هل فوجئ العرب بمحاولات القادة الإسرائيليين الالتفاف على مبادرة القمة العربية الأخيرة (بصدد تصفية قضية فلسطين) وإفراغها من مضمونها؟ كلا لم يفاجأ أحد! لكن التفسيرات الرسمية العربية جاءت في معظمها بعيدة جداً عن السبب الحقيقي للمناورات الإسرائيلية، فإذا تركنا تصريحات القادة الإسرائيليين الدبلوماسية المخاتلة، وتوجهنا إلى المجتمع الصهيوني، فسوف نجد التفسير الحقيقي في ما كتبه المجند الإسرائيلي جلعاد هيرمان، ونشرته صحيفة (ايديعوت) بتاريخ 29/3/2007، حيث قال هذا المجنّد:" من أجل أداء مهمتي كجندي يهودي يتعيّن عليّ أن أعمل بكل وسيلة ممكنة من أجل الوفاء بالأمر الإلهي في إبادة سكان البلاد: الاحتلال العربي! وعليه فإن كل عربي من جهتي مشبوه، وكل سبيل لدفع العرب إلى المغادرة مشروع، ولا يعقل أن يعرّض جندي يهودي نفسه للخطر، بالوقوف على الحواجز، كي يتمكن أعداؤنا من المرور إلى أعمالهم! إن القواعد التي تنظم فتح النار (على العرب) هي بالتأكيد لا تطاق، فمنذ متى كانت حياة العربي أهم من حياة اليهودي؟! إن واجب استيطان البلاد يساوي التوراة كله، وإذا ما حاول الجيش الإسرائيلي المساس بهذا الواجب، حتى لو كان الحديث يدور حول كوخ على تلة، فسأضطر إلى المقاومة بجميع الوسائل الموضوعة تحت تصرّفي، بما في ذلك سلاحي الشخصي"!
* * *
لم يأت هذا الفتى الصهيوني بأفكاره العنصرية الفظيعة من فراغ، فمنذ القرن السابع عشر راح الإنكليز يعدّون اليهود لاعتناق هذه الأفكار، وقد اقترح وزير الخارجية الإنكليزي لورنس أوليفنت (1829-1888) في القرن التاسع عشر مايلي:" إقامة مستعمرات يهودية في شرق الأردن، وطرد البدو، وإبقاء الفلاحين العرب على أن يوضعوا في معازل خاصة كالهنود الحمر في أميركا الشمالية، ويستغلوا كأيد عاملة رخيصة تحت إشراف يهودي، فالعرب (من وجهة نظر هذا الوزير الإنكليزي) لهم حق ضئيل في المطالبة بشيء من العطف، لأنهم خرّبوا البلاد ودمّروا قراها ونهبوا سكانها"!
أما آرثر بلفور صاحب الوعد الشهير، وزير الخارجية ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق، فقد قال في مطلع القرن العشرين، في مذكرة رسمية:" ليس في نيتنا مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، فالقوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم رديئة، فإنها متأصلة الجذور في تقاليدنا القديمة العهد، وفي حاجاتنا الحالية، وفي آمالنا المستقبلية، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة"!
* * *
غير أن المسألة تأخذ بعداً آخر، أوسع وأشمل، عندما نقرأ ما كتبه الإنكليزي هربرت سايد في صحيفة (مانشستر غارديان) خلال الحرب العالمية الأولى. يقول سايد:" كانت بلاد ما بين النهرين (العراق) مهد الشعب اليهودي ومكان منفاه في الأسر، وكان موسى مؤسس الدولة اليهودية قد جاء من مصر، فإذا ما انتهت هذه الحرب بالقضاء على الإمبراطورية التركية في بلاد ما بين النهرين، وتأسيس دولة يهودية في فلسطين لتأمين جبهة دفاعية في مصر، فسوف يكون القدر قد دار دورة كاملة"!
وفي عام 1922 قرر مجلس الشيوخ الأميركي رسمياً المصادقة على وعد بلفور، وقال السناتور كابوت لودج رئيس لجنة العلاقات الخارجية موضحاً:" إنني لم أحتمل أبداً فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمّديين! إن بقاء القدس، وفلسطين المقدسة عند اليهود والمقدسة عند جميع الأمم المسيحية الكبرى في الغرب، في أيدي الأتراك كان يبدو لي لسنوات طويلة وكأنه لطخة في جبين الحضارة من الواجب إزالتها"!
لقد كان الأميركيون يلخصون موقفهم كما يلي:" إن القول بأن انتزاع فلسطين من أيدي العرب وإعطائها لليهود عمل غير أخلاقي هو صحيح بمقدار القول أنه ليس للأوروبيين الحق في استيطان أميركا، لا لشيء إلا لأن الهنود الحمر الأميركيين كانوا يسكنونها"!
في عام 1929 زار القسّ اللوثري الأميركي جون هاينز فلسطين، وسجل انطباعاته عن المستوطنات اليهودية قائلاً:" عندما تحدثت مع اليهود الذين يفلحون الأرض كنت أفكر في المستوطنين الإنكليز الأوائل الذين قدموا إلى شواطئ ماساشوسيتس القاحلة، واستطاعوا إرساء قواعد جمهوريتنا الأميركية الثابتة على أرض لم تفلح، وفي مواجهة سكان مناوئين! إن اليهود هم الآباء الحجاج في فلسطين، فهنا نرى البطولة نفسها مكرسة للغايات نفسها، ومن الواضح أن العرب لا يقلّون عناداً ووحشية عن الهنود الحمر"!
* * *
والآن، إذا كانت هذه الأخبار قديمة فإن الرئيس بوش، مثل جميع أسلافه الإنكليز، يبدو مصممّاً على تكرار وإنجاح التجربة الاستيطانية الأميركية في بلادنا، فهو لم يعبّر أبداً عن خلاف ذلك، ومثله أتباعه القادة الإسرائيليين، وقد تجلّى تصميمهم واضحاً في ردّة فعلهم الرسمية الباهتة والغامضة على مبادرة القمة، أما الجذر الحقيقي المؤكد لهذا التصميم فقد عبّر عنه جيداً الفتى الإسرائيلي المجند جلعاد هيرمان، والمثل يقول: خذوا أخبارهم من صغارهم!