منذ أيام وجوديث ميلر تقبع في أحد سجون الولايات المتحدة الأميركية، إنها إحدى نجمات «نيويورك تايمز»، وقد سبق لها أن تميزت ب«خبطاتها» الاستقصائية.قيل، يوم إصدار الحكم عليها، إنه «يوم أسود للصحافة الأميركية»، وقيل أيضاً، إن ذنبها الوحيد هو أنها رفضت الإفصاح عن اسم شخص عامل في الإدارة، ويقال انه سرّب إلى الصحافة اسماً كان يجب كتمانه.
دافعت الصحيفة عن الصحافية بشراسة، تضامن معها الكثيرون من الفخورين باستقلالية الإعلام الأميركي ومن الذين يعتبرون أن حرية كتمان المصادر صنعت مجد هذا الإعلام وجعلته يستطيع خوض مواجهات ناجحة مع الإدارة ومع مراكز القوى الأخرى كلها. ميلر، بهذا المعنى، بطلة من أبطال الحرية وقد ارتضت التضحية من أجل إنقاذ «شرف المهنة» لأن الحكم الصادر بحقها، السجن لأربعة أشهر، يسمح لها بالخروج فوراً بمجرد أن «تعترف».
إنها قصة هوليوودية بامتياز، أو بالأحرى إنها قصة وردية من النوع الذي تبرع في بيعه مدينة صنع الأحلام والأوهام. ولكن ماذا لو كان الفصل المشار إليه هنا هو الفصل الأول من قصة أكثر تعقيداً؟.الفصل الثاني: لقد بات شبه محسوم في واشنطن أن «المخبر» المذكور هو كارل روف. قيل في فترة إنه قد يكون أحد ثلاثة وان الاثنين الآخرين هما اليوت ابرامز ولويس ليبي . روف هو، باعتراف الجميع، الدماغ المفكر لجورج بوش وصانع انتصاراته الانتخابية كلها بدءاً من تكساس مروراً بالنجاح المشكوك فيه للولاية الأولى والنجاح المؤكد في الثانية.
انه دماغ جهنمي لجهة تحديد استراتيجيات التوتر وبناء التحالفات، وكسب الأحداث والاستخدام المنفلت من أي عقال للدعاية والدعاية المضادة. عندما قيل، قبل سنتين، إنه المشتبه به، نفى جورج بوش شخصياً الواقعة، وأكد أنه بمجرد أن يعرف المرتكب سيصرفه من عمله إذا كان ضمن الإدارة. وعاد بوش، غير مرة، إلى تأكيد موقفه. أما الناطق باسم البيت الأبيض سكوت مكليلان فانه ردّد مرات ومرات أن روف «لا علاقة له» و«أن اتهامه سخيف»، وان الخبر «غير صحيح» .
المهم أن الإدارة وقفت صفاً واحداً للدفاع عن أحد أركانها وعمن تعتبره مهندس بقائها في البيت الأبيض، غير أن هذه الدفاعات شرعت تتداعى، إذ ان صحافيين آخرين «تحادثوا» مع روف ألمحوا واعترفوا انه هو مصدر المعلومات.الفصل الثالث: ولكن ما قصة الاسم الذي سرّبه روف؟ تقول الرواية انه تقصّد أن تنشر وسائل الإعلام اسم فاليري بلايم، والسيدة المشار إليها تعمل في وكالة الاستخبارات المركزية ومن مهماتها متابعة الملفات الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، ويحظر القانون الأميركي نشر الاسم لأن ذلك يعرّض صاحبه للخطر خاصة إذا كان يعمل تحت غطاء آخر.
يعني ذلك، ببساطة، أن روف عرّض للموت، خلافاً للقانون طبعاً، موظفة مخلصة لبلادها ولم يأبه كثيراً الى ان موقعه في قلب السلطة كان يفترض فيه أن يجعله أكثر مسؤولية بكثير.ولكن الفصل الثالث فصل مركب، ففاليري بلايم ليست هي الموضوع، الموضوع هو زوجها جوزف ويلسون، ما خطيئة الزوج؟ خطيئته أنه نشر مقالاً في «نيويورك تايمز»، صحيفة ميلر، يعرض فيه نتائج رحلة قام بها إلى النيجر بتكليف من الاستخبارات الأميركية، والرجل كان سفيراً سابقاً لبلاده في النيجر وحاز، لاحقاً، على أوسمة تقدير لأدوار قام بها، منها وسام قلده إياه جورج بوش الأب «وفاءً من أميركا لواحد من خيرة أبنائها».
