لست ناطقاً بأسم سورية ، مع أن ذلك يشرفني . فسورية مهد الحضارات ومنزل الديانات وبلد الطيبين " أولاد البلد " بالمعنى المصري .

يرتفع صوت الجميع – أهل وغرباء – ولكن صوت سورية لا يكاد يسمع ؛ وهذا ليس إرادة ربانية بل إرادة أمريكية متغطرسة متكبرة متحجرة ، دوي صوتها يخرس الملائكة والشياطين إذا لم يكونوا انضموا إلى جوقتها خوفاً أو جهلاً ليبقى صوت الحق بلا صوت .
من هنا جاءت عبارة “نحن وهذا العالم” التي تحمل الكثير من الرائحة اليهودية المتعصبة ، ولكن في السياق اليهودي كان الهدف وما يزال التميّيز وإشعار العالم بالذنب وإبتزازه تاريخياً وأبدياً .

أما في الحالة السورية فـ “ نحن وهذا العالم” ليست إلا صرخة الموجوع المظلوم الطالب للإنصاف المدافع عن الوجود والروح وبحق .

سورية والعراق .
لا أدري كم هو مجد التذكير بتفرد أمريكا قوة وغطرسة وعنوة بقرار العالم وتعميمها مبدأ منطق القوة على قوة المنطق . غزت أمريكا العراق وأحتلته رغم أنف العالم . معظم أهل الأرض كانوا ضد ما حدث رغم أنف الالة الإعلامية الأمريكية ورغم أنف 11 أيلول ، حتى في أمريكا ها هو عدم الرضى الأمريكي يتسرب من بين مخالب هيمنة آلة الإعلام المزورة .

أما “نحن” فمطلوب منا ليس فقط أن نرش الورد والأرز على ذلك الإحتلال بل أن نحميه أيضاً.
قد يرى البعض أنه من الأفضل أن أكون ديبلوماسياً وأتحدث بطريقة لا تفتح أبواباً جديدة على سورية ، وإن عجزت عن إجتراح رؤى محايدة جديدة تجاه الإحتلال ، عليّ على الأقل أن أتحدث صامتاً .
ولكن أرى أن لا الصمت مجد ولا للديبلوماسية سوق، فأمريكا مصرة أن ما يحدث في العراق يتسرب عبر سورية ، وسورية تحاول إقناعها أنها تقوم بما تستطيع لمنع ذلك . ولكن لماذا لا تشتري أمريكا القصة السورية رغم أن سورية تصرخ طالبة دليل واحد !
رغم أن أمكنة التسلل قد تكون من خمس أو ست جهات الأرض حول العراق !
رغم أن الإحتلال يفرز المقاومة بشكل طبيعي !
رغم أن الإحتلال لا يعرف عن العراق أكثر مما أعرف عن القطب الجنوبي !
رغم أن الإحتلال يتواجد بمنطقة الرخاء الخضراء فقط !
رغم كل ذلك لا تزال أمريكا تصر على أن “البلاء” قادم من سورية .

حقيقة البلاء ليس قادم من سورية ،ولكن أمريكا محقة بألا تقبل أو تشتري الرواية السورية .
عندما قادت امريكا ما يسمى بقوات التالحف لتحرير الكويت عام واحد وتسعين ، اشتركت سورية بإرسال قوة إلى حفر الباطن ، تلك القوات لم تطلق رصاصة واحدة ؛ وفي وقت من الأوقات حدث شيء من التململ في صفوف تلك القوة عندما كانت ترد أخبار عن حال الجنود العراقيين الذين زجهم إنسان موتور في مهمة غير مقدسة ، فما كان من بعض القوات الأمريكية المتواجدة في حفر الباطن إلا أن وضعت في حالة تأهب تجاه ذلك التململ السوري . وصلت الرسالة وكان عنوانها : “الدم لا يصبح ماء” هكذا قرأت أمريكا الرسالة : “العرب أخوة مهما حدث” وفصل هذه الأخوة صعب ، لكن مطلوب .

من هنا لا تصدق أمريكا ولا تقبل أي شرح أو توضيح أو تبرير أو رأي تقدمه سورية .
الآن الإدارة الأمريكية هائجة وتبحث كالمدمن أو المجرم عن أمر تبطش به ؛ ولكن سورية عاقلة وتدرك هذا الحال ؛ ويصعب وربما يستحيل أن تقدم نفسها فريسة طوعية .

