عزمي بشارة
الخليج
04/10/2007
كيف انتقل الأمريكيون من المفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية المباشرة والمنفردة الى اجتماع دولي يشارك فيه العرب؟ حين أعدت وصفة كامب ديفيد في
كيف انتقل الأمريكيون من المفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية المباشرة والمنفردة الى اجتماع دولي يشارك فيه العرب؟
حين أعدت وصفة كامب ديفيد في مطبخ البيت الأبيض كان ذلك تبنياً أمريكياً لفكرة إيهود باراك المتحفظ على أوسلو كوزير، والمصرّ كرئيس حكومة على عدم الاستمرار في تنفيذ الالتزامات “الإسرائيلية” من اتفاقيات أوسلو “لمن لا يذكر: سميت في حينه إعادات انتشار”. لقد طالب باراك بالتوجه نحو اتفاق شامل يتأكد فيه “الإسرائيليون” إذا كان الفلسطينيون يقبلون فعلاً بشروط الإجماع “الإسرائيلي” للتسوية الشاملة. أصر باراك على هذا الموقف رافضاً بعناد تنفيذ أي بند من اتفاقيات أوسلو قبل أن يعرف الجمهور “الإسرائيلي” هل تنازل الفلسطينيون فعلاً عن حق العودة وعن القدس وغيرها.
تجاوب كلينتون ومعه من احتكر إدارة الاتصالات مع أطراف التسوية في إدارته من اللوبي “الإسرائيلي”. رغب دنيس روس ومارتن إنديك منذ البداية بوضع حد لمناورات عرفات. هؤلاء، والأول منهما بشكل خاص، نفذوا في الواقع أجندة صهيونية يمينية في “عملية السلام”، إذ أفشلوا أي اتفاق على انسحاب “إسرائيلي” إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران في المفاوضات مع سوريا. وحاولوا إقناع “إسرائيل” وسوريا بإمكانية تسوية دون انسحاب كامل كهذا. هؤلاء لم يؤيدوا نهج أوسلو منذ البداية، ولم يروا حكمة في قرار رابين “إنقاذ ياسر عرفات” من هاوية العزلة السياسية والدبلوماسية ما بعد حرب الكويت، وما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
كان الهدف من كامب ديفيد هو تكبيل عرفات، وحمله مكبلاً إلى كامب ديفيد، ووضعه وحيداً مقابل أمريكا في أوج قوتها ومعها “إسرائيل”، وفي مواجهة ساعة الحقيقة، بحيث يرد على اقتراحات “إسرائيل” وكلينتون للحل الدائم بنعم أو لا. أي أنه عندما رغب كلينتون وباراك بتسوية شاملة على نمط، إما... أو، خذها كما هي أو اتركها!! اختاروا أسلوب عزل عرفات وحده على الطاولة أمامهم في مفاوضات منفردة دون العرب. كانت هذه هي البنية في حالة السادات أيضاً مع الفارق الكبير الذي يتضمنه وضع مصر كأكبر وأول دولة تصنع سلاماً مع “إسرائيل” وتخرج من دائرة الصراع، بما فيه الاستعداد “الإسرائيلي” لدفع ثمن ذلك.
في حينه كانت هنالك حالة عربية، وكانت المشاركة العربية تعني تصليب الموقف الفلسطيني.
فجأة تستسيغ أمريكا صيغة اجتماع دولي وتشدد مع “إسرائيل” على ضرورة مشاركة عربية واسعة كانت تجتنبها في الماضي. ليست هذه عودة لصيغة مدريد. فالاجتماع ليس افتتاحاً دولياً لمناقشة كافة الملفات، وإنما توجه الدعوة للعرب “ذوي الصلة” كشفعاء لمسار تسوية من النوع الذي رفضه عرفات. يجب أن يحضر العرب للقيام بدور الإشبين ل”محور الاعتدال” الفلسطيني. ومن لا يحضر يعزل نفسه عن “محور المعتدلين” و”معسكر السلام” وغيرهما. وطبعاً يستغل وجودهم للبدء في عملية تطبيع علاقات عربية مع “إسرائيل” تجري كجزء من عملية سياسية مع الفلسطينيين. ففي ظروف الانشقاق الفلسطيني والعربي، لم تعد “إسرائيل” تكتفي أن تؤدي هذه العملية السياسية إلى دولة فلسطينية على أقل من حدود ،1967 ولم يعد يكفي قبول الأطراف الفلسطينية المفاوضة صاغرة بذلك، بل يجب أن يباشر العرب بالتطبيع كثمن لموافقة “إسرائيل” على مسارات سياسية تدعم “المعتدلين الفلسطينيين” في صراعهم المحلي. لقد أصبح الأخيرون رهائن عملية التسوية والمكرمات “الإسرائيلية”. وبعد أن أصبحوا رهائن تصرخ “إسرائيل” في وجه العرب لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين!! هؤلاء الفلسطينيون غارقون في تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” بما فيها رفض أي نضال يتجاوز سقف التفاوض، فلماذا يأنف العرب مثل هذا التطبيع؟
والحقيقة أن النداء القادم من سياق تعامل العرب التاريخي مع القضية الفلسطينية كقضيتهم القومية يجب أن يصاغ كما يلي: لا تكونوا “إسرائيليين” أكثر من “الإسرائيليين”!
