«التهدئة» التي كان من المفترض أن يتسم بها عيد الأضحى تم انتهاكها على أوسع نطاق في سورية. هذا على الرغم من جهود الحكومة السورية في قطع محاور الطرق الرئيسة لضمان عزل أي اختراقات محتملة, ومنعها من أن تتحول إلى بقع زيت. لكن جهودها ذهبت هباء، فقد تلقت عدة كتائب من «الجيش السوري الحر» أوامر من داعميها في الخارج بشن هجمات جديدة, لم يتردد الجيش العربي السوري في التصدي لها.
وفي نهاية المطاف, إذا بدا أن بعض المناطق السورية قد نعمت بأربعة أيام من التهدئة, فإن المحصلة على المستوى العام للبلاد, كانت مخيبة للآمال, حيث إن حكمنا على نجاح أو فشل «التهدئة», كان مقرونا بالمنطقة التي نعيش فيها. لكنها سمحت على الصعيد الدبلوماسي, بتقييم الصعوبات التي سوف تواجهها قوات حفظ السلام, في حال قرر مجلس الأمن نشرها في سورية.
أولى تلك الصعوبات تتجلى بعدم وجود محاور يمثل «الجيش السوري الحر», وثانية تلك الصعوبات هي النية السيئة لفرنسا.
يتألف «الجيش السوري الحر» من عدة مجموعات مسلحة, لكل واحدة منطقها الخاص بها, في حين كان يفترض بها أن تخضع بمجملها لقيادة واحدة متمركزة في قاعدة عسكرية لحلف شمال الأطلسي في تركيا. لكن الأمور لم تجر على هذا النحو منذ أن بدأت الدول الداعمة لهذه المجموعات (فرنسا, وقطر, والسعودية, وتركيا) بالتناحر فيما بينها, وانهماك كل طرف في بذل أقصى ما لديه من جهود لبسط نفوذه على هذه المجموعات, على حساب حلفائه في إسقاط الدولة. وهكذا صارت الكتائب الأساسية تبدي ولاءها لمن يمدها بالأموال مباشرةً, ولم تعد تكترث بالتنسيق الذي كان يقوم به حلف الناتو فيما بينها.
فضلا عن ذلك, وعلى الرغم من التصريحات في هذا الشأن, لم يكن هناك أي تنسيق بين المجالس السياسية التي تعقد لقاءاتها في صالونات فنادق باريس واسطنبول والقاهرة, والمسلحين الذين يقاتلون على الأرض في سورية.
لهذا لم ينفك القادة الغربيون يطالبون بتوحيد قيادة «الجيش السوري الحر» مع أنهم يخشون ذلك واقعياً. لماذا؟ لأنها إذا أسفرت عن فرز محاور قادر على صنع السلام, فهذا سينزع المصداقية عن المجالس السياسية المقيمة في الخارج, ويمكّن المحاور من فرض نفسه كبديل عنها. وفي هذا الحال تنكشف اللعبة, ويصبح من المتعذر إخفاء الوجه الحقيقي لهذه «الثورة» المزيفة, التي لم تقاتل أي مجموعة من كتائبها المسلحة من أجل الديمقراطية, وسيكتشف الجميع أن هدف أغلبية هذه المجموعات هو إرساء دعائم ديكتاتورية دينية وهابية.
نستدل على ذلك من خلال اعتراف «القيادة المركزية للمجالس الثورية» التي أسست مؤخراً في محافظة إدلب, والتي تضم نحو 80% من قوات «الجيش السوري الحر» بعدنان العرعور زعيماً روحياً لها.
ففي خطابه الذي ألقاه في هذه المناسبة, تلا العرعور نصاً معتدلاً, بعيداً كل البعد عن خطبه المعتادة, هنأ فيه المستمعين بتأسيس القيادة العسكرية المركزية, وناشد المجالس السياسية الثلاثة المتناحرة في الخارج أن تتوحد فيما بينها, كما طالب بتأسيس مجلس تشريعي, يقصد فيه بكل تأكيد, نقل السلطة التشريعية القائمة إلى رجال الدين, ولا يرى مانعا من أن يكون, هو, بكل تواضع منه, على رأس هذا المجلس كي يفرض تطبيق الشريعة، ولم يفته أن يذكر بالمناسبة, أن الهدف الرئيس من «الثورة» ليس الإطاحة بالمؤسسات القائمة فحسب, بل بالمبادئ التي قام على أساسها النظام, أي العلمانية والقومية العربية.
