للحظة تصدمنا الأرقام التي تكشف واقع الحال سواء بالتعداد السكاني، أو بحجم الأزمة التي يمكن أن تواجهنا، أو نواجه بها أرقنا السياسي. فعندما نتحدث عن ستة ملايين ونصف يعيشون في إطار محافظة دمشق، وأن اكثر من نصف هذا الرقم يعيشون في السكن العشوائي، فأمام مثل هذه الأرقام نتوقف عن حدود السياسة لندخل المجال الحقيقي الذي نعايشه، وربما يشكل مجال المستقبل، فالمسألة تبدو مرتبطة بلون الغد الذي لا يحمل فقط مؤشرات الشرق الأوسط الرمادي، بل أيضا مدن الشرق التي انتقلت من "السحر" إلى "مساحة المجهول".
وعندما تذهلنا الأرقام فليس لأننا لا نشعر بهذا الضغط البيئي الهائل، بل لأن الحياة فوق المدن تتسرب بشكل سريع بينما يحاصرنا الحدث السياسي، وهي تعيدنا أيضا لجملة الجدل القائم منذ أكثر من نصف قرن حول ثقافة "تحديد النسل" أو المجال البيئي الذي يستنفذنا أو نتراخى فوقه لدرجة الإخفاق في التعامل معه بشكل جدي. وما بين السياسة وقضايا البيئة يظهر أن العمل العام يكتفي بالشعار السياسي، مفترضا أنه قادر على إزاحة الستار عن الأزمات، ومتجاهلا بأن "الشعار" بذاته هو جزء من الأزمة لأنه لم يكن قادرا على التواصل مع التراكم الضاغط على حياة المواطن، بدء من الأزمات البيئية وانتهاء بمعدلات الفقر التي ترتفع بشكل يلاحق النمو السكاني ... وربما يتجاوزه.
أزمتنا اليوم بين السياسة والمجتمع أننا "مجبرون" على العيش في المدن الكبرى، ولم يعد بالإمكان التراجع عن طبيعة الكتلة السكانية وضرورات الحياة داخل المدن الضخمة أو المتضخمة ... لكننا في النهاية مازلنا نملك حلم السياسة من الخمسينات ... عندما كانت السياسة كافية لمجاملة رواد المقاهي والنخب المثقفة، وعندما كان "الإعلام الجماهيري" قادر على المخاطبة والتخاطب دون مزاحمة "الضغط الحياتي" ولا حتى الأرقام المرعبة للتطور الكيفي في الواقع السكاني .... لم يتطور العمل العام إلا في الاتجاه السياسي ... لم يظهر العمل المدني كنوع تعاوني لا بد منه كي يستطيع المجتمع الحفاظ على نفسه وبيئته ... ولا نملك اليوم سوى "المفاتيح" الديمقراطية، بينما نجهل حقيقة ما يمكن أن نواجهه وراء الأبواب المغلقة ... تطورت الرؤية السياسية وهذا أمر لا نستطيع تجاهله ... تنامت الاحتياجات السياسية ... لكن فهمنا للحياة العامة ... المدنية .... تقف في مرحلة ما قبل السياسة.