العربي صاحب الحق والطموح في الحصول على المعلومات والآراء وحرية التعبير في مواجهة حرص النظام الإعلامي العربي على ممارسة الاحتكار الإعلامي وفرض قيود على حرية الإعلام والإعلاميين.
لقد أدى تطور تكنولوجيا الاتصال وإمكانية البث المباشر - الإذاعي والتلفزيوني - عبر القنوات الفضائية من خارج المنطقة العربية وبتكلفة محدودة إلى زيادة الفرص المتاحة لحرية الرأي والتعبير بعيداً عن قدرة الحكومات العربية على الرقابة والمنع، واهتم كثير من الكتابات بتوضيح تلك الآثار والتداعيات، وكيف أنها سمحت بحريه تدفق المعلومات، ومن ثم ظهور مجال عام للنقاش بين الشعوب العربية.
لكن المفارقة أن أغلب الحكومات العربية كطرف ثان في معركة حرية الإعلام لم تسلم بهذا الوضع بل عمدت إلى تطوير قنواتها الفضائية ذات التمويل الحكومي وتقديم الدعم المباشر وغير المباشر إلى عدد من القنوات الفضائية المملوكة لأفراد أو شركات كبيرة دخلت في تحالفات سياسية مع تلك الحكومات تقوم على أساس تلقي الدعم المالي في مقابل تقديم الولاء السياسي، مع نزع الطابع السياسي عن معظم المضامين التي تقدمها. وتبرز في هذا الصدد مجموعات إعلامية خليجية ذات رؤوس أموال ضخمة تهيمن على الفضائيات العربية وتحصل على حصة كبيرة من الإعلانات، في المقابل تعاني معظم القنوات الفضائية العربية الأخرى من ضعف الهياكل التمويلية والتنافس السلبي وهشاشة المضامين وسطحيتها، ما أدى إلى ضعف الإقبال الجماهيري عليها، ومن ثم تقلص نصيبها من الإعلانات واتصالات الهواتف المحمولة.
في هذا السياق تركزت الملكية والأداء الإعلامي المهني المحترف والقادر على المنافسة في عدد محدود من القنوات الفضائية والمواقع الإعلامية على «الانترنت» والتي يمتلكها ويديرها عدد من المجموعات والشركات الخليجية مقابل عشرات من الفضائيات وآلاف من مواقع الانترنت الضعيفة مادياً ومهنياً، والتي تخصص بعضها في مجالات وموضوعات ترتبط بالتسلية أو الإثارة فضلاً عن السحر والشعوذة والتفاخر القبلي وإثارة النزعات الطائفية والدينية.
إن التراجع النسبي في دور الحكومات العربية للسيطرة على الإعلام اقتصر فقط - ونتيجة التكنولوجيا - على القنوات الفضائية الإذاعية والتلفزيونية، من هنا فإن معظم أدوار الهيمنة الحكومية العربية على الصحافة العربية - المطبوعة والالكترونية - ظل كما هو ومن دون تغيير تقريباً، نتيجة حاجة الصحافة المطبوعة إلى الحصول على موافقات وتصريحات حكومية، ووجود عدد من الدول العربية تفرض أنواعاً مختلفة من الرقابة على خدمة الانترنت ومواقع الانترنت في بلادها، الأمر الذي يشير إلى حقيقة أن العولمة فرضت بعض مظاهرها على النظام الإعلامي العربي لأسباب ترتبط بثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وليس لأسباب سياسية أو رغبة حقيقية لدى الحكومات العربية للإصلاح والتغيير وكفالة حرية الرأي والتعبير، والتي تعمل بكل الوسائل على احتواء الآثار الايجابية للعولمة على حرية الإعلام، وتحويل عولمة الأنشطة الإعلامية إلى مجرد مظاهر شكلية بلا مضمون، فضلاً عن استخدام بعض آليات العولمة للاستمرار وتعظيم عمليات تزييف وعي الجمهور العربي.
