استغلالا لموسم التدين الرمضانى.. نشطت حملة الترويج للكتب الدينية والتفاسير.. المفزع فى الأمر تلك موسوعة خاصة بتفسير القرآن الكريم للأطفال، وأخطر ما فيها ما احتوته من أفكار مغلوطة تحرض على رفض أصحاب الأديان السماوية كما جاء فى تفسيرها لفاتحة الكتاب ووصفها «المغضوب عليهم» باليهود، أما «الضالين» فهم النصارى بما يتعارض مع أصل الدين الإسلامى نفسه وسماحته!
ما تقدم دفعنا للتحقيق فيما وراء هذه التفاسير المحرضة خصوصا أنها مقدمة للأطفال وتغرس فيهم أفكار التعصب والكراهية، وللحق أن «المفكر الإسلامى» جمال البنا أول من لفت الانتباه إليها فى مقال له انتقد فيه ما انتهت إليه من تفاسير مخالفة لمبادئ الشريعة الإسلامية!
المفاجأة إنه مع توالى الإعلانات ووصول حملة الدعاية لذروتها فى الصحف والفضائيات اكتشفنا أن هذه التفاسير صدرت قبل 10 أعوام عن «دار الصحابة للتراث» بطنطا فى 6 طبعات وتمت ترجمتها إلى عدة لغات منها الإندونيسية، والماليزية، والتركية! السؤال المهم: كيف يسمح مجمع البحوث الإسلامية بصدور مثل هذه الأفكار؟ وأين دوره الرقابى فى متابعة مايصدر صورة مغايرة لحقيقة الإسلام ويمس الديانات السماوية؟ خصوصا أنه انشغل فى معارك ثقافية والتصيد لأصحاب الآراء الإبداعية فى الفكر والثقافة والفلسفة وأولى بهم أن يلتفتوا لمهمتهم الأصلية بعد أن تغلغل هذا السم الكامن فى صفحات الموسوعة الحاصلة على موافقة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بل معتمدة من الشيخ «عبدالمعز عبدالحميد الجزار» ـ مدير عام البحوث والتأليف والترجمة آنذاك ـ وهى من إعداد الشيخ «مجدى فتحى السيد» وراجعها 4 من علماء الأزهر، وكتب مقدمتها كل من «د.أحمد عيسى المعصراوى» ـ شيخ عموم المقارئ المصرية وأستاذ الحديث بجامعة الأزهر ـ والشيخ «مصطفى بن العدوى» المعروف عنه اتباعه التيار السلفى، وأسماؤهم كلها مكتوبة على أغلفة موسوعة التفاسير!
الاتجاه العام للموسوعة هو الحض على التعصب وتأويل الآيات بما لاتقول، بدءا من الصفحات الأولى للتفسير مالم تقله، فمثلا فى سورة البقرة الآية «130» فى قوله تعالى «ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وإنه فى الآخرة لمن الصالحين»، تفسيرها لديهم بالنص أن ترك اليهود والنصارى لدين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو الإسلام فأخبرهم الله أن من ترك دين إبراهيم وشريعته فقد خسر نفسه وضل عن الصواب! والآية الكريمة «139» فى نفس السورة «قل أتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون»، تفسيرها لديهم أن قال الله تعالى لنبيه: «قل يامحمد لليهود والنصارى أتجادلوننا فى الله تعالى فتزعمون أنكم أبناء الله وأحباؤه»!! أما التفسير الأغرب للآية رقم «177» «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين»، فجاء تفسيرها بأنه لما اختلف اليهود والنصارى فى تحديد القبلة اتجه اليهود إلي المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس فقال الله لهم: ليس البر ما أنتم فيه ولكن البر الحقيقى والخير الأعظم من آمن بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة! الأمر نفسه فى كثير من الآيات التى أقحمت اليهود والنصارى فى تفسيراتها لبيان ضلالهم والحط من شأنهم كما فى قوله تعالى: «هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» آية «7» آل عمران، وفسروها بأن الذين فى قلوبهم ميل عن الحق كالمنافقين والمبتدعين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيتبعون الآيات المتشابهات ابتغاء الشبهات التى تصل بالناس إلى الشرك بالله، وابتغاء تفسيره بما تهوى أنفسهم ولإثارة الفتن بين الناس. أما تفسير الآية رقم «155» من نفس السورة التى تقول «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم» فكان لديهم الله يحذر المسلمين من التفرق كاليهود والنصارى، فهؤلاء لهم عذاب شديد فى يوم تبيض فيه وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين والمنافقين والمبتدعين . فى سورة النساء الآيتان 150-151 «إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا
بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا » وجاء تفسيرها حسب الموسوعة أن الله بين أن اليهود والنصارى الذين آمنون بموسى وعيسى وكفروا بمحمد فيفرقون بين الله ورسله ويريدون أن يتخذوا دينا بين الكفر والإيمان هؤلاء هم أهل الكفر وأعد الله لهم عذابا مذلا يهانون به. الموسوعة التفسيرية نزعت عن الإسلام أهم صفاته ومبادئه التى يحرض عليها، وهى السلام عندما فسرت الآية 13 من سورة «المائدة » فى قوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين »، وادعت أن الحكم بالإعراض كان قبل نزول الآية الكريمة التى تسمى بآية «السيف » فى قوله : «وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله» وكذلك الآية 61 من سورة «الأنفال » : «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم » والتى أولوها بأن هذا الحكم بعقد الصلح تم نسخه بآية «السيف» فى سورة «التوبة » ويقصد منه أن الصلح والسلام غير جائز بعد الآية الكريمة! المثير فى الأمر أنهم فسروا آية «السيف » فى قوله تعالى : «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون » بأن الله يأمر المؤمنون بمقاتلة جميع الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى ولا بيوم القيامة ولا يتبعون أمر الله فى الحلال والحرام ولا يدينون الدين الحق وهو الإسلام من اليهود والنصارى. الغريب أنهم برروا اختزالهم للكفار من اليهود والنصار فقط بكونه تكريما لهم لأنهم أصحاب كتب سماوية وإن كانوا قد حرفوها فإنهم إذا قالوا «عزير ابن الله » و«المسيح ابن الله» لايكون ذلك إيمانا بالله، بل كفر بالله وشرك! المفزع فيما احتوته الموسوعة التفسيرية للأطفال ما جمعته من آيات سورة «المائدة » تحت عنوان «أدلة كفر النصارى »، وهو بمثابة زرع قنابل فتنة موقوتة فى الصغار الذين يتم تلقينهم أفكارا تكفيرية عن الأقباط، وهو أمر غير مقبول ومرفوض على طول الخط بل يناهض الدستور المصرى نفسه.. من هذه الآيات: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم »، والآية «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة» «وما من إله إلا الله » .. وفى سورة المائدة «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله ـ قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته » ويفسر ذلك عندهم أن الله - سبحانه وتعالى - يقول لعيسى- عليه السلام - يوم القيامة يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله؟. وهذا السؤال لإعلام عيسى وتعريفه أن قومه غيروا بعده، وفيه توبيخ للنصارى !
من تحقير وتكفير أصحاب الديانات السماوية إلى آيات الحض على القتال باسم الجهاد كما فى الآية الكريمة : «انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون».. وتفسيرها لديهم: يقول الله تعالى لأهل الإيمان اخرجوا للقتال فى سبيل الله صغارا وكبارا !! كذلك فى سورة التحريم فى الآية «9» «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير » وتفسيرها لديهم: أمر الله أهل الإيمان بجهاد الكافرين بالقتال بالسيف وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وبالشدة عليهم ومستقرهم جهنم فى الآخرة وبئست جهنم مصيرا لهم. ما سبق مجرد نماذج حاول القائمون على هذه التفاسير ترسيخه مفهوم التكفير لدى الأطفال وإلصاقه بأصحاب الديانات السماوية، والمحصلة المتوقعة آلاف الأطفال المفخخين والجاهزين للانفجار فى وجه الآخر مستقبلا وهنا مكمن الخطر ! الأمر لا يعدو مجرد تأويل للآيات، ولكنه أمر متعمد فى تأصيل الأفكار التحريضية، فبدا هذا واضحا من تجاهلهم لآيات أخرى، كما فى قوله تعالى : «وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب »، وكذلك آية 131 فى سورة النساء : «ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السموات وما فى الأرض وكان الله غنيا حميدا». وهى الآيات التى تكشف صحيح الإسلام فى عدم التفرقة والتآخى بين أصحاب الديانات السماوية فكان تجاهلا متعمدا! المساءلة عن هذه الجريمة التحريضية المغلفة بعبادة دينية يتحمل مسئوليتها فى الأساس مجمع البحوث الإسلامية الذى سمح بتمرير وتداول تلك الأفكار لمدة 10 سنوات بدأت تحصد ثمارها فى خلق أجيال متعصبة ورافضة للآخر . من هنا وجب التعرف على كيفية السماح والترخيص لتلك الموسوعة الموجهة للأطفال بأفكارها الخطيرة.. وتوجهنا إلى الشيخ «عبد الظاهر محمد عبد الرازق » - رئيس إدارة لجنة البحوث والتأليف والترجمة بالأزهر الشريف - الذى جاء رده صادما عندما قال لنا : «ما ذكرتموه ليس بالأمر الغريب وهذه الأفكار والمعلومات موجودة فى كل كتب التفاسير القديمة »!
