الكاتب : قسم الأبحاث والدراسات في (سورية الغد)
مقدمة لا بد منها:
يُحسب للعام العربي الممتد من آذار 2008 إلى ما قبل نهاية آذار 2009 أنه عامُ القممٍ العربية بامتياز، التي فرقت العرب بدل أن تجمعهم، وباعدتهم بدل أن تقربهم، وزرعت بينهم بذور الشقاق والخلاف بدل تعزيز مشاعر الأخوة والوئام.
فبعد أن كانت أسباب الخلافات بين الدول العربية تعود لتباين مواقف هذه الدول إزاء هذه القضية أو تلك، امتدت هذه الأسباب لتسيطر على قرار زعيم عربي ما بشأن حضور أو عدم حضور اجتماع قمة عربية سواء كانت عادية أو طارئة، تُعقد بينما التحديات والتهديدات تكشر عن أنيابها لمجموع العالم العربي دون أن تستثني منه أحداً.
بذور هذا الخلاف بدأت مع قمة دمشق آذار 2008 التي أظهرت مواقف بعض الدول العربية على حقيقتها، حين ربطت حضورها اجتماع قمة عادي بتوقيته، لكنه طارئ بما يشهده العالم العربي من مخاطر، ربطت هذا الحضور بمسائل تبدو هامشية (انتخاب رئيس في لبنان) إذا ما قيست بتلك المخاطر.
وبدل أن تكون قمة دمشق عامل تقارب بين الزعماء العرب ومناسبة لتصالحهم، جعل البعض منها وجهاً من أوجه الضغوط على سورية لحملها على اتخاذ مواقف تتنافى مع سياستها وقناعتها.
استحكام الخلافات العربية والتباين في المواقف الذي أصبح بمرور الأيام تبايناً شديداً ظهر بوضوح في قمة غزة الطارئة في الدوحة في 16 كانون الثاني الماضي وترك آثره على تحضيرات القمة.
فبسبب مواقف السعودية ومصر إزاء التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على غزة الذي بدأ في 27 كانون الأول واستمر 23 يوماً، والتباين الشديد بين هذه المواقف ومواقف الدول العربية الأخرى (سورية، قطر، السودان)، كان لا بد لقمة الدوحة التي دعت إليها سورية بصفتها رئيسة القمة العربية وأبدت قطر استعدادها لاستضافتها، من أن تواجه الكثير من العقبات التي وصلت بالسعودية ومصر حد السعي الحثيث لمنع انعقادها بشتى الوسائل والتي كان أحدها العمل على منع تأمين النصاب اللازم لإلتئامها (حضور 15 من أصل 22 دولة عربية).
في أحد مقابلاته التلفزيونية، تباهى وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط علناً وبشكل مباشر لا لبس فيه بمثل هذه المساعي التي قامت بها بلاده، وقبل انعقاد قمة غزة الطارئة في الدوحة بيومين، اتهم نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جبر آل ثاني الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بإخفاء أسماء بعض الدول والعدد الحقيقي للدول التي أعلنت موافقتها على حضور قمة غزة في الدوحة كي لا يكون الأمر عاملاً مشجعاً لبقية الدول لإعلان حضورها ومشاركتها، وبالتالي تأمين مشاركة عربية واسعة في القمة، كما كشف المسؤول القطري النقاب عن كلام قاله له الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتعلق بخشيته من المشاركة في القمة "لأني حينها سأذبح من الوريد إلى الوريد" في إشارة إلى الضغوط الممارسة على عباس للامتناع عن الحضور.
وبذلك تكون مواقف بعض العرب من حضور قمة غزة عاملاً إضافياً للشقاق العربي، الذي شكل تحدياً كبيراً أمام قمة الكويت الاقتصادية التي انعقدت بعد قمة الدوحة بثلاثة أيام وهذه المرة بحضور عري رفيع المستوى ومشاركة واسعة.
برغم علاقة الكويت الجيدة مع جميع الأطراف العربية، وبرغم الجهود التي بذلها أميرها الشيخ صباح الأحمد لجمع الصف العربي، وبرغم الاجتماع الذي انعقد على هامش القمة وضم زعماء السعودية ومصر وسورية وقطر والأردن والكويت، فإن المصالحة العربية في جوهرها لم تتحقق، وبقيت مصالحة مصافحات فقط، ودليل ذلك الخلاف الذي ظهر اليوم التالي بين الوزراء العرب أثناء اجتماعهم لصياغة البيان الختامي للقمة وما أدى إليه من انسحاب وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل من الاجتماع.
