نبيل فياض

في كتابنا الذي صادرته الأجهزة عام 1994، يوم انحدر الجمل من السقيفة، تحدثنا عن حالة المجتمع الإسرائيلي التي تمثّل " النقيض الحقيقي " لحالة المجتمع السوري. في مقدمة إحدى طبعات الكتب الكثيرة، قلنا ما يلي:

" مقدمة : طلائع الغزو الثقافي

حين يقف « زبولون هامر »(1) قرب « يوفال نئمان »(2)، ويقول: « أنا يهودي مؤمن، وهذا يهودي ملحد » - نُصَاب بالدهشة: هل يعقل أن يكون المرء يهودياً وملحداً في آن؟! فاليهودية مصطلح يدلّ على دين بعينه، والإلحاد مصطلح يشير إلى نفي كل الأديان - بل إلى نفي علّة الأديان ذاتها: الإله. إذاً ماذا يقصد زبولون هامر من قوله هذا؟ اليهودية عنده خرجت من ثوبها الديني وانتحلت الصفة القومية؛ وبذلك فهي تشمل الملحد والمؤمن على حد سواء. وفي الإطار ذاته يمكن أن نفهم سبب إصرار اسحق رابين في اتفاقه مع ياسر عرفات على اعتبار اليهودية هوية قومية. - لكن: لماذا يختار هؤلاء الدين كهوية قومية؟! لأنه ما من شيء يجمع هذا المزيج المتنافر « المتفجّر » من الجماعات ذات الأصل اليهودي [بينهم كثيرون ليسوا يهوداً أصلاً، كالذين جاءوا من روسيا غورباتشوف وبعض الهنود الحمر من البيرو] المنتمية إلى عدد كبير من الأعراق والألسن والقوميات سوى الدين؛ فالدين هنا عامل مجمّع، موحّد؛ لذلك لا يمانع زبولون هامر أن يكون يوفال نئمان يهودياً ملحداً ما دام لا شيء يمكنه أن يجمع الأول بالثاني سوى « هذه اليهودية ».

 لكن: هل استطاعت « هذه اليهودية » لمّ شتات هذا المزيج المتنافر المتفجّر؟ ظاهرياً: نعم. والسبب، على الأرجح، تضامن هذا المزيج لمواجهة أعدائه على الحدود. فحالة السلم تبدو بالتالي قاتلة. وهم يعرفون ذلك. وقد أظهرت حوادث « بسيطة » ذات مغزى عميق مدى هشاشة هذا التضامن وقابليته للانفجار. ففي الثمانينات، مثلاً، تحدّث شمعون بيريز واسحق نافون عن حرب ثقافات محتملة في إسرائيل بعد الصدامات التي حدثت بين الأرثوذكس وجماعات نوادي العراة، خاصة في تل أبيب؛ ومؤخراً، حديث الحاخام اليعزر شاخ « غير المهذب » عن تخلّف اليهود الشرقيين ورفض وجودهم في واجهة السلطة؛ إضافة إلى الحصار المفروض على الحزب اليهودي الشرقي الوحيد، « شاس » - والتشهير بقادته.

ماذا تفعل إسرائيل كي تضمن وجودها في حالة السلم؟ تفتّت المنطقة، ومؤخراً تحدّث اسحق رابين عن علاقات مستقبلية مع أربع وعشرين دولة عربية، قبل انضمام « جزر القمر ». - كيف؟‍ إنه الغزو الثقافي الإسرائيلي الأخطر بما لا يقارن من الغزو العسكري، والذي ظهرت طلائعه مع بداية مفاوضات السلام في مدريد. « سلاح الكتاب والكاسيت أخطر من المدافع والطائرة ».