ورفض أن يستكمل حواره معنا أو يرد على استفساراتنا ! اللافت أنه تم استغلال اسم د. «القصبى زلط » - نائب رئيس جامعة الأزهر السابق - لكونه شيخا له ثقله ومكانته لكتابة مقدمة موسوعة التفاسير، والأغرب أننا بسؤالنا له عن مضمون التفاسير وما تحمله من أفكار متطرفة أكد قائلا: «لم أر مثل تلك التفاسير وكل مافى الأمر أنه طلب منى كتابة تقديم له ». وأضاف أنه لو كان قد لاحظ مثل تلك التفاسير لطلب منهم تغييرها ووقف نشرها بتلك الصورة لأنه يرى أن تجريح الأديان ضد مبادئ الدين الإسلامى ! وفيما يخص وصف «المغضوب عليهم» باليهود و«الضالين» بالنصارى كما جاء فى تفسير آيات فاتحة الكتاب. أكد د. «القصبى» أن الأصل فى تفسير هذه السورة هو دعوة الله بألا نحيد عن الهدى بشكل عام وليس لها علاقة باليهود والنصارى، فهناك الكثير من المسلمين فى طريق الضلال! المفكر الإسلامى «جمال البنا».. التفت مبكرا لهذه المغالطات فى تفاسير القرآن للأطفال وانتقد ما ترمى إليه فى إحدى مقالاته مما دفعنا إلى سؤاله عنها فأجاب قائلا: هذه التفاسير بشكل عام أشبه بتفسير سيد قطب وأمثاله الذين جنوا على الإسلام وأساءوا إلى سمعته بسبب تفاسيرهم التى لم يتقول بها القرآن، فالإسلام أقر بالتعددية وليس من شأننا الحكم فى عقيدة الآخر أو تكفيره فهو أمر متروك لله سبحانه وتعالى يوم القيامة، كما أن آيات العدوان التى يفسرونها على أنها قتال فى المطلق فهذا غير صحيح، فالعدوان والقتال فرضا فى الإسلام للدفاع عن حرية العقيدة وليس لفرضهما كما أن الآية التى تحض على موالاة الكفار نزلت فى حملة العداوة بين المسلمين والكفار فى بداية ظهور الإسلام وأثناء الحرب، فهى لها أسبابها وتوقيتها! أما بالنسبة لآية «السيف» التى ادعى الكتاب أنها نسخت آيات الصلح والتسامح فقال جمال البنا: لايوجد ما يسمى بآية السيف فتلك افتراءات ولم تنسخ شيئا، وقد قالوا إنها نسخت 100 آية من آيات الصلح، فهذا لم يحدث، فالصلح والتسامح والسلام مبدأ قائم فى عقيدة الإسلام من يتجنبه فقد تجنب صميم العقيدة. ويضيف «البنا»: إن تلك التفسيرات لايجب عرضها على الأطفال ولايجب دخولهم أصلا
فى مثل تلك الجدليات التى لن يفهموها لأنها تخص المتخصصين وحدهم. المفكر الإسلامى «عبدالفتاح عساكر» علق قائلا: إذا قرأنا القرآن فى ضوء التفاسير نضل أما إذا قرأناه فى ضوء نظمه اللغوى وبيانه فنهتدى. وليس من الإسلام تجريح الآخر عموما وفى معتقداته بشكل خاص هو مخالف للأمر الإلهى الذى يأمرنا بألا نجادل أهل الكتاب إلا بالحسنى. وأضاف «عساكر»: الله أرسل نبيه رحمة للعالمين، وهل الرحمة تسفه من معتقدات الناس، وأكد هو الآخر على عدم صحة ما يسمى بآية «السيف» فالقتال فى الإسلام وآياته نزلت فى ظل أوقات الحرب للحث على الدفاع عن الدين وليس العدوان. ويفسر «عبدالفتاح عساكر» تلك الآية قائلا: الله قال «قاتلوا الذين لايؤمنون بالله» وهل النصارى واليهود لايؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر؟ وهل ليس لديهم تحريمات فى عقيدتهم، وهل كل أهل الكتاب لايدينون دين الحق؟ تلك الآية نزلت فى ظل الحرب والدفاع عن النفس وضد فئة معينة من الضالين دون تخصيص دين محدد. أما ما ذهبت إليه التفاسير المحرضة إلى تكفير النصارى، كما جاء فى صفحات الموسوعة فعلق «عساكر» قائلا: الله قال «لقد كفر الذين قالوا» أى القائلين بذلك ولم يحدد النصارى. أى أن الحكم الإلهى مرهون بمقولات وليس طوائف وديانات. «د.عبدالمعطى بيومى» - عميد كلية أصول الدين سابقا - اتفق مع سابقيه وأضاف معقبا: هذا جهل توارثناه من كتب التفسير القديمة والمغلوطة الذين نقلوا عنها دون إمعان أو تفكير ومن هنا تأتى ضرورة تجديد الفكر الإسلامى، وليس صحيحا أن الله حدد المغضوب عليهم والضالين باليهود والنصارى والدليل أنه قال أن منهم أمة قائمة آناء الليل وأطراف النهار.
وحذر «بيومى» من خطورة توجيه تلك الأفكار المسمومة للأطفال فيكفى لهم فى هذه المرحلة العمرية الاطلاع على قصص الأنبياء التى تعلمهم المثل وتربطهم بفكرة الدين عموما دون الدخول فى تفصيلات لايستوعبونها.