سألني سياسي فرنسي سيزور بيروت هذا الأسبوع، في إطار لملمة آراء لمتابعين لبنانيين، مجموعة من الأسئلة وعادة ما تكون هذه الأسئلة مطروحة للتحليل والتدقيق في الأروقة والأقبية الفرنسية كما أن مجرد طرحها يفيد السائل والمسؤول.
كثيرة هي الأسئلة المثيرة التي يطرحها السياسيون الفرنسيون المعنيون بالشأن اللبناني والشرق أوسطي وبعضهم ينقل أسئلة مطروحة من خارج فرنسا، لكن ما أثار فضولي، عدد محدود منها يأتي في طليعتها السؤال التالي بالحرف الواحد: هل ستقبل المعارضة والجنرال عون بأن يكون الجنرال ميشال عون رئيساً للبنان والتخلي عن شروطها بالثلث المعطل أو الضامن أو....؟ وبدا لي أن هذا السياسي الفرنسي، المرموق جداً والذي يعتبر أحد أهم أصدقاء لبنان والمتخصص بشؤونه في (الإدارة) الفرنسية، لم يعرف بعد الأزمة اللبنانية الحالية، فسألته أولا هل المطروح أميركيا وفرنسيا أن تقبلوا بالجنرال عون؟ فأجاب لم لا إذا توافق عليه اللبنانيون
فقلت له هذا الكلام لا يتفق مع عدد من المواقف التي اتخذتموها سابقا في ظروف مشابهة، أولا عندما أجمع اللبنانيون على المقاومة اعتبرتموها منظمة إرهابية ومنعتم وسائل إعلامها وانحنيتم أمام التفسير الإسرائيلي. وثانيا عندما فازت حماس بأغلبية أصوات الفلسطينيين رفضتم الديمقراطية الفلسطينية وشرعية الحكومة المنبثقة عنها وتبنيتم التفسير الإسرائيلي للديمقراطية وتخليتم عن التفسير الغربي للديمقراطية حرصا على مصلحة إسرائيل. ولا أعتقد يا سعادة.... أن حكومتكم ستقبل بإجماع اللبنانيين ولا برأي أكثرية اللبنانيين إذا تعارض ذلك مع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، هذا من وجهة نظر استراتيجية أما من وجهة نظر تفصيلية فأرجو أن تنقل بدقة التفسير التالي لرفض المعارضة اللبنانية والجنرال ميشال عون وصول صديقهم وحليفهم إلى الرئاسة كيفما اتفق. فالمشكلة ليست من يكون الرئيس في لبنان بل كيف هذا الرئيس في ظل الضبابية الحالية في الموقف وهنا أستطيع أن أجيبك أن الجنرال عون نفسه لن يقبل بالرئاسة في ظل الوضع اللادستوري واللاوفاقي الحالي وكذلك سياسة الاستقواء بالخارج وبالقرارات الدولية التي أصبحت كالثياب الجاهزة وتحت الطلب وكما يقال باللهجة اللبنانية المحلية (غب الطلب) وهل سيكون حاكما أو محكوما وهل، على الأقل، سيكون شريكا في الحكم وبالتالي فلن يقبل أن يوقع على حكم بفشل قائد الجيش الجنرال ميشال سليمان المحتوم أمام تركيبة سلطة لا ضمانات فيها؟.