قومية واحدة ومذاهب متعدّدة:

باستثناء أقليات صغيرة لا شأن لها، فنحن ننتمي إلى أمة واحدة، ونتكلم لغة واحدة، وكان لنا تاريخ مشترك واحد تقريباً، كذلك فنحن نعاني اليوم من مشاكل متشابهة، واحدة. لكن هذه الأمة « الموحّدة » قومياً، تحتوي أديان ومذاهب « مختلفة » نشأت كلها هنا، وهي تشكّل غنى حقيقياً إذا أحسن توجيهها، وتكون مزيجاً انفجارياً إذا لعب بها الطامعون. باختصار: حالتنا تعاكس تماماً الحالة الإسرائيلية - ما يوحّد هنا، يفجر هناك، وبالعكس. لذلك تسعى إسرائيل باستمرار إلى إضعاف خط المواجهة عن طريق اللعب بالورقة الطائفية عبر عملائها المنتشرين في المنطقة، والذين لم يعد خافياً على أحد عمق ارتباطهم بالمشروع « الأميركي - الإسرائيلي » لتفتيت المنطقة. ويمكن تقسيم هؤلاء إلى نوعين:

1 - الجماعات « الصهيو - أميركية » المشبوهة، والتي لم تعد تخفي نوعية علاقاتها بعد حرب الخليج(3) وهي مؤلفة أساساً من:

آ - الوهابيون.

ب - الأخوان المسلمون.

جـ - تنظيمات الإرهاب المتستر بالدين، وهؤلاء خرجوا أصلاً عن عباءة الأخوان المسلمين وتتبناهم الآن، مادياً ومعنوياً، الوهابية.

2 - بعض الأقليات الغريبة المتأسلمة التي تعيش في بلادنا.

1 - آ - الوهابيون:

نشأت الحركة الوهابية في جزيرة العرب في القرن الثامن عشر، في بيئة « بدوية - بدائية » متزمتة منعزلة، حين كان الاستعمار التركي العثماني يحتل منابع الفكر في الشرق ويحرم جزيرة العرب بالتالي من مواردها الفكرية شبه الوحيدة. مع ذلك، فحين احتكّت هذه الحركة بالفكر الآخر، إسلامياً كان أم غير إسلامي، ازدادت ارتكاساً وانغلاقاً على الذات، محيطة نفسها وأعضائها بأسلاك تكفير الآخر الشوكية، خوفاً من السقوط الذاتي فكرياً، عند أول مقارنة بالفكر الآخر. وقد دافعت بريطانيا في بادئ الأمر عن هذه الحركة إلى درجة التبنّي، ثم ورثتها عنها الولايات المتحدة، وكان لذلك أسباب عديدة، أهمها:

1 - الوهابية تفرغ الإسلام من كل جوهر وتجعل منه ديناً قشورياً مظهرياً لا همّ له سوى التوافه، وتجعل من المسلم الوهابي شخصاً منغلقاً على ذاته بقوقعة تكفير الآخر، مرتبطاً بموجهيه إلى درجة الاستلاب. الأمر الذي يعني سهولة السيطرة على المنطقة حين يرتبط هؤلاء الموجهون بالقوى الراغبة في تلك السيطرة مباشرة.

2 - الوهابية تلهي بسخافاتها الناس عن ارتباطات القادة الوهابيين ونهبهم - وساداتهم - ثروات المنطقة وفضائحهم السياسية والمادية وحتى الأخلاقية التي تملأ يومياً أعمدة الصحف في الشرق والغرب.

3 - نقل الصراع الخارجي نحو الداخل. فمن يطالع أدبيات الوهابيين عموماً لا يجد أدنى إشارة أو تركيز على معركتنا الحضارية مع إسرائيل والغرب بل الإلحاح المتواصل العنيف على الصراعات المذهبية الداخلية التي تفتت المنطقة من الداخل وتتيح لإسرائيل والغرب بالتالي فرصة نادرة ذهبية لترسيخ الأقدام فيها.