مع ذلك فإن قمة الكويت كانت نقطة البداية الهامة على طريق المصالحة العربية الطويل والذي يمهد بشكل واضح لإنجاح القمة العربية المرتقبة في الدوحة في الثلاثين من آذار الجاري بما تشكله من استحقاق مفصلي في جهود المصالحة العربية.
حين تنعقد قمةٌ عربيةٌ (بمن حضر): قمةُ دمشقَ نموذجاً
رغم أن عددها وصل إلى 19، ورغم أن غالبية القمم العربية التي انعقدت (وخاصة الطارئة منها) رافقها الكثير من الشد والجذب، والأخذ والرد، إلا أن القمة العربية العشرين التي استضافتها دمشق في آذار الماضي كانت (فريدة) في كل شيء.
(فريدة) في الانقسام العربي الذي انعقدت في خضمه والذي ضربت أطنابُه في الساحة العربية فصدَّعتها وجعلتها على حافة الانهيار والتفتت.
(فريدة) في أن محاولات منع انعقادها وإفشالها لم تأتي من الغرب وإنما من قبل بعض العرب أنفسهم.
وفي أنها بدل أن تكون ساحة لتلاقي العرب وتشاورهم لحل خلافاتهم، أرادت لها بعض الدول أن تجعل منها سبباً لمزيد من الخلاف والشقاق مع سورية التي أسمت قمتها: قمة دمشق ـ قمة التضامن العربي والعمل العربي المشترك.
(فريدة) في الشروط التي وضعتها دول عربية كي ترفع من مستوى تمثيلها ومشاركتها فيها، وفي ذهاب الدولة المستضيفة "سورية" حتى النهاية في التأكيد على أن القمة ستنعقد (بمن حضر) وأن مجرد انعقادها في مكانها وتوقيتها المحددين هو نجاح كبير يُحسَبُ لها مقارنة بما تعرضت له سورية وقمتها من ضغوط وابتزاز ومقارنة بالأزمات الكبيرة التي يمر بها الوضع العربي ككل.
رغم كل الكلام الذي قيل من هنا أو هناك حول إمكانية تأجيل موعد انعقاد القمة لحين تحسن الأوضاع في العلاقات العربية أو نقل مكان انعقاد القمة من دمشق إلى مقر الجامعة العربية في القاهرة فإن سورية أصرت على انعقاد القمة في زمانها ومكانها المعينين و(بمن حضر).
(بمن حضر): عبارةٌ أصبحت ملاصقة لقمة دمشق كلما تطرق الحديث في وسائل الإعلام (وربما بين السياسيين أنفسهم) إلى مستوى الحضور السعودي والمصري في القمة، وإلى مدى استجابة دمشق لشروط القاهرة والرياض (وابتزازهما) في ذلك الحين مقابل رفع مستوى تمثيلهما في القمة وتأمين حضور العاهل السعودي والرئيس المصري.
لم يهيمن على تحضيرات قمة دمشق الهاجس الفلسطيني المفترض أنه القضية المركزية للعرب منذ ستين عاماً، ولا الوضع في العراق الواقع تحت الاحتلال الأميركي منذ خمس سنوات والمهدد بحرب أهلية، ولا عملية السلام المتعثرة التي لم تجلب السلام رغم أنها بدأت قبل 18 عاماً، ولا الحروب الاستباقية للإدارة الأميركية (في حينه) ولا مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولا الأزمات المقيمة في العالم العربي من السودان إلى الصومال إلى تدهور العلاقات العربية....الخ.
التمثيل العربي في القمة:
كل ذلك لم يكن له مكان في تفكير واستراتيجية عدد من القادة العرب، فقد سيطر على أجواء التحضير للقمة، وحتى على أجواء انعقادها، الخلاف بين سورية من جهة، ومصر والسعودية من جهة أخرى بسبب الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وسعت الرياض والقاهرة لابتزاز دمشق عبر ربط تمثيلهما الرفيع في القمة بإنجاز انتخاب رئيس لبناني جديد خلفاً للرئيس المنتهية ولايته إيميل لحود، في حين أكدت سورية أن القمة ستنعقد "بمن حضر" بغض النظر عن مستوى التمثيل وعن الوضع الداخلي في لبنان، على اعتبار أن الاستحقاق الرئاسي اللبناني شأن داخلي لن تتدخل به بأي شكل من الأشكال.
البعض وضع مشاركته في القمة في كفة، وانتخاب رئيس جديد للبنان في الكفة الأخرى.
