ما سر التقدم الأوروبي، وما الذي جعل منطقة بعينها من مناطق العالم ثرية ومتقدمة؟
السؤال الذي ألح المثقفون المسلمون في طرحه حتى عقود قليلة مضت شغل، بدوره، عدداً لا يحصى من المثقفين الغربيين في عدادهم ناتان روزنبرغ وإل إي بيردزيل في كتابهما «كيف أصبح الغرب غنياً: التحويل الاقتصادي للعالم الصناعي» (منشورات بايسك بوكس).
والحال ان راهنية السؤال المستمرة (على رغم ان الحركة الاصولية عندنا رفضت السؤال أصلاً في تشكيك منها بمعنى التقدم والتخلف) هي ما يجيز العودة، مراراً وتكراراً، الى كتاب مهم كهذا، بل حتى الى كتب أقدم عهداً كأعمال ماكس فيبر مثلاً لا حصراً.
الجواب الذي يقدمه المؤلفان مفاده ان نمو الغرب وثراءه عائدان الى انه طوّر «نظاماً system للنمو» وفي سعيهما الى اعطاء معنى محدد للنظام المذكور، يعمدان إلى تعريفه بوصفه ما أتاح ويتيح المجال للابتكار والإبداع، أتمثل في تصور سلع وطرق جديدة، أم في اختراع أدوات جديدة، أم في ايجاد اشكال جديدة في تنظيم الانتاج والتوزيع. والجدة، إذاً، كلمة السر، هي التي تمثل «عنصراً مضافاً الى الانتاج».
وهذا ما فعله الغرب ولم تفعله المجتمعات الأخرى حيث سادت نظرة الى الجدة بوصفها تنطوي على تخريب اجتماعي وقيمي وتستدعي التدخل الخارجي أو تمهّد له الطريق من خلال «إضعاف» الداخل. فهناك، خارج «الغرب»، عملت السلطات الدينية كما الامبراطوريات المركزية على إبطاء التغيير أو إحباطه، تاركةً لأوروبا، المستفيدة من تجزئتها السياسية وتعدد السيادات فيها، ان تمضي في مشروع لا تملك إلا ان تمضي فيه. ففي عالم من تنافس الدول والدويلات، لم يكن يسع الحكام ان يعاملوا تجارهم وحِرَفييهم من العامّة معاملة خشنة. فهؤلاء وإن كانوا لا يحظون بشرف الأصل والمحتد، ولا يجيدون القتال، مما تباهى به العالم الاقطاعي، إلا أنهم ينتجون المال. وهم انما ينتجونه لأنفسهم، بطبيعة الحال، ولكن ايضاً للحاكم الذي يعرف ان المال في خزائنه سلطة وقوة. ففي أوروبا وحدها تطورت المدن ذات الحكم الذاتي (الكوميونات الدينية) كمؤسسات سياسية واقتصادية تشكل جزراً تجارية وصناعية تحظى بهوامش عريضة من الاستقلال وسط محيط من السلطات الاقطاعية والدينية.
وتحت العنوان العريض هذا تسنى لنظام من الحوافز والمكافآت ان ينشأ. وبدت، هنا، حقوق المُلكية مركزية إذ من غير الحصول على ضمانات بحق المرء في ان يتمتع بثمار عمله وثرائه، يستحيل ان ينشأ توفير أو استثمار فعالان. ذاك ان المجتمعات التي ترهن حق المُلكية بإرادة الحاكم، أو بنزوته في الغالب، يحاط فيها الثراء بالخفاء والاخفاء لأن الغنى المعلن يحض على مصادرته أو نهبه. وهو ما كانت عليه الحال في الصين والهند المغولية وفارس ومصر. أما في الغرب، ولأسباب ترجع الى التقليد اليهودي - المسيحي، عزّزها لاحقاً القانون الروماني والعرف الجرماني، فوجدت الدولة ان تمكين حق الفرد في أرضه وعمله مفيد بذاته ومربح. والفرد هذا قد ينقل الممتلكات المذكورة الى آخرين، إلا ان أحداً لا يستطيع مصادرتها منه من غير تعويضه عنها. وهكذا باتت الضرائب تستدعي توافقاً بين طرفيها، وحتى الرسوم والمكوس الفيديرالية غدت تتطلب بدلاً مقابلاً لها، وهو ما صاغته عقود بدائية وجملة سلوكات ما لبثت أن صارت عادات وأعرافاً.
