يكثر الجدل، ومنذ سنوات، حول ما يسمى بصراع الحضارات والثقافات، يقابله جدل آخر ونقاش حول ما يسمى بحوار الحضارات والثقافات.. ويبدو أن هذا الجدل سيطول ويطول، وسوف يظل يشكل مادة دسمة في مختلف وسائل الإعلام، وعلى المستويات كافة، وهو في الوقت نفسه يشكل المادة الدسمة نفسها بين المثقفين وقادة الرأي والمهتمين.
يحدثنا التاريخ القريب والبعيد ـ وهو يكون أحياناً خير شاهد ـ وفي مختلف حقبه عما نستطيع أن نسميه صراع الحضارات، ويحدثنا أيضاً عما نستطيع أن نسميه حوار الحضارات وتلاقحها.. وفوق هذا وذاك يحدثنا عن حالات أخرى تشكل استثناءً وهي أكثر تعقيداً وتفرّداً بحيث لا يستطيع أحد أن يميز فيما إذا كانت صراعاً وصداماً أم حواراً وتلاقحاً حضاريين!!. حيث يتماهى المفهومان إلى درجة يصعب الفصل بينهما أو تحديد ملامح إي منهما.
آلاف من السنين مرت في التاريخ البشري ولم يتغير خلالها السياق العام لاتصال الشعوب والأمم فيما بينها، فتارة يأخذ هذا الاتصال شكل الصراع العسكري والسياسي والاقتصادي، وبالتالي يأفل نجم الحوار والتلاقح الثقافي والفكري، وتارة أخرى يأخذ هذا الاتصال شكل التلاقح والحوار الثقافي، مما يؤدي إلى أفول نجم الصراع العسكري أو السياسي أو.. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يكون هناك غياب كامل ومطلق لأحد أشكال الاتصال ـ الصراع والحوار ـ إنما يطغى شكل على الآخر لفترة من الزمن، تطول أو تقصر.. هذا ما يحدثنا التاريخ به.
إذاً، الأمر في حقيقته مرتبط بسيرورة عامة لحياة المجتمعات والأمم وتفاعلها وحراكها السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والفكري.. وبالتالي فإن النقاش والجدل الدائرين حول صراع الحضارات أو حوارها، هو ليس بأمر طارئ ولا جديد، حتى إنه يمكن القول إن هذا النقاش في حد ذاته هو شكل من أشكال الصراع أو الحوار، واستمرارية لسياق تاريخي ونسق ثقافي، لن يتوقف، وهو في الأساس لم يتوقف منذ بزوغ فجر الحضارات والثقافات الأولى في الحياة البشرية.
يبدو صحيحاً القول إن عصرنا الراهن هو عصر يميل إلى منطق التصارع والبطش والقوة الغاشمة وعرض العضلات بين الحضارات، على حساب الحوار والتلاقح الثقافيين، وهذا من سوء حظنا، إلا أن منطق التاريخ والحياة وسيرورتهما وسياقهما العام، يدعونا إلى الاستفادة منهما والاطمئنان قليلاً إلى أن هذا الشكل من أشكال الاتصال بين الحضارات والشعوب ـ الصراع ـ والذي يُفرَض عنوة في كثير من الأحيان، لا بد له من أن يضمحل وتضيق مساحته على حساب صعود الشكل الآخر من الاتصال والتواصل ـ الحوار ـ وهذا سياق تاريخي لا مهرب ولا مفر منه.
الشكلان المذكوران، وعبر التاريخ، هما أشبه ما يكونان بخطين بيانيين، كلما اتجه أحدهما صعوداً، أرغم الآخر على الاتجاه نزولاً، وهكذا..
ليست هذه دعوة للقبول بالأمر الواقع والانصياع والرضوخ له، إنما هي محاولة لتوصيف هذه المرحلة وإشكاليتها الأساسية حول صراع الحضارات وحوارها، من أجل وضعها في سياقها التاريخي الصحيح، وهذا ما يمكّننا من التعامل معها كظاهرة طبيعية، غير وافدة، غير طارئة وغير مخيفة..
الصراع والحوار بين الحضارات، كان وسيبقى، ما دام هناك مجتمعات وشعوب لكل منها خصوصيتها وتاريخها وتجربتها وموروثها الثقافي. والأجيال المقبلة لا شك أنها ستشهد وتواجه الإشكالية نفسها لأنها مرتبطة أساساً بالتنوع الثقافي والفكري.. وهي ستظل قائمة حتى زوال المسبب ـ التنوع ـ وهذه مسألة ما تزال بعيدة جداً على المدى المنظور.