تتداول الأوساط السياسية الأوروبية عامة والفرنسية خصوصاً مجموعة من التساؤلات والسيناريوهات حول المخارج المختلفة والمحتملة لإنهاء الأزمة السورية. وتتنوع السيناريوهات وكلها مبنية على معطيات، بعضها صحيح والآخر كما هو معلوم نتاج القصف الإعلامي الفريد في نوعه وكمه.
فالمعطيات التي يقوم عليها السيناريو المسرب من وكالات الاستخبارات الأميركية تعتمد على أن النظام في سورية بات قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام وأن روسيا ستجد مخرجاً لشخصيات النظام فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم. ويكتمل السيناريو بالقول إن نظاماً جديداً سينشأ في سورية ذا «طابع» إسلاموي يلتحق بركب الأنظمة «ذوات الطوابع» بما يرضي الأغلبية الشعبية في هذه البلاد ويرضي إسرائيل ولا يتناقض مع المصالح الغربية والأميركية في المنطقة كلها بل يؤمن مصالحها، مادام الإسلامويون متفقون على هذه المبادئ مقابل حكمهم للبلاد وإقامة إماراتهم ومشيخاتهم وتطبيق معتقداتهم الميتافيزيقية على الحياة اليومية. وبالتالي ينتقل الصراع إلى مستوى آخر بين الغرب والشرق.
هذا الحكم «ذو الطابع» مستنسخ من التجربة الناجحة في بلدان الخليج العربية جميعاً. حيث لا حاجة للبحث في الديمقراطية ولا في الحريات ومنها الحريات الدينية ولا في حقوق الإنسان من منظور عالمي. ولا متاعب للحكام الغربيين أمام مطالب شعوبهم كلما اقتربت الحملات الانتخابية، فلا ضرورة لتبرير علاقاتهم الشخصية والإستراتيجية بالدكتاتوريات الشرق أوسطية مادامت علاقات محدودة ضمن إطار التبادلات والمصالح. فلم يحدث أن سئل مسؤول غربي عن سبب سكوته عن تجاوزات السعوديين الوهابيين وعن نظامهم السياسي ومدى تطابقه مع الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية. ولا عن تجاهل هذا النظام لأبسط المبادئ الإنسانية وحرية التعبير والمعتقد، ولا عن انبثاق السلطة في هذا البلد الخليجي أو ذاك، ولا عن شرعية ومشروعية حكم هذه العائلة للبلاد والعباد فيها.
ومن جهة ثانية فإن أمن إسرائيل يمكن أن يتحقق بـ«فتوى». أو بحد أقصى بجدل اسطمبولي أو بيزنطي. ولا حاجة للحديث عن مفاوضات وخرائط وحقوق ومتوجبات وقرارات دولية متفق عليها أو مختلف حولها. وربما مجرد احتمال إخفاق هذا السيناريو الغربي للحل الشامل والدائم للمسألة الشرقية هو الذي حول الدبلوماسيات العريقة في ثقافتها الاستعمارية في الغرب وتوابعها من الدبلوماسيات المتصحرة الغريقة في إثم الزيت، جعلها دبلوماسيات «غاضبة» فاقدة لأعصابها. دبلوماسيات خبط عشواء.
فالسيناريو الثاني الذي يرتسم في الأفق بعد التغيير الجذري في بنية النظام الدولي الجديد هو يقوم على التعددية وعلى قبول الغرب والولايات المتحدة بالقبول طوعا أو إكراها أن زمن الامبرطوريات قد انتهى. فروسيا قبلت ألا تتقاسم العالم بينها وبين الولايات المتحدة. والصين ارتضت أن تخرج من وراء جدارها وتتشارك مع العالم همومه وهمومها وشجونه وشجونها وأن تكون عضواً فاعلاً ومتفاعلاً مع قضايا الإنسانية. وبالتالي على الامبرطوريات الأخرى، البائد منها والحالم بالعودة، أن تتقبل التطور التاريخي الحاصل وهو أن عصر الامبرطوريات قد انتهى.
وهذا السيناريو الذي تتداوله الأوساط الفرنسية يقوم على قاعدة الموازاة بين الأمن بشقيه الإقليمي والداخلي والإصلاحات في النظام السياسي في سورية. وتسريع الحل السوري الشامل بشقيه الأمني والإداري الإصلاحي ليشكل من جهة رافعة لحسم الثورات العالقة والمتعثرة في الدول الأخرى. حيث يعتقد خبراء غربيون أن السبب الرئيسي لعدم وصول هذه الثورات الشعبية إلى مآلها الطبيعي هو افتعال الأزمة السورية.
وهذا ما يفسر استعار حكام بعض دول الخليج للدفع بكافة إمكانياتهم المالية، لحسم الموقف في سورية لمصلحة السيناريو الأول. كما يفسر «غضب» الدبلوماسية العريقة والغريقة.
بالتأكيد السيناريو الأول قد انتهى لكن السيناريو الثاني لم يحسم نجاحه بعد رغم اجتماع معظم عناصر نجاحه داخلياً وإقليماً ودولياً.
فداخلياً كان من أهم عناصر النجاح وحدة الموقف السوري حكومة وشعباً وتصميم القيادة السورية على إجراء إصلاحات جذرية وعميقة في البنية السياسية والإدارية للنظم الناظمة للحياة في سورية، وهو ما توفر بصورة مقبولة.
ودولياً كان مطلوباً أن يفهم العالم أن المسألة السورية ليست مسألة تصدير واستيراد ديمقراطية ولا مسألة تصنيع قيادات ولا مسألة إنزال مظلي لمرتزقة بل مسألة أعقد من ذلك جيوسياسياً وأن مصالح دول كثيرة وشعوب كثيرة كانت في الميزان بينها مصالح من اعتقد أن سقوط سورية يؤدي إلى عودة «الخلافة والخليفة». فجاءت صدمة مجلس نيويورك لتقوض مجلس اسطنبول وصانعيه.
هذا الانقلاب الإستراتيجي لا يعني نهاية الأزمة في سورية بل إنه بداية النهاية. وبداية التحديات الكبرى أمام سورية الدولة أيضاً.