ولا يعني هذا، بطبيعة الحال، ان الحكام جميعاً تقيّدوا بالمعايير هذه، وانهم كلهم قاوموا اغراء الاستيلاء على ما يعود الى غيرهم. بيد ان مركزية الموقع الذي احتلته المُلكية هو ما جعل الحقوق المدنية تدور مبكراً حولها وحول القضايا المتصلة بها. يتأكد مثل هذا التداخُل بالرجوع الى سجل تاريخي مديد يبدأ مع «الماغنا كارتا»، «الدستور» الأول في العالم، ولا يقف عند العملية الانتخابية التي ارتبطت بداياتها وثيق الارتباط بالمُلكية.
وكان مما تلازم مع تمتع المُلكية والمشروع الصغير الناجم عنها بهذا الحيّز الملحوظ نموُ أسواق حرة وتنافسية تُتخذ فيها القرارات بعيداً من املاءات الأعراف والقيود.
وبدورها حملت الحرية هذه عناصر اقتصاد مفتوح يستقبل عدداً لا حصر له من البُنى والنشاطات التجارية والتبادلية. «وهذا التنوع في اشكال الحياة الاقتصادية، مثل التنوع في أنظمة عناصر الحياة، ليس مهماً لنفسه فحسب بل ايضاً لكونه علامة فارقة للتكيّف الناجح مع الموارد المتوافرة والاستفادة الكاملة منها».
لكن متى باشرت أوروبا إقلاعها في اتجاه التقدم؟
يعيد روزنبرغ وبيدزيل ظهور الجدّة كـ «عنصر مهم في النمو» الى أوساط القرن الخامس عشر، اي قبل قرن على ولادة الاستعمار والامبريالية مما لا يزال بعض الراديكاليين يردون اليهما سبب التفاوت الكوني. بيد ان مناقشتهما لذاك التاريخ تعيده الى مصادر وجذور أبعد وأبكر. فلفهم انعطافة الغرب، في المجال هذا، عن سائر البشرية ينبغي الرجوع الى القرنين العاشر والحادي عشر، آن كانت أوروبا متأخرة ومجرد اقليم طرفي على أقصى الجانب الغربي للكتلة الجغرافية اليور آسيوية (اليوراسية) الضخمة. فهناك أقام مجتمع عاجز عن ارساء نظام داخلي يديم استمراره في مواجهة قطاع الطرق القادمين من الخارج. فكان هناك الشماليون الهابطون في حركة التفاف كماشيّة نحو روسيا في الشرق، أو نحو الغرب الى سواحل الاطلسي ومنها الى المتوسط. وكان الهنغاريون يخترقون من وادي الدانوب متوغلين نحو فرنسا وايطاليا. اما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فساد نهب الطرق الرئيسية بين المتوسط وأوروبا الجديدة الى شماله. وبدورهم كان الأوروبيون من الفقر والضعف بحيث حاولوا موازنة تبادلهم مع الخارج ببيعهم العبيد، وهي «مهنة» لا تعوزها الدلالة على البؤس والرثاثة الاقتصاديين. غير انه بعد 500 عام، اي في الوقت الذي اختاره الكاتبان ميلاداً للاقلاع نحو التقدم، كان توازن القوى الكوني قد تغير على نحو حاسم. فعندما ارسل البرتغاليون أسطولهم الأول الى الهند، اثر العودة المظفرة لفاسكو دا غاما، أعطوا تعلميات لقائد اسطولهم بأن يتجنب «المشاكل». لكنهم أضافوا ان عليه، إذا ما قدمت «المشاكل»، ان لا يلتحم بالعدو بل ان يعمد، في المقابل، الى إغراقه في