رفضت دمشق مثل هذه "المقايضة" ورفضت التعامل مع الأمر بعقلية الصفقة: بمعنى تسهيل انتخاب رئيس هناك كرمى لمجيء هذا الزعيم أو ذاك لحضور القمة، التي رأت سورية في انعقادها مناسبة هامة جداً لرأب الصدع الذي يعتري الساحة العربية، ولتدارس أفضل السبل لمساعدة الفرقاء في لبنان على تجاوز الأزمة الدستورية التي تعصف ببلدهم.
قبل بدء القمة بأكثر من شهر، بدأت مختلف وسائل الإعلام القريبة من السعودية ومصر بتسريبات تتحدث عن أن استمرار الفراغ الدستوري في لبنان سيرخي بظلاله على أجواء قمة دمشق، ومع مرور الأيام صار الحديث في هذا الشأن يتم بشكل مباشر أكثر، وصار طبيعياً لدى البعض القول إنه لن يحضر قمة دمشق طالما بقي قصر بعبدا شاغراً.
وفي القمة، جاء التمثيل السعودي على مستوى سفير فقط، والتمثيل المصري اقتصر على أحد وزراء الحكومة.
الملف اللبناني بكل تداعياته وتناقضاته وأزماته انعكس أيضاً على المشاركة اللبنانية في قمة دمشق، فرغم توجيه دعوة رسمية للحكومة اللبنانية (برئاسة فؤاد السنيورة والمشكلة من قوى 14 شباط) للمشاركة، بقي مقعد لبنان شاغراً دون أي تمثيل، وبذلك خسر لبنان (فرصة ذهبية)، بحسب تعبير وزير الخارجية وليد المعلم، كان من الممكن أن يناقش عبرها الأوضاع التي مرَّ بها في حينه.
لكن المفاجأة جاءت من حيث لم يتوقعها أحد، من الأردن الذي انخرط وتماهى مع السياسية السعودية والمصرية على حساب سيادته واستقلال سياسته، وإلا فكيف نفسر مشاركة وزير خارجيته في الاجتماع الوزاري الذي سبق انعقاد القمة بيومين ثم تخفيض التمثيل الأردني واقتصاره على مرتبة سفير في اجتماعات القمة!!!
رغم كل ذلك، نجحت الدبلوماسية السورية في حشد تمثيل رفيع المستوى من بقية الدول، فشارك رؤوساء الإمارات والسودان وتونس والجزائر وليبيا والسلطة الفلسطينية وموريتانيا وجزر القمر وجيبوتي، وأميرا الكويت وقطر، وملك البحرين، ونائبا الرئيس في كل من العراق واليمن، وشقيق الملك المغربي، ونائب رئيس الوزراء العماني.
في مثل هذه الأجواء والتي رافقتها زيارة مفاجأة لوزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس لعدد من دول المنطقة المصنفين (حلفاء للولايات المتحدة)، كان من الطبيعي أن تتكثف الدبلوماسية السورية لتحقيق الحد الأدنى من التضامن العربي الذي أصابه الوهن والضعف ، وكانت قمة دمشق محاولة سورية جادة لتفعيل العمل العربي المشترك بعدما اعترته الخلافات من كل حدب وصوب.
الرئيس الأسد في افتتاح قمة دمشق:
عكست كلمة الرئيس بشار الأسد في افتتاح القمة موقفاً مسؤولاً، تسامى به عن مشاعره الشخصية والخلافات العربية لصالح المصلحة القومية العليا، فكانت بذلك خطاباً لرئيس القمة العربية يعكس حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، كما آثر الرئيس الأسد عدم التطرق أبداً لما عانته سورية من ضغوط عربية ومحاولات ابتزاز تتعلق بحضور القمة ورفع مستوى تمثيل هذه الدولة أو تلك فيها.
لم يكن في كلام الرئيس الأسد، كعادته، شيء من المهاترات والمزاودات وتوجيه الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك، ولم يتطرق أبداً لمساعٍ ظهرت هناك وهناك بهدف عرقلة إنجاح القمة، بل إنه شدد في كلمته على أهمية تعزيز التضامن العربي وتنسيق العمل العربي المشترك في مواجهة التحديات الماثلة أمام الأمة العربية، وأنه "لا بديل" عنهما وخاصة "أننا لم نعد على حافة الخطر بل في قلبه (...) ونعيش جملة من التحديات التي تهدد تماسك بنياننا الداخلي وتجعل من بعض أقطارنا العربية ساحات مفتوحة لصراع الآخرين عبر الصراع بين أبنائه.. أو هدفا للعدوان والقتل والتدمير من قبل أعدائنا".