قصة سورية مع الإحتلال الأمريكي للعراق بدأت منذ الإستعدادات الأولى لذلك الغزو . الكل لزم الصمت المريب ، إن لم يكن قد شارك بهذا الفعل القبيح المجرم . وحدها سورية كانت صريحة في موقفها تجاه الإحتلال ، وها هي تدفع الثمن حتى لو نشرت كل جيشها على حدودها مع العراق .

كانت سورية صريحة ليس حباً بصدام أو بنظامه ، فالأذى الذي لحقها منه ليس بقليل . كانت سورية صريحة ليس خوفاً على ذاتها بل على العراق الذي سيتشظى ، وها هو يتشرذم إلى قبائل وحمولات وطوائف وكنتونات وأشلاء .

كانت سورية صريحة لإستنهاض بعض الصرخات العربية التي كان يجب أن تستشعر الخطر ؛ ولكن الصمت العربي المريب ومدافع أمريكا أستهدفت صوت سورية وصوت الجماهير العربية وأرادت أن تكتمهما .
ينقلب الجميع على سورية حتى الأخوة . تُحاصر سورية وتُعزل . وتدير أمريكا ظهرها لسورية وكأنها دولة “مارقة” .

نعم سورية دولة “مارقة” حسب قانون الغاب الأمريكي ؛ مارقة على الصمت المريب الذي يسعى أن يمشي في جنازتها .
الكل أصبح خبيراً ومنظّراً في الشؤون السورية ، الكل بدأ يضع حلولاً للأزمة السورية .

الخبير السياسي الأمريكي والموظف السابق في الخارجية ومكتب الأمن القومي والـ سي. آي . إيه “فلينت ليفيريت” يكلف نفسه عناء وضع كتاب كامل حول الموضوع وينصح إدارته الأمريكية بأن تتبع مع سورية سياسة العصا والجزرة ؛ ويرتاح الكثيرون لعدم تفضيله لخيار سحق النظام بالقوة أو الإستمرار بخنق البلد عبر الضغوط .
الكل أصبح خبيراً ومنظراً في الشؤون السورية ويردد ببغاوياً ما تنفثه آلة الإعلام الأمريكية التي تحتل 90% من الإعلام العالمي .

• سورية ولبنان

يتحدثون عن سورية ولبنان ؛ فتقرأ رسائل مقالاتهم التي يوحيها الموقف الأمريكي فتشعر أنك تقرأ عن ألمانيا الهتلرية والنمسا . ينهال جدار في لبنان فلا بد وأن النفس السورية قد أوقعه .

لم يكن أحد مع المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية – وسورية معهما – مثل رفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير ، إلا أن الأصابع الشوهاء لأشباه البشر تشير نحو سورية فقط ، لإن أمريكا وإسرائيل تريدان ذلك .

كثر عدد المنصحين لسورية بشكل قياسي في هذه الفترة :
“أخرجي من لبنان وبالسرعة القصوى” هكذا قالوا .
تلك الإمعات كانت تتجاهل أنه بعد أيام من بدء رئاسة بشار الأسد بدات القوات السورية تخرج من لبنان ، وفي كل مرة يحضر الملف السوري – اللبناني ، كان بشار الأسد يؤكد ويوجه ويصر على أن تكون العلاقة السورية – اللبنانية عفية ونموذجية لأي بلدين عربيين .

نسي هؤلاء أنه لو زار اي رئيس سوري – بما في ذلك حافظ الأسد – لبنان ونزل في مطاره لاعتبر فعله كفعل زيارة لرئيس الصين إلى تايوان ، لكن بشار الأسد فعلها بإيمان وثقة بلبنان وسورية .
أعطوا سورية دروساً كثيرة ، حول التمديد للحود وتجاهلوا أن لبنان وليس سورية من مدد للحود، وأغفلوا أنه تمدد للحود أم لم يُمدد فإن أمريكا ماضية في مخططها ؛ فذلك حدث من قبل ، ولم تنزعج لا أمريكا ولا إمعاتها .

أغفلوا أن سورية خسرت الحريري وحاوي أكثر مما خسرهما لبنان .
كل تلك المواقف من سورية وراءها موقف سورية من الإحتلال الأمريكي للعراق ، لو أن سورية هادنت تجاه الإحتلال ، لو أنها التزمت الصمت المريب كالآخرين تجاه الإحتلال ، لما حدث كل ما حدث ويحدث وسيحدث .