المياه. وقد رمزت الأوامر هذه الى نوع التفوق الذي يملكه السلاح البرتغالي، والأوروبي استطراداً. ذاك ان القوي الذي صاره الأوروبي هو وحده من يراهن على انهاء العدو واحراز النصر من بعيد. اما الضعيف فسلاحه الحماسة والسيف. بالمعنى هذا غدا في وسع الغرب عام 1500، ان يصل الى اية نقطة في الكون تقع ضمن نطاق المدافع البحرية. لكن النار هذه لم تصدر عن عدم وصفر. فهي توّجت مئات السنين من التقدم التقني، فيما سائر العالم راكد أو هاجع أو متراجع. ويزودنا الكاتبان بعض تفاصيل هذه التحسينات التي طرأت على صناعة السفن التي لم ينعزل تطورها عما كان جارياً في قطاعات أخرى إبان تلك الحقبة الإقطاعية (1000 - 1350). وهذا انما تجلى في الزراعة، وسيلة القدرة على إعالة سكان لم يتصلّب عودهم بعد، وفي أدوات لاستيلاد الطاقة مباشرة الاستخدام أو بيتيّته، كطاحونة الهواء، خصوصاً في البلدان الواطئة (هولندا)، والدولاب المائي. وتجلى ايضاً في صناعة السلاح لا سيما البارود، وفي المواصلات البحرية ومتطلباتها، فضلاً عن البصريات التي رغم ما تبدو عليه من أهمية ضئيلة ظاهرياً، تسببت باستخدامات جديدة للزجاج والألياف وغيرها، كما وسّعت دائرة القادرين على القراءة وضاعفت حذاقة الحِرَف. وأخيراً، ظهرت الساعة الميكانيكية التي جعلت الحياة المدينية كما نعرفها ممكنة، وساعدت في بلورة أشكال جديدة من التنظيم الصناعي السابق على الصناعة بصفتها هذه، ومكّنت الأفراد من ان ينظّموا حياتهم وعملهم على أسس عقلانية أكثر انتاجية. وفي الوقت نفسه، احتلت صناعة ساعات الجدران مقدم التطورات التي عرفتها التقنيات الآلية. فمن يستطيع ان يصنع ساعة جدار، ولاحقاً ساعة يد، يستطيع ان يفعل أي شيء آخر. فلم يكن مصادفاً، بالتالي، ان تبقى صناعتا الساعات والبصريات، طوال 500 عام، احتكاراً اوروبياً حصرياً.
وجاءت الحقبة الحديثة المبكرة (1500 - 1800) حقبة توسع فشهدت انشاء شبكة كونية للتبادل التجاري، وأوجدت أدوات التصليب والتثمير للفتوحات العسكرية في الخارج، مما كان البارود قد أتاحه. وعلى عكس ما ذهب اليه فرناند بروديل وعمانوئيل فالرشتاين من هيمنة فرضها «قلب» البلدان الاوروبية المتقدمة على «الأطراف» المحيطة، يركّز الكاتبان على المساهمة التي قدمها توسيع الأسواق لجعل تقسيم العمل أشد تعقيداً وتشعباً (موديل آدم سميث) ولابتكار أشكال وتقنيات جديدة في المشروع التجاري. وكان أهم ما فعله الاوروبيون هنا، لا سيما منهم الهولنديين والفرنسيين والانكليز، تحويل الممتلكات التي وضعوا اليد عليها الى مزارع منتجة وترجمة ما بدأ نهباً دخلاً سنوياً ثابتاً ومتصاعداً. وهذا ما أمّن على المدى الأبعد أكثر قنوات الامبراطورية ربحاً، خصوصاً وقد استُخدم العمل العبودي في مزارع «العالم الجديد»، أميركا.