من البدهيات ألا تفاوض الدول على قضايا مصيرية وهي في حالة ضعف. والحالة العربية رثة فعلاً. ومن مظاهر الحالة العربية الرثة حالياً أن جامعة الدول العربية وأمانتها العامة بشكل خاص لم تراجع رد “إسرائيل” على تجديد مبادرتها وإيفاد وفدها. ففي عهد هذه الأمانة العامة شاركت الجامعة لأول مرة مباشرة في عملية التسوية مع “إسرائيل”. وغطت الجامعة تجديد مبادرة السلام العربية بعد العدوان على لبنان ثم إيفاد وفد باسمها إلى “إسرائيل” بنبرة خطابية حادة تضمنت تحذيرات ل”إسرائيل” أن تستجيب، كما تضمنت الخطابة تحديداً لمهل ومواعيد لتجيب “إسرائيل” عن المبادرة. لم تجب “إسرائيل”. وانقشعت البلاغة والسجال وحدة الكلام، وبقينا مع سابقة سجلتها الجامعة العربية بالتورط مباشرة في عملية التسوية في عهد التردي هذا.
ومن مظاهر التردي العربي أنه لم يصدر بيان إدانة واحد للغارة “الإسرائيلية” على سوريا، اللهم من حكومة لبنان. وقد تضمنت هذه الغارة إمكانية الحرب لو ردت سوريا، (وإلا فلا معنى لتشاور أولمرت مع نتنياهو زعيم المعارضة قبل الغارة). ومن مظاهرها أيضاً صعوبة عقد اجتماع تنسيقي واحد يضع أجندات مشتركة، وسهولة عقد اجتماعات لأجندات مشتركة مع أمريكا (وموضوعياً مع “إسرائيل”) من جهة، ومع إيران من جهة أخرى...ولا بد هنا من إضافة عبارة: مع الفارق.
ولا نحيد عن الموضوع إذا ذكرنا من مظاهر الانحلال أن تعلن السلطات العراقية استعدادها أن تدفع تعويضات للعرب الذين يرغبون بمغادرة كركوك، وتحول قرار الكونجرس “غير الملزم” والداعي الى تقسيم العراق على أساس طائفي إلى نبوءة سوء تحقق ذاتها، إذ تعجل في عملية التطهير الطائفي الجارية ما دامت هذه الإمكانية راجحة أمريكياً. فقرار الكونجرس ليس “ثرثرة فوق البوتوماك”، مع الاعتذار من نجيب محفوظ. ونحن لا نحيد عن الموضوع لأن هذه الحالة الرثة هي سياق ضعف العرب لدى دعوتهم لحضور اجتماع دولي لتغطية المسار “الإسرائيلي” الفلسطيني.
أما البعد الأكثر تأثيراً في الاجتماع في حالهم هذا فهو نجاح أمريكا يشاركها جيل جديد من صناع القرار العرب باستقطاب النظام الرسمي العربي إلى مواجهة وصدام يتم في ظلها التعبير أو الصمت عن أهداف مشتركة مع سياسات الولايات المتحدة و”إسرائيل” ضد دول وحركات عربية أخرى. كان صناع القرار العرب القدامى يتجنبون الوصول الى مثل هذا الحال حتى لو تبادلوا الاتهامات الصوتية بالخيانة.
هذا جديد وخطير، وقد يدفع العرب ثمنه غالياً.