تأسيساً على ما تقدم, فإن الفئة من السوريين التي لاتزال تؤيد الإرهابيين, هي حتما لا ترغب بالديمقراطية, بل تطالب بديكتاتورية على النمط السعودي, من شأنها أن تطهر الدين من «الصوفية» وتقصي كل الأقليات الدينية الأخرى.
وبصراحة أقول: لو كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي راغبا في إنجاح «التهدئة», لكان يجب عليه التفاوض بشأنها مع العرعور مباشرةً. لكن لقاء من هذا النوع لو حصل, لأطاح باستمرار حلم «الربيع العربي» ولكشف للعالم بأن الغرب يمول ويسلح أكثر الجماعات الدينية تطرفاً في سورية.
أما العقبة الثالثة التي سيواجهها مجلس الأمن عند نشر قوات حفظ السلام, فتتجلى في الموقف الفرنسي المتشدد، لأن باريس, هي مَنْ يعرقل تطبيق اتفاق جنيف الموقع في 30 حزيران الماضي.
في الحقيقة، فإن النص الذي حرره كوفي عنان يكتنفه الكثير من الغموض حول بعض النقاط الواردة فيه, بشكل جعل القوى العظمى تصادق عليه, وترجئ أمر إيجاد حلول للتناقضات الكامنة فيه إلى وقت لاحق.
وهكذا تمكنت كل من واشنطن, وموسكو, وبكين من إيجاد صيغة اتفاق مشتركة, فيما بقيت باريس مصرة على عزفها المنفرد.
لكن تبقى المسألة الأساسية في معرفة من هي «المعارضة السورية الشرعية» التي في إمكانها أن تشارك في مرحلة الانتقال السياسي.
بالنسبة لفرنسا, لا أحد غير «المجلس الوطني السوري» الذي تقيم أغلبية أعضائه في باريس, حيث يتلقون الدعم المالي منها بسخاء منقطع النظير, لكي يشكلوا «نواة الحكومة المقبلة».
فيما ترى كل من موسكو وبكين أن «المعارضين» الذين أيدوا الحركة المسلحة, وطالبوا بالتدخل العسكري الخارجي غير جديرين بوطنهم, مع التأكيد على مسألة أن المعارضين الذين دافعوا عن استقلال وسيادة بلدهم, هم وحدهم, من دون غيرهم, المعارضة الشرعية.
بالنسبة لفرنسا. المرحلة الانتقالية صارت واضحة: إما سورية بمرحلة انتقالية موالية لها, يكون لشركة «توتال» النفطية الفرنسية دور فيها, وإما لاشيء. في حين أن المرحلة الانتقالية في نظر كل من موسكو وبكين, تعني الانتقال من حالة الانقسام والحرب الأهلية, إلى الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
أما واشنطن, فقد أصبحت مستعدة لتقديم تنازلات إذا كانت تفضي إلى إنهاء الاقتتال وتضع حداً لتدهور الأوضاع بسرعة, تجنباً للمزيد من الحرائق في المنطقة.
مستخلصةً العبرة من «تهدئة» عيد الأضحى, تقدمت الصين بحل جديد يقوم على استبعاد أي خطة سياسية على مراحل ومعالجة مشكلات المناطق السورية الواحدة تلو الأخرى.
تسمح هذه العملية, حسب التصور الصيني لها, بقلب اتجاه المسار الحالي المتسم بامتداد مساحة الصراع, وتقليص مناطق الحرب.. هذه العملية تصب في مصلحة الجميع, لكنها تصطدم أفقيا مع الاستراتيجية الفرنسية.
كيف؟
جميعنا نذكر كيف ناشد الرئيس فرانسوا هولاند, من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة, مجلس الأمن أن يمنحه «انتداباً» على ماسماه «المناطق المحررة» في سورية.
لاتزال باريس تحلم وتحنّ إلى حقبة الانتداب الذي منحتها إياه عصبة الأمم المتحدة, لتسوغ غزوها لسورية (1920-1946).
ألم تنجح فرنسا منذ البداية في جعل «الثوار؟!» يتبنون علم حقبة الانتداب تلك؟
في كلمة ألقاها مؤخراً في جامعة سنغافورة, أشار كوفي عنان إلى أن المسؤولية في كل ما جرى من أحداث, تقع على عاتق بعض الدول الغربية التي حرفت تفويض مجلس الأمن القاضي بحماية الشعب الليبي, وحولته إلى عمليات عسكرية للإطاحة بنظام القذافي.
هذه الدول الغربية هي نفسها التي ترفض الآن إدانة الإرهاب في سورية, وتدفع الشعب السوري نحو محراب الشهادة, أملاً في إيجاد فرصة تمكنها من الإطاحة بالدولة السورية.