عجب المسؤول السياسي الفرنسي من وجهة النظر هذه وقال إن التقارير التي وردته من (إدارته) لم تكن واضحة بهذا الشأن وإنها عزت الأزمة إلى عناد الجنرال عون والضغوط السورية على حلفائها في لبنان وتابع استفساراته (البريئة جدا) وكيف يمكن أن نرضي سورية ونقنعها بعدم التدخل في لبنان وتعقيد الأزمة؟ وهنا بدا لي محاوري أنه بالفعل واقع تحت تأثير التجهيل السياسي الذي تمارسه الإدارة والإعلام الفرنسيان مترافقين بالخطاب السياسي الإسرائيلي وفروعه في لبنان والبلاد العربية، تجهيل يعتمد بشكل أساسي على تكرار عبارات ومصطلحات وتغييب حقائق والإحالة دائماً إلى مجهول وقتل الشاهد أو تصنيع وفبركة شهود ومجموعة كبيرة من الأدوات والآليات لسنا في مجال معالجتها، لكن محاوري استمع مليا إلى وجهة نظري، حيث إن بعض القيادات اللبنانية ترفض مجرد الاستماع لها، وقلت لمحدثي أولا إن هذا السؤال يجرني إلى سؤالك ما إذا كانت حكومتك تريد من سورية أن تتدخل أو أنها تريد وقف تدخلها، فإذا كانت ترى أن التدخل السوري مفيد لحل الأزمة فلماذا لا تطلبون من سورية ذلك صراحة وتطلبون ممن يرفض التدخل السوري الرجوع عن موقفه وتعالجون الأمر على هذا المستوى، لماذا لا تواجهون الحقيقة كما هي وكما ترونها.
وإذا كنتم تريدون من سورية أن لا تتدخل فما عليكم إلا أن تحددوا بالوقائع ماذا تفعل سورية في لبنان وشكل وأدوات وآليات تدخلها ويكون الكل على بينة ولا تبقى الأمور بهذه الضبابية التي تنعكس سلبا على كل الشؤون في لبنان وخارجه، كما أن هذا الأمر يجب أن ينسحب على جميع من لهم تدخلات مالية واقتصادية وسياسية وأمنية في لبنان من عرب وغربيين وإسرائيليين أوليس كذلك؟ المسؤول الفرنسي بدا أنه ارتبك وارتبك كثيراً عندما سمع سؤالا حول حقيقة ما تريده فرنسا وهل صحيح أن مشكلتها مع سورية هي الملف اللبناني وهل صحيح أن الولايات المتحدة قد اختارت التضحية بسورية من أجل لبنان؟ لا بد من محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة ومساعدة اللبنانيين على تخطي هذه المرحلة الضبابية.
فالخلاف حول ضرورة تدخل سورية في لبنان أو وقف تدخلها بالشأن اللبناني ليس سوى سؤال سممت به الإدارة الأميركية المائدة السياسية اللبنانية فالخلاف بين سورية والولايات المتحدة ليس لبنان كما ليس العراق وليس فلسطين فالإدارة الأميركية تعرف تماما الواقع السياسي- الجغرافي- التاريخي- الاقتصادي- الاجتماعي- العملاني بين سورية والعراق وفلسطين وليست غبية، رغم بنيتها الإجرامية، إلى حد طلب فصل هذه العوامل وتفكيك المعادلة التاريخية لا من سورية ولا من غيرها فالمشكلة أساسا هي مع سورية وليس مع نظامها السياسي بالتأكيد، فالنظام السياسي في سورية مسألة تعني السوريين، بل مع نسيجها الإيديولوجي العام، نسيج لم يسمح لمشروع المحافظين الجدد أن يتغلغل فيه من الخارج فلجأت إلى هذه الذرائع وإلى بعض اللبنانيين الذين ارتضوا أن يكونوا بيادق هذا المشروع بوعي أو بغير وعي.
والمسؤول الفرنسي يعرف أيضاً وقد عايش عن قرب مراحل الانقلاب الفرنسي في عهد شيراك والقطيعة في عهد ساركوزي ويعرف أن محاولات شيراك ممارسة براغماتية مرضية أوقعت فرنسا بفخ الإدارة الأميركية. وانتهت به إلى السكن في منزل الابن الأصغر للراحل رفيق الحريري والأشهر الستة الأولى للرئيس ساركوزي ومحاولته ممارسة سياسة القطيعة أوصلت وزير خارجيته لاتهامه بإفشال مبادرته في بيروت.
لكن الرهان الحقيقي في فرنسا اليوم، ليس على زوجة الرئيس الجديدة كارلا بروني وصورها العارية، بل على براغماتية الرئيس وجموحه السياسي للإجابة عن الأسئلة بواقعية.