والاجتماع الخريفي المرتقب في واشنطن بدعوة من جورج بوش هو جزء من سياسة المواجهة هذه. إنه دائرة العلاقات العامة للمواجهة. فهو يقدم أمريكا و”إسرائيل” كأطراف مهتمة ليس فقط بمصالحها التي اقتضت حروباً، بل أيضا بما يهم العرب، مثل قضية فلسطين. إنه أداة جعل التحالف بين “إسرائيل” و”محور الاعتدال” ضد “محور التطرف” يبدو أمراً طبيعياً، أو تطبيعياً لمن شاء.
ومن مظاهر التردي العربي ليس فقط أن يعقد مؤتمر يتناول ما اعتبر ذات مرة قضية العرب الأساسية في مثل هذا الظرف السياسي العربي، بل أيضاً ما يروَّج عنه عربياً. فتارة يتمايل الإعلام العربي على ألحان أولمرت الذي يخفض سقف التوقعات من الاجتماع إلى بيان مشترك، فيبدو حتى إعلان مبادئ إنجازاً، وطوراً يبدو الطرف الفلسطيني متشدداً ويروج لتشدده التفاوضي في الصحف المؤيدة للاجتماع ولأية تسوية تخلص الجميع من هذا الحرج، ويحول “إسرائيل” إلى دولة عادية (اقرأ: طبيعية!!) في المنطقة. ويبدو بالتالي نداء وزيرة خارجية “إسرائيل” للعرب ألا يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين كأنه تكرار لجمل، وتعرف أن جزءاً من النظام الرسمي العربي يطرب لها وتهز مشاعره... ولا ينقص الحالة العربية إلا توجه “إسرائيلي” للفلسطينيين يطرب له بعض الفلسطينيين ألا يكونوا عرباً أكثر من العرب.
ومما يُروَّج أيضاً مقولة لوزيرة الخارجية من نوع أن “فلسطين سوف تكون وطناً لجميع الفلسطينيين، وخاصة اللاجئين منهم”. والمقولة تعبير عن رفض “إسرائيل” لحل قضية اللاجئين، وأن الكيان الفلسطيني المزمع إقامته على أقل حتى من حدود 1967 الذي تسميه وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” فلسطين، هو حل محزم في رزمة واحدة لكل الفلسطينيين. إنه التصور “الإسرائيلي” له ككيان يجمع أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر بقعة ممكنة من الأرض لفصلهم عن الكيان الصهيوني ليحافظ على يهوديته، وهو لهذا الغرض وطن من لا يقطنون فيه أيضاً. وإذا عاد اللاجئون إليه (وليس إلى ديارهم طبعاً) أم لم يعودوا، فإنهم في الحالتين ليسوا لاجئين بل هم مهجر أو مهاجر تابعة لهذا الكيان. هذا ما تقصده حكومة أولمرت على لسان وزيرة خارجيتها.
ليس هنالك من يتوقع من الاجتماع المرتقب حلاً عادلاً أو منصفاً نسبياً لقضية فلسطين. و”طحن الكلام” حوله يجري بموازاة لطحن غزة وقتل الغزاويين، وهذا بحد ذاته سبب لعدم حضور الاجتماع من قبل أي طرف فلسطيني مهما سال لعابه على أية مكرمة “إسرائيلية”.
أما سوريا فيتم استدراجها لحضور المؤتمر بالادعاء أن السلام غير ممكن دون سوريا. وهو استدراج بنفس وطنية خطاب الجامعة العربية قبل إيفاد الوفود إلى “إسرائيل”، إذ يعرض مجرد دعوة سوريا كإنجاز انتزع من أمريكا. لا يجوز تجاهل الجهود التي تبذل لمحاصرة سوريا ثم الاطمئنان الى جملة مثل أن “السلام غير ممكن دون سوريا”. إنها دعوة لسوريا أن تتخلى عن موقفها بشأن الجولان، وأن تغطي بحضورها حضور دول عربية أخرى لا يوجد سبب في الدنيا يجعلها تحضر، أو أن تقبل بشهادة زور على تسوية غير عادلة لقضية فلسطين.
أما لبنان فلديه أكثر من سبب لرفض حضور المؤتمر حتى لو دعي، لأن لبنان قد تعرض للعدوان والتدمير قبل عام فقط من قبل نفس المعتدي الذي سيحضر المؤتمر. يطلب من لبنان أن يعتبر حكومة “إسرائيل” شريكاً تفاوضياً والقنابل العنقودية ما زالت تنفجر بالأبرياء. إن مجرد التفكير بدعوة لبنان للمؤتمر هو وقاحة