من هنا، لن نستغرب إطلاقاً إذا وجدنا الولايات المتحدة تحتل اليوم الخليج العربي « فعلياً ». ففي ندوة عقدت في أمستردام حول «الإسلام والتدخل الأممي»، ذُكِرَ أن « عدد القوات الأميركية انخفض في كافة أرجاء العالم بمقدار 18% إلا في دول الخليج العربي حيث ازداد بين 25 - 30%. وذكر قائد تلك القوات أيضاً، أنه لم يعد يتعيّن على القيادة الأمريكية إخطار المملكة العربية السعودية إذا ما أرادت السفن الأميركية أن ترسو في جدة »(4). من ناحية أخرى، فإن من يتابع الإعلام الوهابي، وهو أوّل إعلام عربي (؟!) « غير مصري » يجري مقابلات مع اسحق رابين وشمعون بيريز ويطالب برفع المقاطعة العربية عن إسرائيل دون قيد أو شرط، يكتشف مدى سيطرة وكالة المخابرات المركزية الأميركية على مقدّرات أمور هؤلاء، وهو ما يظهر جلياً في الأسلوب الإعلامي ذي الطابع « المخابراتي - الأميركي »: الموضوعية الأميركية المدروسة المزيفة - أنصاف الحقائق، أخبار دقيقة مبتورة، حيادية ظاهرية هي الإغراض بعينه؛ كم كبير من الأسماء المشبوهة، من الغرب والشرق.

1 - ب - الأخوان المسلمون:

وهم أقل خطراً من الوهابية بسبب الإمكانيات المادية الهائلة الموضوعة تحت تصرّف الوهابيين. والأخوان حركة أنشأها شاب مسلم مصري متحمس اسمه حسن البنا، وكانت سنّه آنذاك 22 سنة!! لقد قامت هذه الحركة أساساً على حلم شبابي نزق بإعادة الحكم الإسلامي، ضمن واقع سياسي اجتماعي فاسد مُحبِط، ونظام ملكي متفسّخ عميل، وكان باستطاعة هذه الحركة تطوير أفكار هذا الشاب اليائس النزق نحو نوع من النضوج العقلاني لو لم تختر الإرهاب كأسلوب لها بعد سقوط الملكية، ولو لم تجعل من الإسلام واجهة تخفي خلفها مطامحها للوصول إلى الحكم. وهو ما أدى في النهاية إلى اصطدامها مع الثورة الفتية آنذاك، فاستئصلت الحركة من مصر وهربت رموزها إلى الخليج العربي أو إلى الغرب.

كان لتلك الهجرة القسرية دورها السلبي على التطور الفكري للحركة. ففي الخليج العربي، التقى الفكر الإخواني بعقيدة أكثر تخلفاً وتزمتاً، وانغلاقاً هي الوهابية، فجمع الأخوان في الخليج أسوأ صفات التطرف الديني: الإرهاب الأخواني والانغلاق الوهابي. أما الذين ذهبوا إلى الغرب، فقد لقوا هناك - خاصة ألمانيا الغربية « سابقاً » - كل عون، فقط لاستعمالهم كعصا يمكن هزّها في وجه أية دولة عربية لا تدخل بيت الطاعة؛ أو كأداة داعمة لتوجه الدول « المدجّنة ». مثلاً: دعم حسن الترابي، الزعيم الأخواني السوداني المعروف، لحكم جعفر النميري، الذي اشتهر بفضيحة تهريب يهود الفلاشا إلى فلسطين؛ ودعم أخوان مصر لأنور السادات أيام الكامب ضد العناصر الوطني والقومية.

1 - جـ - تنظيمات الإرهاب المتستّر بالدين:

وكما أشرنا من قبل، فهؤلاء في معظمهم، خرجوا « متطرّفين » من عباءة الأخوان المسلمين، لتجنّدهم وكالة المخابرات المركزية، بأموال الوهابيين، لمحاربة النظام الماركسي في أفغانستان، ليس دفاعاً من الأميركيين والوهابيين عن الإسلام، بل خوفاً من انتشار الفكر الماركسي جنوباً وشرقاً وغرباً. وبعدما انهار النظام الماركسي في كابول، وانهارت من ثم أفغانستان كلّها، تحول هؤلاء إلى عصا أخرى أكثر قوة، يلوح بها الغرب ضد أية حكومة تفكر بالعصيان. ولا أدلّ على ذلك من وجود قيادات هذا التنظيمات في مناطق النفوذ الأميركي، داخل أفغانستان وخارجها.