لكن عولمة الإعلام عملية أكثر تعقيداً من حسابات الأنظمة العربية، فلم تعد المواجهة على صعيد حرية الإعلام العربي بين الحكومات والجماهير العربية، بل إن هناك طرفاً ثالثاً في الصراع يتمثل في شركات الاتصال والإعلام والترفيه متعددة الجنسيات والتي تقود هذا القطاع، الذي يولد أرباحاً هائلة يصل جزء منها إلى مجموعات قوية من وكلائها المحليين في المنطقة. وربما تكفي الإشارة هنا إلى أن دخل الفضائيات العربية من الإعلان يقدر بحوالى ثلاثة بلايين دولار، هذا عدا دخل تلك الفضائيات من مكالمات الهاتف ورسائل الهاتف.
وثمة طرف رابع في الصراع على حرية الإعلام العربي يعبر عنه قطاع مؤثر من الشباب العربي أصبح قادراً على استخدام التكنولوجيا الجديدة في الوصول للأخبار والمعلومات بل في إنتاجها وتوزيعها عبر وسائل الإعلام الجديدة كمواقع الانترنت والمدونات ورسائل الهاتف، الأمر الذي يهدد الاحتكار التقليدي للأخبار والمعلومات والذي مارسته الأنظمة العربية وكان أحد أبرز سمات النظام الإعلامي العربي قبل العولمة.
ويمثل الإعلام الأجنبي الناطق باللغة العربية داخل النظام الإعلامي العربي، الطرف الخامس في معركة حرية الإعلام العربي، إذ أدت العولمة والتطورات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وغزو أفغانستان والعراق إلى اهتمام أطراف دولية وإقليمية بمخاطبة الجماهير العربية بهدف التأثير في مواقفها بما يخدم مصالحها، من هنا طوّرت إسرائيل من الفضائية العربية التي تديرها. كما رصدت الإدارة الأميركية موزانات ضخمة لأنشطة العلاقات العامة وبحوث الإعلام واستطلاعات الرأي العام، وأطلقت الإدارة الأميركية إذاعة «سوا» وقناة «الحرة»، كذلك أطلقت كل من فرنسا وألمانيا فضائية خاصة بالمنطقة العربية، وتدرس محطة C. N. N الأميركية الشهيرة إمكانية إطلاق قناة تلفزيونية ناطقة بالعربية، وكانت أطلقت إذاعة ناطقة باللغة العربية، وتستعد كل من روسيا وبريطانيا لإطلاق فضائية ناطقة بالعربية.
ولا شك في أن هذه القنوات إضافة إلى القنوات المدعومة من إيران ستعمل على الترويج لأفكار وسياسات قد تتعارض مع القيم الثقافية والمصالح السياسية للشعوب العربية، لكنها قد تقدم أخباراً وآراءً توسع من مجالات الإدراك والاختيار أمام الجمهور العربي، خصوصاً وأن هذه القنوات تتمتع بمصادر تمويل قوية وتتسم بمهنية عالية وخطاب إعلامي- دعائي جذاب.
الأطراف الخمسة المتصارعة بدرجات مختلفة والتي قد يدخل بعضها في تحالفات ستعيد تشكيل ملامح النظام الإعلامي العربي الحالي، أي لن تبقى على أوضاعه الحالية، وإنما قد تقوده نحو أشكال باهرة إعلامياً، ومضامين جديدة تحقق التنوع والتعدد لكنها لا تحقق الحرية بمعنى ضمان حق كل الأطراف والقوى الاجتماعية في التعبير عن آرائها، من هنا قد تظل حرية الإعلام العربي مقيدة ومراوغة في كثير من الأحيان نتيجة التحالفات السياسية بين بعض هذه الأطراف، فضلاً عن أنماط الملكية والتمويل في مجال أصبح يتطلب تمويلاً ضخماً حتى تضمن الوصول إلى الجماهير. لكن سيظل العامل التكنولوجي له تأثير مستقل من زاوية القدرة على تجاوز قيود الحكومات العربية وقيود الاحتكار الإعلامي والمعلوماتي الذي تمارسه بعض الأطراف الفاعلة في النظام الإعلامي العربي، وذلك من خلال توفير بدائل تكنولوجية رخيصة وقادرة علي خلق قنوات اتصال مقاوم ومواز للوسائل الإعلامية التي تملكها الحكومات والشركات الإعلامية الكبرى. لكن الرهان على تكنولوجيا الاتصال والمعلومات لن يكون له معنى من دون تفعيل دور المجتمع المدني العربي وزيادة استخدامه لتكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام الجديدة في إنتاج وتداول خطاب إعلامي وطني مستقل.