بيد أن المسألة هنا لا تخلو من تعقيد. ذاك ان هذه المشاريع الخارجية المدرة للربح خدمت الرأسمالية خارج أوروبا أكثر مما خدمت التقدم الاوروبي نفسه. فهي لم تولّد الا جزءاً قليلاً جداً من الثراء الذي أُنتج عهد ذاك، كما لم تكن الحصة التي ضُخّت الى أوروبا أساسية بأي معنى كان. فهي أدت الى إثراء أصحاب مزارع السكّر وبعض الحكام الاقليميين في الهند الشرقية، وكذلك بعض اصحاب الأسهم في الشركات الكولونيالية. لكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم اسهام يُذكر في الثورة الصناعية التي انطلقت، اواسط القرن الثامن عشر، من انكلترا واضعةً المدماك الأول في الفجوة بين العالمين المتقدم والمتخلف. فالثورة المذكورة جاءت صنيع خليط من التجار والمصنّعين المعمليين (المانيفاكتوريين) معظمهم صغار أو متوسطون. وكان هؤلاء من نظّم انتاج السلع على خطوط أكثر توفيراً أتاحت لهم خفض الأكلاف، وتوسيع الأسواق، واطلاق ذاك التناغم الجدلي بين العرض والطلب. أما الجدة الأساس هنا فلم تتمثل في الآلات، بل في نمط الانتاج الجديد الذي بدأ، للمرة الاولى، يدمج العمل الريفي الرخيص للفلاحين وعائلاتهم في قوة العمل الصناعية والمدينية.
والى التحول هذا، اتسع نطاق رجال الأعمال الجدد، وهم أقل مغامرة واستعراضية من المقامرين وقراصنة التجارة الدولية ومقرضي ومرابي الزمن الاقطاعي، لكنهم أكثر منهم التزاماً بما يفعلونه بوصفه «مهنة» ونشاطاً يتأدى عنه تعاظم وتراكم. وهؤلاء كانوا حَمَلة «الأخلاق البروتستانتية» الذين رفعهم ماكس فيبر عالياً: بطيئون انما ثابتون، وفي جمعهم الثبات الى البطء يفوزون، في آخر المطاف، بالسباق. ومعهم صار الوقت مالاً وغدت الحكمة أنْ وفّر القروش تتولَّ الليرات أمرك. وفعلاً كان هؤلاء مراكمين كباراً لرأس المال، الشيء الذي عاد أحد أبرز أسبابه الى قناعتهم بأن ثراءهم ليس مصنوعاً للتمتع به، ومن ثم الى مناعتهم حيال حياة الإسراف والترف.
لقد كان هؤلاء من أرسى قاعدة الرأسمالية الصناعية بوصفها شيئاً آخر يغاير الرأسمالية التجارية. وأول المغايرة انها تتطلب استثماراً متعاظماً ومراكمة يؤديان الى ابتكار أنواع دائمة الجدة في الانتاج.
والحال ان أطروحة فيبر التي ربطت الأخلاق البروتستانتية، خصوصاً الكالفينية، بصعود الرأسمالية أثارت من الجدال ما لم يهدأ رغم انقضاء قرن على ظهورها. فثمة من رأى بين الكاثوليك انها تنطوي على مقارنة متعجرفة بين نظامين في المعتقدية الدينية تنتصر للبروتستانتية الشمالية على الكاثوليكية اللاتينية في الجنوب الاوروبي. وثمة كاثوليك آخرون يرفضون القيم المادية لـ «الصناعة الحديثة»، رأوا ان فيبر يؤكد لهم قناعتهم المزمنة من أن تكديس المال طريقاً الى الخلاص لا يمارسه الا البروتستانتيون القساة القلوب. ودان الماركسيون، بدورهم، ما اعتبروه تحويراً وقلباً للعليّة التاريخية الصائبة: ذاك ان الدين، عندهم، لا يكون سبب التحولات الكبرى في أنماط الانتاج. فهو ظاهرة خارجية وفوقية تترتب على الشروط المادية والعلاقات الطبقية. وبالمعنى هذا، اتُهم فيبر بوضعه العربة قبل الحصان لأن الرأسمالية ما يصنع البروتستانتية، لا العكس.
وما قاله الماركسيون وجد ترحيباً لدى مؤرخين ومؤرخين اقتصاديين كثيرين يصعب وصفهم بالماركسية. الا ان روزنبرغ وبيردزيل لا يكتمان تعاطفهما مع حجج فيبر، رغم اختلاف ما يركزان عليه عما ركز عليه. فعندهما ان مؤسسات السوق «تطلّبت نظاماً أخلاقياً نسجه الواجب والمسؤولية حيال التزامات الفرد» في العمل والصناعة. ومن هنا «ربما وفر الاصلاح البروتستانتي نظاماً اخلاقياً أشد تلاؤماً مع النمو الاقتصادي مما كانه التعليم الكاثوليكي الأقدم» عهداً.
