أبدأ ببساطة وبصراحة فأقول: ليس كل مناضل محترم دخل السجون يخرج منها بالضرورة مناضلاً محترماً، بل هو ربما تحوّل إلى النقيض وأصبح خطراً على أهله، فمعيار النضال وسبب الاحترام هو القضية العامة موضوع السجن، التي تبقى ثابتة لا تتغيّر، والتي لا يمكن أن تحلّ محلها قضية المعاناة الفردية مهما بلغت!

بالطبع، إنه لمفهوم أن يطرأ تطور على فكر المناضل السجين وفهمه للقضية العامة، إنما هناك تطوّر وتطوّر، أحدهما على حسابها لصالحه والآخر على حسابه لصالحها، ففي حال عدم حدوث تغيير يستدعي إعادة النظر في الأسس العادلة للقضية العامة يفترض أن تقتصر المراجعات والتعديلات على الأساليب والوسائل النضالية المعتمدة لخدمتها، من حيث نجاعتها وجدواها، وهنا تكون المراجعات والتعديلات على حساب المناضل الذي يندفع متفانياً أكثر فأكثر، مسلّماً راضياً حتى النفس الأخير، وعندما لا يكون ثمة مستجدات ومتغيّرات تستدعي إعادة النظر في الأسس العامة فإن إدارة الظهر للقضية بسبب أهوال المعتقلات، تجعل من هذه الأهوال بديلاً للقضية العامة، وإن مثل هذا التحوّل في الموقف لا يسوّغه أي مبّرر على الإطلاق، حيث قضية المعاناة الفردية تصبح صالحة كفصل في رواية أدبية وليس فصلاً من فصول النضال العام، وإنه ليؤسفني الاضطرار إلى الإشارة هنا أنني خبرت المعتقلات والزنزانات الانفرادية لسنوات، أقول ذلك كي أعطي نفسي بعض الحق في المضي أبعد فأبعد، وفي استعراض بعض جوانب ما نشاهده من انقلابات في مواقف البعض، من النوع المفجع الذي يدمي القلب!

هل ماتت حقوق الأمة؟

في العقد الثاني من القرن العشرين انهارت الدولة/الرابطة الكبيرة التي كنا من مواطنيها! لقد حدث ذلك بسبب الاستبداد والتخلف والفساد الداخلي والتآمر والحصار الخارجي، وقد غلّبنا حينئذ الأسباب الداخلية على الخارجية، لا بل تحالفت ثورتنا العربية الكبرى مع الخارجي ضدّ الداخلي في الحرب التي أدت إلى انهيار الدولة العثمانية، وكان الاتفاق التحالفي مع الأوروبيين، الإنكليز خاصة، يعطينا الحق في إقامة دولة عربية مستقلة تضم الحجاز وبلاد الشام والعراق، بعد انتصار الحلفاء في تلك الحرب العالمية الأولى، فما الذي حدث؟ لقد فرض المستعمرون علينا بدلاً من ذلك سبع دويلات مصطنعة ليست الدولة اليهودية سوى واحدة منها ومثلها! لقد كان وعد بلفور جزءاً لا يتجزأ من اتفاقية سايكس/ بيكو التي جعلت قيام الكيان الصهيوني المصطنع مشروطاً بقيام الدويلات العربية المصطنعة، فالاتفاقية والوعد متكاملان بل منصهران عضوياً، واستمرار كل منهما أو زواله يشترط استمرار الآخر أو زواله، وهذه الدويلات بما فيها الكيان الصهيوني تعيش معاً أو تموت معاً، وفي مرحلة لاحقة نرجو أن لا نصل إليها يمكن أن تتكاثر الدويلات العربية بمزيد من التجزئة لصالح الكيان الصهيوني وسيادته الإقليمية، فهل هذا الذي نقوله لغة "متخشّبة" كما يردّد السفهاء، وبعضهم من الذين دخلوا السجون كراماً وغادروها لئاماً؟ هل هذه أخطار متخيّلة لا أساس لها؟ وما هذه الدويلة التي فرضت علينا حدودها، والتي يريدون الاكتفاء بترتيب أوضاعنا فيها؟ وما معنى هذا النفاق الذي يخاطبون به بعض النخب الحزبية التي تتبرأ من العروبة كحضارة مشتركة، وتتمادى يوماً بعد يوم في إظهار نزعاتها الخاصة على حساب المصلحة العامة؟ أليس هذا تمهيداً لكوارث تجزيئية إضافية تذكرنا بكوارث نهاية العقد الثاني من القرن العشرين حين غلّبنا الداخلي على الخارجي؟ إن بعض المناضلين القوميين والأمميين السابقين يتباهون اليوم بالمبالغة في إظهار تعاطفهم مع نزعات ضمنية انفصالية تحلم بنجاح تجارب الانفصاليين في العراق، وإن هذا لهو اللعب بالنار حقاً، سواء أكان لعباً بريئاً أم غير برئ، لأنه يصب في صلب الترتيبات الأميركية الصهيونية، ولأن من لا يرى في العدو الأميركي الصهيوني الجذر الأساسي لجميع مصائبنا، بجميع لغاتنا وأدياننا ومناطقنا، يكون غير برئ حتى وإن قضى عمره كله في الزنزانات الانفرادية!