أما الملف اللبناني الذي كان سبباً في تغيب البعض عن المشاركة في قمة دمشق، فكان حاضراً في كلمة الرئيس الأسد، الذي جدد حرص سورية على استقلال وسيادة لبنان، وأعرب عن القلق "للأوضاع التي يمر بها والانقسام الداخلي الذي يحول حتى الآن دون الاتفاق على قواسم وطنية مشتركة".
وكان لافتاً أن الرئيس الأسد تطرق إلى ما يُقال عن "التدخل السوري في لبنان.. والدعوات والبيانات والضغوطات لإيقافه" ونفى وجود أي تدخل سوري في شؤون لبنان الداخلية، وقال : "إن الضغوطات التي مورست وتمارس على سورية منذ أكثر من عام وبشكل أكثر كثافة وتواتراً منذ عدة أشهر.. هي من أجل أن تقوم سورية بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان. وكان جوابنا واضحاً (...) أن مفتاح الحل بيد اللبنانيين أنفسهم.. لهم وطنهم ومؤسساتهم ودستورهم ويمتلكون الوعي اللازم للقيام بذلك.. وأي دور آخر هو دور مساعد لهم وليس بديلاً عنهم".
إعلان دمشق:
قمة دمشق نجحت في ختام أعمالها بإصدار (إعلان دمشق) حول التضامن العربي والأمن القومي العربي وتفعيل آليات العمل العربي المشترك الذي اتفق عليه القادة العرب ومما جاء فيه أن القادة أكدوا عزمهم على الالتزام "بتعزيز التضامن العربي وتنفيذ قرارات القمم العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك.. وتعزيز دور جامعة الدول العربية بما يمكنها من تحقيق الأهداف التي تصبو إليها الأمة العربية.. ودعم الخطوات التي اتخذت في إطارها لتطوير منظومة العمل العربي، والعمل على تجاوز الخلافات العربية من خلال الحوار الجاد والمتعمق وتلافي أوجه القصور في بعض جوانب عملنا العربي المشترك، وتغليب المصالح العليا للأمة العربية على أي خلافات أو نزاعات قد تنشأ بين أي من بلداننا العربية والتصدي بحزم وحسم لأي تدخلات خارجية تهدف إلى زيادة الخلافات العربية وتأجيجها، والوقوف معاً في وجه الحملات والضغوط السياسية والاقتصادية التي تفرضها بعض الدول على أي من دولنا العربية واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد هذه الحملات والضغوط، وتوحيد الموقف العربي إزاء مختلف القضايا".
لو أنهم حضروا !!
بحسب آراء العديد من المتابعين، فإن سورية خرجت من قمة دمشق أقوى مما كانت عليه قبل القمة من الناحية السياسية والدبلوماسية، فبمجرد انعقاد القمة تخلصت سورية من عبء كان يشكل ضغطاً وابتزازاً لها عبر ربط المشاركة بالقمة بانتخاب رئيس للبنان، وأثبتت سورية مجدداً أنها لا تخضع للتهويل والتخويف، وأسقطت كل الرهانات على تغيير مبادئها والتخلي عن ثوابتها.
وبينما نجحت دمشق في عقد قمتها، بقي لبنان شهرين إضافيين بعد القمة دون رئيس، ولم تستطع مصر أو السعودية فعل شيء إزاء ذلك.
بعد عام كامل على قمة دمشق، ما زالت الجهود تبذل لإنجاز مصالحة عربية حقيقية وكاملة، يعتقد الكثير من المراقبين أنه لو حضر العاهل السعودي والرئيس المصري القمة التي انعقدت قبل عام من الآن لكانت العلاقات العربية الآن في أحسن حالاتها أو على الأقل في أحسن من الوضع الذي تمر به الآن، وكان زعيما مصر والسعودية وفرا على العرب عاماً كاملاً من الخلاف والشقاق والتدهور والتصدع في المشهد السياسي العربي، وكانا فتحا الباب على مصراعيه أمام المصالحة الفلسطينية الداخلية التي تنشدها حركتا فتح وحماس عبر حوارهما الجاري في القاهرة الآن.
يذهب المحللون حداً أبعد من ذلك فيقولون: لو أن المصالحة العربية جرت في قمة دمشق ما كانت إسرائيل تجرأت على شن عدوان همجي على قطاع غزة مثلما فعلت نهاية كانون الأول الماضي على مدى اثنين وعشرين يوماً أحرقت خلالهم الأخضر واليابس، وقتلت البشر ودمرت الحجر.