عندما يتعلق الأمر بالعراق، يبدو وكأن شهر سبتمبر قد حل قبل الأوان بالنظر إلى السجال الدائر حالياً في واشنطن. فـ"الديمقراطيون"، وعدد متزايد من "الجمهوريين" عقدوا العزم على عدم الانتظار إلى غاية سبتمبر المقبل، وهو الوقت الذي سيرفع فيه الرئيس بوش تقريراً حول مدى نجاح خطته بزيادة عدد القوات الأميركية في العراق، إضافة إلى تململ الشعب الأميركي ورغبته في الانسحاب دون إبطاء. لكن واللعبة توشك على النهاية يتعين على الرأي العام أن يدرك بأنه لا:"الديمقراطيين" ولا "الجمهوريين" يطرحون استراتيجية واقعية للخروج من المأزق. فقد بات واضحاً أن مقاربة الرئيس بوش القائمة على التمسك بالمسار ذاته في العراق، قد أفلست تماماً ولم تعد ذات معنى في ظل الظروف الحالية، كما أنها غير قادرة على تحقيق تلك اللازمة التي كثيراً ما رددها بوش والمتمثلة في بناء عراق موحد ومستقر.
بيد أن ما يطرحه "الديمقراطيون" وبعض المنشقين من "الجمهوريين" من مقترحات مختلفة تدعو إلى انسحاب تدريجي، أو جزئي للقوات الأميركية من العراق، هي أيضاً غير واقعية. فالمشاعر المتأججة حالياً في العراق والتي تنذر بأوخم العواقب لا تستطيع التكيف مع انسحاب جزئي يتم بموجبه خفض القوات الأميركية، أو التقليص من تسيير الدوريات، والاقتصار فقط على تدريب القوات العراقية، أو التصدي لمقاتلي "القاعدة"، فذلك مجرد سراب غير قابل للتحقيق. إذ ما إن تحل لحظة الانسحاب حتى تنفتح أبواب الجحيم لتجتاح مختلف المناطق العراقية، ولن يكون هناك رادع يمنع الفصائل العراقية المتنازعة من الدخول في صراع شرس على السلطة. ولن يكون من الممكن الاحتفاظ بنصف عدد القوات الحالي، وفي الوقت نفسه البقاء في العراق. وللتأكد من ذلك انظروا إلى ما يجري اليوم في البصرة بعد أن تراجعت القوات البريطانية تدريجياً إلى داخل قاعدة عسكرية بمطار المدينة.
لقد سارع "أمراء الحرب" الشيعة، فضلاً عن العصابات والعشائر المختلفة إلى الدخول في تنافس محموم للسيطرة على المدينة، دون أن يخف الضغط على الجنود البريطانيين الذين مازالوا يقتلون كلما تجرؤوا على الخروج من القاعدة. وكما أشارت "المجموعة الدولية للأزمات" في تقرير لها من البصرة "سقطت الساحة السياسية في المدينة بأيدي الفاعلين المنخرطين في تنافس دموي من أجل الموارد، مقوضين بذلك ما تبقى من مؤسسات الحكم وفارضين سلطتهم بالقوة. وبعيداً عن تقديمها لنموذج قابل للاحتذاء، أصبحت البصرة مثالاً يتعين تفاديه. ومع العنف المستجد وعدم الاستقرار تجسد البصرة جميع المساوئ لعملية انتقالية أفضت إلى انهيار جهاز الدولة". لذا علينا ألا نستمر في خداع أنفسنا حيال الوضع في العراق، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء بكامل قواتنا، أو خروجها بالكامل أيضا، باستثناء كردستان. وإذا كانت تلك هي فعلا الخيارات المطروحة أمامنا فعلينا أن ندرس كل واحد منها وننظر إليها بتمعن. فالبقاء في العراق يعني ببساطة احتواء الحرب الأهلية، لكن الثمن سيكون استمرار قتل الأميركيين والعراقيين، فضلاً عن فقدان الولايات المتحدة لأي نفوذ تمارسه مع الأطراف الداخلية، أو الخارجية للتوصل إلى تسوية متفاوض عليها. فمادامت الأطراف العراقية متأكدة من بقائنا فإنها ستلجأ للمماطلة، ويبدو اليوم أن الجنود الأميركيين يبذلون قصارى جهدهم ليتمسك الساسة العراقيون بمواقفهم ويمتنعوا عن التوافق فيما بينهم.
لكن في المقابل يعني الانسحاب من العراق المزيد من القتل على أساس عرقي وديني، وقبلي يجتاح جميع مناطق العراق. وسيغرق البلد في أحد أفظع المشاهد اللاأخلاقية التي يمكن أن يتصورها الإنسان وستبهت بالمقارنة مع دارفور. وسنرى كيف أن المدنيين والجنود العراقيين يتشبثون بالمدرعات الأميركية وهي تغادر البلاد طلباً للحماية، مما ينتظرهم. وفي هذا السياق سيكون من الواجب علينا أخذ كل من قدم لنا يد المساعدة، ومنح "البطاقات الخضراء" لأكبر قدر ممكن من العراقيين. ومع ذلك أعتقد بأن الخروج من العراق ينطوي على أربع نقاط إيجابية، أولها أنه لن يكون هناك المزيد من القتلى الأميركيين كما سيكون عليه الوضع في حال تدخلهم في الحرب الأهلية. والثانية أن الخوف من اندلاع حرب أهلية شاملة، بينما نستعد للانسحاب، قد يشكل الأمل الوحيد المتبقي لدفع العراقيين إلى تسوية سياسية تنهي العنف وعدم الاستقرار. وفي حالة فشل التسوية السياسة في لم شمل العراقيين فذلك سيقود إلى النقطة الثالثة التي قد تعيد ترتيب تحالفات جديدة تشكل أرضية ملائمة لبزوغ حل فيدرالي للعراق.
أما النقطة الإيجابية الرابعة، فتتمثل في استعادتنا لقوة الردع في التعامل مع إيران، إذ لن يكون بمقدور طهران الاستمرار في استنزافنا عبر عملائها في العراق، وسنكون أيضاً أكثر حرية لضرب إيران، إذا ما ارتأينا ذلك. والأكثر من ذلك سترث إيران تلقائياً عملية إدارة الفوضى في جنوب العراق بعد خروجنا، وهو ما سيتحول مع الوقت إلى عبء ثقيل تتحمله طهران. وبسبب ذلك كله أفضل تحديد موعد للانسحاب على أن يكون مصحوباً بمحاولة أخيرة تقودها الأمم المتحدة- وليس الولايات المتحدة-لتكثيف الجهود الدبلوماسية ودفع العراقيين لحل خلافاتهم السياسية. وهكذا إذا نجحت الأمم المتحدة يمكن تأجيل الانسحاب، أما إذا أخفق الساسة العراقيون في الاتفاق، فسيغدو البقاء في العراق ضرباً من العبث ليظل الانسحاب هو الحل الوحيد. وكما عبر عن ذلك "مايكل ماندلبوم"، خبير السياسة الخارجية قائلاً: "إن السعي إلى فض اشتباك بين شخصين أمر، ومحاولة فض الاشتباك في مظاهرة أمر آخر، ففي الحالة الأخيرة يجرفك التيار إلى قلب المظاهرة". لذا يتعين علينا اليوم تحديد هل ما يجري في العراق مجرد اشتباك يمكن فضه بالتدخل، أم أنها مظاهرة عارمة يتعين إحاطتها بسور والانتظار حتى تستنفد قوتها؟