أنظروا الفارق بين انقلابين!

لقد بلغ السفهاء والمرتدّون، ناهيكم عن المخبّلين المخرّفين، حدّاً صاروا معه يسخرون من أية إشارة إلى حقوق الأمة التاريخية، فيعتبرونها لغة "متخشّبة" أي ميتة، وهذا يعني بداهة أنهم يعتبرون حقوق الأمة ميتة! إنهم يكرهون المقاومة من أجل استرداد حقوق الأمة، وهم يخشونها سواء أكانت علمانية أو إسلامية، فالأولى أسس لها الاستبداد حسب زعمهم فهم يرفضونها أصلاً وفرعاً، والثانية أسس لها الأميركيون حسب قولهم، وفي هذه النقطة يشيرون بوقاحة إلى العلاقة مع الأميركيين كتهمة، حيث العلاقة معهم في العراق لا يشار إليها أبداً أبداً! فهل هم يكرهون المقاومة الإسلامية ويخشونها لأنها متعاونة مع الأميركيين بالأمس، أم لأنها تحارب الأميركيين اليوم؟!

من جهتنا، نحن الذين نرى في استراتيجية العدو الأميركي الصهيوني حرباً مفتوحة لا نهاية لها إلا بتقويض وجود أمتنا من جذوره، أو بهزيمة هذه الاستراتيجية بما فيها تجلياتها الداخلية من تخلف واستبداد، فإننا ننظر إلى جماعة كانت مهادنة للعدو، أو حتى كانت متعاونة معه ثم انقلبت عليه وانطلقت تحاربه بجدّية وفعالية، باعتبارها كسباً عظيماً للأمة، وتطوراً إيجابياً في بنية الأمة، وتحوّلاً يستحق الاحترام والتقدير، فالطبيعي والمنطقي أن يكون الإنسان مخطئاً ويعود عن خطئه، أن يكون جاهلاً فيعرف وضالاً فيهتدي، أما أن يحدث العكس فذاك هو الارتكاب الذي لا عذر ولا شفيع له، حيث يتحول العارف سابقاً إلى متظاهر بالجهل لاحقاً، فينتقل من مقاومة العدو الأميركي الصهيوني بلا هوادة إلى مهادنته ومسايرته بلا حدود! إن الذي ينقلب من مقاوم إلى مهادن أو متعاون مع الأعداء لا يستحق سوى الإدانة المضاعفة القاطعة، أما الذي ينقلب من المهادنة إلى المقاومة فإنه يستحق تقديراً واحتراماً مضاعفاً! ولكن ما لنا نسترسل في الشرح، أو ليست هذه بديهيات في تجارب ومفاهيم جميع البشر عبر جميع العصور؟

طراز حياتهم أم مصير الأمة؟

يبقى هناك ما هو أعجب وأغرب في مواقف هؤلاء الذين تحوّلوا إلى ليبراليين ديمقراطيين، ومنهم بعض من سجنوا واضطهدوا، فهم يؤكدون طوال الوقت على إيمانهم بضرورة الحضور الحرّ لجميع فئات المجتمع، وعلى حقها في التعبير عن آرائها وإرادتها، لكنهم يستثنون إرادة المقاومة ضدّ الاحتلال، بحجة نبذهم العنف، حيث هم صاروا يؤمنون بالمقاومة السلمية، أي بالمظاهرات، ويعتبرونها كافية، وحيث هم يخشون أن تستولي المقاومة الإسلامية على السلطة في النهاية (تصوّروا!) فتهدّد طراز حياتهم التقدمي، أو الليبرالي الديمقراطي! وهكذا يغدو العدو الأميركي – من وجهة نظرهم – أفضل أو أرحم من أولئك المتشدّدين الذين لا يتردّدون في تقديم أرواحهم عبر العمليات الاستشهادية ضدّ المحتلين، ولا يحبون بعض جوانب طراز الحياة المستورد من الشمال!

إن درء الأخطار التي تهدّد وجودنا من أساسه يحتاج إلى حشد جميع الإمكانات البشرية والمعنوية والمادية، العربية والإسلامية، العلمانية وغير العلمانية، الذكية والساذجة، وحتى لو تحقق مثل هذا التحشيد فإن الخطر يبقى عظيماً تحتاج مواجهته إلى مساندة جميع أمم الأرض، غير أن الليبراليين الديمقراطيين الجدد يشغلهم، ظاهرياً على الأقل، خطر استيلاء المقاومة المتشدّدة على السلطة وتهديد طراز حياتهم العصري، فهل يعقل أن ينحدر خطابهم إلى هذا المستوى من الانحطاط والسخف؟ ولكن، هل هو حقاً مجرّد سخف؟!