سورية وفلسطين

يتحدثون عن سورية وفلسطين والفلسطينيين ، وينسون أن في سورية نصف مليون فلسطيني لهم حقوق لا أحد يذكرها . يذكرون فقط قيادات فلسطينية “إرهابية” تحتضنها دمشق وعليها طردها . وإن فعلت ذلك ستنال كذا وكذا . هذه القيادات برأيهم هي التي تعرقل إمكانية نجاح محمود عباس في تحقيق السلام مع إسرائيل . يطلبون ويأمرون ويقاطعون وينسون جدار الفصل العنصري ، ينسون تدمير الأشجار والمنازل ، ينسون قصف طائرات إسرائيل وإغتيالاتها للبشر والحجر ، ينسون تآمر أمريكا ، ممثلة برئيسها ووزيرة خارجيتها مع إسرائيل والعمل عل تحقيق مطالبها التعجيزية وإغفال أي صرخة فلسطينية لمحمود عباس أو غيره . وتتجند مصر بقيادتها لتسوية تمثل بجوهرها المطالب المرضية لإسرائيل بلا حمد أو شكر ؛ وتأتي رايس وتهين مصر في عقر دارها بخطبتها في الجامعة الأمريكية في القاهرة .
كل ذلك يحدث وتجد الإمعات يرددون الخطاب الأمريكي الصهيوني تجاه سورية وسلوكها الإشكالي ويتجنبون سلوك إسرائيل الإجرامي إلا من باب رفع العتب ؛ بأن ذلك “ لا يساعد مسالة السلام”
سورية و سورية

يتحدثون عن سورية الداخلية، عن مؤتمر خيب الآمال. تقرأهم و كأنهم أكثر غيرة على سورية من سورية،و حقيقة الأمر أن آخر ما يتمنونه أو يريدونه لسورية هو أن تكون بخير.
تكاد تسمعهم يقولون : لو أن سورية أنجزت إصلاحاتها، وحدثّت وطورت و أصبحت ديمقراطية، لكانت منعت تسلل الإرهابيين عبر حدودها ولما كان قد اغتيل الحريري و سمير قصير و جورج حاوي، ولكانت طردت القيادات الفلسطينية الإرهابية من أرضها، ولكانت حققت السلام مع إسرائيل.

ينسون أن المطلوب من سورية أن ترفع شعار" سورية أولاً " و يتبجحون بالقول هاهي مصر رفعت شعار مصر أولاً، فكان لها كامب ديفيد، و كانت لها سيناء محررة . وهاهي الأردن فعلتها فكان لها وادي عربة. و هاهي ليبيا و دول الخليج و المغرب و تونس و الجزائر الخ… و ينسون أن مصر السادات انفردت بكامب ديفيد فانفرد بها ليدفّعها مقابل الملياري دولار ملياري إهانة. و دون تفصيل ، الآخرون ليسوا بأحسن حال.
وحده لبنان ووحدها سورية، و كلاهما معاً رفضا شعار “الأولاً” . و هذا يفسر جوهر الـ 1559 و لماذا كان. سورية لن ترفع الشعار إياه، و ليرفع الآخرون ما شاؤوا…
سورية اليوم في عزلة لم تمر بها من قبل، هي تدرك ذلك تماماً، و تعرفه حق المعرفة، و تعرف أيضاً أنه من حيث الجوهر لا يعود ذلك لردائة في سياستها، و تعرف أيضاً أن أزمتها و عزلتها و عدم إنجازها لمشروعها التحديثي الإصلاحي قابل للحل بموقف سريع يتألف من أربع كلمات تُقدم للولايات المتحدة الأمريكية: “نحن بخدمتكم قلباً و قالباً” و برفع شعار يقول: “سورية أولاً” .
ببساطة - هذا لن يحدث. لا هذا الموقف سُيتخذ ، و لا هذا الشعار سُيرفع ، و الأسباب كثيرة:

إذا اتخذت سورية هذا الموقف و رفعت هكذا شعار، ستكتب ليس فقط نهايتها ، بل نهاية ما يسمى بالأمة العربية.فمنذ كامب ديفيد حتى الآن تتسلل بحياء دول و أشخاص نحو الخيمة الإسرائيلية. ألم يكن أحد الآمال الكبيرة من المفاوضات السورية الإسرائيلية أن يوقّع العرب جميعاً سلاماً مع إسرائيل؟!!!
إن قدمت سورية ذلك التنازل و رفعت ذلك الشعار ، فالعرب لا يحتاجون إلى مفاوضات سورية- إسرائيلية حتى يتم ما يراد.
- هذا لن يحدث، لأن سورية منيعة ليس فقط بداخلها – حتى لو وصل الصراخ في هذا الداخل حدود السماء والوجع أقصى الدرجات- بل بالشعب العربي الذي ما رأى في دمشق يوماً إلا قلبه النابض و ضميره الحي.
- هذا لن يحدث لأن ما تراهن عليه أمريكا من حركة داخلية أو معارضة تنقضّ على سورية ليس إلا رهاناً في غير مكانه.
أحد رموز المعارضة الذي جعل شغله الشاغل تقريع النظام السوري و المعروف بثقافته الرفيعة و قدراته المعرفية الكبيرة ولسانه السليط (صبحي الحديدي) يقول: " لو كان الخيار بين بشار الأسد و أمريكا سأكون مع بشار الأسد ألف مرة "، و الشيء ذاته ينطبق على معظم أطياف المعارضة السورية.
فتحية لكل مواطن سوري يضع وطنه فوق كل القيم أو المغريات.
_ - هذا لن يحدث لأن سورية تؤمن بأن" الشجاعة صبر ساعة " كما يقول المثل العربي. و ما اشتداد الأزمة على سورية إلا لأنها تقف الموقف الصحيح. وما ازدياد الضغط عليها إلا لأن الآخرين مأزومين.
ها هي شعبية "قائد العالم" السيد بوش في تدهور بعد ستة أشهر من تنصيبه في ولاية رئاسية ثانية.
أن يقول 59% من الأمريكيين انهم ضد حرب بوش في العراق أمر ليس بقليل.

وعندما ترصد الأسبوعية البريطانية الأوبزرفر أن الأمور ليست تحت السيطرة والرأي العام الأمريكي المساند لبوش ينهار و هزيمة أمريكا قريبة و شبح فيتنام يلوح بالأفق هذه ليست أمور بسيطة.
وعندما يثور جمهوريون على رئيسهم، ويسعون للنأي بأنفسهم عن سياسته وعندما يتدهور الوضع الإقتصادي و الإجتماعي الأمريكي… و عندما تقول الـ " نيويورك تايمز" أن الدعم الشعبي لبوش ينهار إلى 25% وأن فترته الثانية مرعبة للأمريكيين، فهو لا يلمس أو يتحدث أو يهتم بأي أمر يهم الأمريكيين و حياتهم، عند كل ذلك لا بد من القول أن الأمور ليست بخير مع من يستهدف سورية و غيرها.
على سورية أن تصمد ، فمعها كل شرفاء العالم.

إن ارتفاع الإمبراطوريات ليس بالأمر السهل ولكن اندحارها و نزولها يكون مدوياً. لقد اقترب الخلاص. إنها لحظات عصيبة جداً، صبر الساعات هذا لن ينجي سورية فقط بل كل العرب، وما أمام الجميع عرباً سوريين و عرباً آخرين إلا الصبر العاقل و الصمود البطولي. و ليس مطلوب من العرب الآن إلا عدم الاصطفاف ضد سورية بأمل أن تكتب لهم النجاة، فلا نجاة لعربي من أمريكا و إسرائيل، الكل بالنسبة لهم واحد ، حتى…
- هذا لن يحدث لأن جذوة المقاومة الفلسطينية لا تزال حية ولن تقبل التنازل أو المساومة على حق شرعي للفلسطينيين.

- هذا لن يحدث لأن المقاومة اللبنانية لا تزال على العهد مع سورية ومع لبنان الذي يحتضنها ويعززها.
هذا لن يحدث لأن العلاقة السورية اللبنانية النموذج التي طمح لها بشار الأسد لا تزال حية و قابلة للتحقيق، و ستتعافى و تكون النموذج لعلاقة أية دولتين عربيتين صامدتين.
- هذا لن يحدث لأن الكثير من دول العالم المغلوبة على أمرها و أخرى ستعود لضميرها الوطني و الإنساني و ستدرك بأن سورية لا تستحق إلا الدعم و التقدير و الاحترام.
أما سورية وكما يريد لها بشار الأسد فهي لكل أهلها، و قانونها فوق الجميع ، قانون لا يطبق فيه قانون الطوارىء إلا على من يمد يده لعدو سورية. قانون لا ينص على الإعدام بسبب انتماء إلا إذا كان هذا الإنتماء ضد الوطن. قانون يفتح للاحزاب أبواب عريضة وكلها تحت راية الوطن.
سورية التي تأكل من خيرها ولا تدين لأحد بشيىء يجب أن ينعم أهلها بحياة إقتصادية كريمة، و من يقصر أو يفسد يجب محاسبته.
هذه الـ سورية منيعة لا يأخذها طامع أو غاز. هذه الـ سورية لا تقبل من أحد أن يملي عليها ما تفعل أو يحلل و ينظّر و يقدم لها خيارت أحسنها مهين.
هذه الـ سورية لأهلها و بأهلها تبقى شامخة كقاسيون.