ثمة شيء واحد يذهلني في الجهود التي يبذلها طاقم إدارة الرئيس جورج بوش في العراق وفي الحرب على تنظيم "القاعدة"، هو كيف يكون لهذه الإدارة البارعة للغاية في التغلب على معارضيها في الداخل، أن تكون بكل هذا القدر من العجز عن التغلب على معارضيها الخارجيين؟! وكيف أمكن لطاقم بوش إخراس أصوات جون كيري وماكس كليلاند، وكلاهما بطل غير مشكوك فيه من أبطال حرب فيتنام، بسرعة قياسية وحملهما على الاستسلام والإذعان لحربها الدائرة ضد الإرهاب، في حين عجز حتى الآن عن التغلب على أسامة بن لادن، الوحش الدموي الذي لا يزال يعد في أوساط كثيرة كـ"بطل طليعي" ضد أميركا؟
وفيما لو دخلتَ في أي حوار اليوم عن أميركا، سواء في العالم العربي أو في أوروبا أو في إفريقيا، فما هي إلا ثلاثون ثانية حتى يُقذفَ بعار سجني غوانتانامو وأبوغريب في وجهك مباشرة. وفي الرد على هذا نقول إن كليهما عار وسبة في سمعة أميركا ومصداقيتها ومكانتها العالمية. بيد أن أبوغريب كان أشبه بيوم سهل في شاطئ البحر قياساً إلى فعائل مقاتلي "القاعدة" ومؤيديهم من المسلمين السُّنة. ورغم شناعة هذه الأفعال فإنها لم تستفز العالم ولم تحرك شعرة واحدة منه، قياساً إلى ما أصاب ضميره من جراء جوانتانامو وأبوغريب!
وفي جرد لأفعال الإرهابيين وفظائعهم، لنستذكر ما حدث يوم الـ14 من شهر أغسطس الجاري، حين فجر أربعة انتحاريين أنفسهم في قريتين عراقيتين، مما أودى بحياة أكثر من 500 مدني كردي، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ينتمون جميعاً إلى طائفة الإيزيديين. فماذا كانت ردة فعل طاقم بوش على هذه الفعلة الشنعاء؟ الإجابة هي الصمت تقريباً. ومهما استغرقت في البحث عن إجابة أو ردة فعل من البيت الأبيض إزاء هذه المذبحة المروعة، مستخدماً في ذلك محرك البحث الإلكتروني القوي "جوجل"، فلن تجد أفضل من قول المقدم "كريستوفر جارفر"، الناطق العسكري: "نحن ننظر إلى تنظيم القاعدة باعتباره المتهم الرئيسي في هذه التفجيرات". ويا لَه من تصريح ونظر! لابد لي أن أستسمح مسؤولي البيت الأبيض عذراً في إثارة السؤال: فما الذي نقاتل أصلاً من أجله في العراق، أو في حربنا الأوسع نطاقاً ضد الإرهاب والتطرف الديني، إذا كان ينظر إلى مصرع 500 مدني عراقي بهذا الاستهتار وذاك الاستخفاف؟! حتى إن لم نتمكن من تحديد المسؤولين عن ارتكاب مثل هذه الجريمة، فنحن نعرف في كل الأحوال أن من يحض على ارتكابها ويهندسها هو تنظيم "القاعدة" وزعيمه ابن لادن. لذلك علينا أن نجهر بهذه الحقيقة كل يوم صباحَ مساءَ. ولنا أن نثير السؤال على هذا النحو: فيما لو كان ابن لادن يخوض سباقاً انتخابياً رئاسياً ضد الرئيس بوش، فكيف كان سيتصدى كل من كارل روف وكارين هيوز لمجزرة الطائفة الإيزيدية؟ في اعتقادي، إنه لن تمر ساعة واحدة في مثل هذه الحالة، حتى يصدُرَ فيها بيان هذا نصه: "إن المسؤول عن التحريض على هذه المجزرة المروعة التي حلت بالمدنيين العراقيين هو أسامة ابن لادن. فنحن نتهمه بإزهاق أرواح 500 من النساء والأطفال العراقيين، كما نتهمه بإراقة دماء المسلمين والعراقيين أكثر مما فعل أي مجرم غيره على وجه الأرض. ومن أيَّد بصوته ابن لادن، إنما هو مؤيد لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق المسلمين". ولو كان التنافس الانتخابي الرئاسي بين ابن لادن وبوش، لما قصّر روف وهيوز في تكرار هذه الفكرة يومياً، وفي الترويج لها عبر كافة الشبكات الإذاعية والتلفزيونية. فلماذا نهتم في هذه الحالة؟ لأن ابن لادن وذراعه اليمنى أيمن الظواهري يهتمان ويحرصان على أن يحملا لقب "المقاومة" وليس سبة الدموية والإبادة الجماعية، حتى تبيضّ صورتهما ويتمكنا من استقطاب المزيد من المؤيدين والمقاتلين إلى صفهما.
ورغم انقلاب بعض المسلمين السُّنة العراقيين على تنظيم "القاعدة"، جراء تعرض حياتهم للتهديد المباشر من قبل مقاتليه مؤخراً، فإن الصورة الغالبة في الجزء الأعم من العالمين العربي والإسلامي، هي أن أسامة ابن لادن، قد تفوق في أساليب مناورته على خصمه الرئيس بوش، علماً بأن هذا الأخير تمكن من التغلب على معارضيه الداخليين من أمثال كيري وكليلاند! وبالنتيجة فقد خسر بوش حرب العلاقات العامة التي يخوضها، لصالح المجازر الجماعية.
وكنت قد أمضيت يوماً كاملاً هنا في استديوهات الأخبار بتلفزيون قناة "الجزيرة" بالدوحة، ووجهتُ سؤالاً إلى الصحفيين العرب عن فرص كل من الرئيس بوش وأسامة بن لادن في استطلاع للرأي حول شعبية كليهما في المنطقة. فقيل لي إنه لامجال لبوش في المنافسة هنا. بل علّق أحدهم قائلاً إن الفارق الجوهري بين الرجلين أن ولاية بوش مقبلة على نهايتها، بينما يظل ابن لادن مستمراً في منصبه. بل قال آخر إن المثقفين العرب الذين أيّدوا جهود التحول الديمقراطي التي تبذلها أميركا في العراق، باتوا يوصفون في الإعلام العربي بنعت "مثقفي المارينز"، مع العلم أن قوات "المارينز" هي السبة بعينها في المنطقة.
وبما أن جميع أعراف الحرب وقوانينها الدولية، بما فيها القوانين الإسلامية، تنص على تجريم الاستهداف المتعمد لأرواح المدنيين لأغراض عسكرية، فلِمَ لا نقول هذا ونجهر به صراحة؟ وإذا كنا نحن من نخسر حرب العلاقات العامة التي نخوضها، أي حرب كسب العقول والقلوب، لصالح أسامة ابن لادن وسفّاحيه، فأي حرب تبقت لنا كي نخوضها أصلاً في العراق؟