على ان هذا كله كان تمهيداً واستعداداً. ففي القرن الثامن عشر انطلقت من انكلترا، انتشاراً الى القارة والولايات المتحدة، الثورة التي طالت نمط الانتاج مُدرجة تلك الاقتصادات المتقدمة على سكة نمو اقتصادي جديد. ومذاك تحديداً جعلت الهوة تتعاظم، وجعلت وتائر التعاظم تتسارع، بين أوروبا وسائر العالم. فلئن كان الفارق في الدخل الفردي بين الاوروبي والصيني او الهندي، ابان القرن الثامن عشر، طفيفاً جداً، بات الفارق، بعد قرنين اثنين، عشرة أضعاف. وهو ما لم يعد الى افتقار آسيا بل الى اغتناء اوروبا، الأمر الذي لا يجوز رده الى سببية بسيطة تستهوي العقل الريفي حين يمارس تقسيم المياه في القرية بين حاراتها. فالتقنيات الجديدة التي ولدت سهّلت احراز مكاسب في الانتاجية ضخمة ومتنامية. وكان تلقائياً، والحال هذه، ان تنشأ عملية كونية للمرة الاولى تستجرها الدينامية الاوروبية. هكذا سُحب العالم كله الى النطاق الاوروبي بوصفه مزوداً بالمواد الاولية للصناعة، وليس فقط بالبهارات والسلع الاكزوتيكية الأخرى.
وفي الغضون هذه اتخذ العلم الغربي طابعاً تراكمياً واعياً زاد في قدرته على توليد المعرفة وتجريبها ونشرها. واذا بالفجوة المعرفية والفكرية تنمو بأكبر وأسرع مما نمت وتنمو الفجوة الاقتصادية.
وطرأ تحول لا يستهان به هنا. ففي بواكير الثورة الصناعية كانت مصادر المهارات تجريبية اساساً. غير انه مع أواسط القرن التاسع عشر، شرع العلم، وبصورة منهجية، يندرج في خدمة الزراعة والصناعة، لا سيما في تحسين التقنيات القائمة ومن ثم ابتكار تقنيات جديدة. وكانت احدى النتائج العديدة التي تأدت عن التحول هذا اطالة عمر سكك الحديد من سنتين الى عقد وارتفاع طاقة حمولتها، ما بين 1865 و1905، من ثمانية أطنان الى سبعين. وهو في عمومه ما عُد بمثابة ثورة صناعية أخرى.
لكن هذه الرواية لا تخلو من عيبين كبيرين: اولهما، ضعف الاكتراث بالعنصر الثقافي ودوره، منذ عصر النهضة على الاقل، في تهيئة العقول للمستجدات المادية، وتالياً في احداث تلك المستجدات. والثاني، تجميل كل التفاصيل التي شابت مسيرة التقدم الأوروبي والاغفال عن أكلافها الانسانية الكبرى التي تكبّدتها الفئات الشعبية والكادحة في أوروبا. فعند الكاتبين ان المصنع ساهم في فتح آفاق الحرية من طريق فصل العامل عن ديار household الملاك واتاحة الفرصة له كي يعيش مستقلاً. وهذا اذا صح في نتائجه الاخيرة لا ينوب عن ذكر المعتقلات ومقار الحجز التي سيق اليها بعض العمالة الجديدة، والغربة التي انتابتها بعد الفصل عن العالم الحميم الأول، والافتقار طويلا الى معاملة انسانية يضمنها القانون ويحدد ساعات عملها، والى شروط حياة معقولة لها، ناهيك عن النظام الوحشي الذي فرضته الآلة وايقاعها فرد بعض العمال بتحطيم الآلات.
أما قياساً بنا، فيجري تحطيم الآلات من دون نظام يدفع الى التقدم. وما همّ إذ التقدم في الأصالة الجوهرية لا في المادة الفانية!