2 - بعض الأقليات المتأسلمة التي تعيش في بلادنا:

الطرف الآخر المعادي بعنف « ذكي » لكل ميل وطني - قومي هو بعض الأقليات الغريبة التي تسكن بلادنا أو على حدودها. وهؤلاء يستخدمون الحس الديني الشعبي، « بذكاء » حاد، لضرب الروح القومية؛ وقد حققوا في ذلك نجاحات هامة. لكن الحقيقة تقول إن إسلاميتهم ليست سوى وسيلة يركبونها للوصول إلى الواجهة. وهم على استعداد للتعامل حتى مع « مون » مدعي النبوة الأميركي ومؤسس الكنيسة الموحّدة التي تعمل كفيلق منظّم لوكالة المخابرات المركزية أثناء الانتخابات الأميركية، وإرسال أتباعهم إليه، والقبول بالرئاسة الفخرية للكنيسة، إذا كان ذلك في صالحهم ".

اليوم، بعد مضي نحو عشرين عاماً على صدور الكتاب، نتساءل: أليس العرعور وأمثاله، من الذين يحرضون على الفتنة ويدعون ليل نهار إلى صراعات مذهبية دينية ثقافية، هم الوجه الآخر للصهاينة اليهود؟

سوريا، الدولة الضاربة في أعماق التاريخ، تمتلك أغنى مجموعة مذهبية ودينية في المنطقة؛ لكن هؤلاء يمتلكون انتماء قومياً واحداً وتاريخاً مشتركاً واحداً ولغة حية واحدة تقريباً؛ في إسرائيل، الحالة المعاكسة، اللغات متباينة والانتماءات القومية متناقضة والتواريخ لا رابط بينها عدا الخرافة، لكن ثمة ما يجمع هذه التناقضات: الانتماء إلى الديانة اليهودية. من هنا نفهم الرابط بين الدين والقومية. في إسرائيل يقال عربي مسلم وعربي درزي وعربي مسيحي وعربي بهائي؛ لكن يقال أيضاً يهودي، دون تحديد للانتماء القومي.

أليس العرعور هو الداعية الأعلى صوتاً إلى الدولة الطائفية التي تبرر قيام دولة طائفية اسمها إسرائيل وتضعف الكيان السوري إلى حده الأقصى بل تتمنى تفتيته؟ أليس العرعور هو من نقل الصراع من الحدود إلى الداخل؟ أليس العرعور هو من طلب توجيه المدفع من العدو الإسرائيلي المغتصب إلى الأخ في الوطن ذي الانتماء المذهبي المختلف؟

كلهم عراعرة. كل من يحكي بلغة طائفية هو عرعور صغير أياً كان انتماؤه! كل من يتحدّث طائفيّاً هو صهيوني صغير، يعمل عن سابق وعي وإصرار على تحقيق مشروع رابين...

الديمقراطية؟ لا تدنسوها بألسنتكم الطائفية!

مرة، وكنت مع الصديق رينيه زيدان أمام محل ضخم للبينغو تديره القوات اللبنانية؛ وكان الوقت عيد الميلاد. كان هؤلاء يضعون تراتيل فيروزية جميلة للمناسبة. نظر إلي رينيه باستهزاء؛ وقال: إذا كانت صالات القمار تضع تراتيل فيروز الميلادية، نحن ماذا سنضع في " صوت المحبة "؟ إذا كان العرعور يريد الديمقراطية وهو يشهر سيف التفتيت والفتنة الطائفية، نحن بماذا سنطالب؟؟

نهاية حثالة اسمها العرب: هل ستكون على يد العراعرة.