وجاء في مقال نيلسون أن رحلته إلى النيجر أثبتت أن لا صحة إطلاقاً للمزاعم التي أطلقتها الإدارة حول سعي الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى الحصول على مكونات الأسلحة النووية، أي أن السفير السابق وجّه صفعة إعلامية قوية لنائب الرئيس ديك تشيني، والأهم من ذلك إلى الرئيس نفسه الذي قال في أحد خطاباته ما حرفيته «لقد علمت الحكومة البريطانية أن صدام حسين سعى أخيراً إلى الحصول على كمية معتبرة من اليورانيوم من أفريقيا».
ولقد قيل هذا الكلام في عز التحضير الأميركي ـ البريطاني للحرب على العراق بذريعة معاقبة بغداد على علاقتها بالإرهاب وسعيها إلى امتلاك أسلحة محظورة، والمعروف أن الحجة النووية كانت حاسمة في تعبئة الرأي العام، والأهم من ذلك، في تشجيع الكونغرس على إجازة الحرب. الخلاصة أن ويلسون أسقط إحدى الذرائع ما أثار غضب الإدارة فردّت عليه، للثأر منه، بالكشف عن اسم زوجته وعملها ودورها بما يعرّضها للخطر.
الفصل الرابع: نحن أمام وضع غير بسيط، ثمة موظف كبير خالف القوانين وارتكب بهذا المعنى، جريمة يعاقب عليها وهناك صحافية ترفض الكشف عن اسمه بذريعة «سر المهنة» بما يعني، عملياً، أنها تعيق عمل الإدارة . ولكن عند التعرف أكثر على جوديث ميلر نصبح أمام صورة مختلفة بعض الشيء.
ميلر قد تكون واحدة من أكثر الصحافيين الأميركيين الذين شجعوا على حرب العراق، وروّجوا لضرورة القيام بها وبأقصى سرعة استباقاً لإقدام الإرهابيين الذين يزوّدهم صدام حسين بالأسلحة على تفجير القنابل النووية في المدن الأميركية. المعروف أن «نيويورك تايمز» عارضت الحرب بالشكل الذي حصلت به واشترطت موافقة مجلس الأمن، ولكن المعروف، أيضاً، أن الصحيفة سبقت غيرها من الصحف الأميركية في كثرة التحقيقات والمقالات المنشورة على صفحاتها، والتي تحسم في أن العراق يشكل خطراً داهماً يستوجب علاجاً قوياً.
ولكن بعد الحرب، وبعد الحسم في أن أسلحة الدمار غير موجودة، أقدمت إدارة «نيويورك تايمز» على إجراء نقد ذاتي اعترفت فيه بأنها أخطأت، إذ ضخمت أخباراً على حساب أخبار، وإذ أفردت مساحات واسعة وفي الصفحة الأولى للتحريض على العراق .
وأضاف النقد الذاتي أن إهمالاً حصل للآراء والمعطيات المتناقضة وان خديعة غير مقصودة حصلت للقراء، وتوقفت الصحيفة عند 12 موضوعاً منشوراً فيها اعتبرت أنها مواضيع لم تكن تستوفي الشروط المهنية اللازمة، ومن بين المواضيع الاثني عشر ثمة عشرة مواضيع بتوقيع...جوديث ميلر!.
يعني ذلك، عملياً، أن الزميلة كانت داعية حرب من الطراز الأول وأنها تغاضت كثيراً عن الدقة والموضوعية لتنشر تحقيقات ووقائع مستمدة من معارضين عراقيين من غير أن تكلف نفسها، لاحقاً، عناء الاعتذار للقراء.الفصل الخامس: إن السؤال المطروح هو التالي: عندما تمتنع ميلر عن الكشف عن اسم مصدرها هل تتصرف كصحافية تريد كتمان اسم أم كمناضلة لا تريد الإيقاع بمن كانت شريكة له في نشر الأضاليل الممهدة للحرب ؟ السؤال جدير بأن يطرح .
فاليوت ابرامز، أحد المتهمين، هو من عتاة الليكوديين في الإدارة الأميركية، ولويس ليبي، المدير في حينها لمكتب تشيني، هو الآخر من أبرز المدافعين عن التوسعية الإسرائيلية. ويشترك الاثنان مع كثيرين غيرهما في أنهم متهمون بتشكيل شبكة ضغط من اجل الحرب استخدمت الإعلام لترويج معطيات خاطئة، وكارل روف ليس بعيداً عن هذا الجو، ولذا فان حمايته قد تكون ضعيفة الصلة ب«شرف المهنة» ووثيقة الصلة بالرغبة في عدم الكشف عن جانب من جوانب العملية الهائلة لغسل الدماغ التي أقدمت عليها الإدارة والتي لم يكن لها أن تنجح من دون وجود صحافيين على شاكلة ميلر.
لسنا، في الحقيقة، أمام «بطلة حريات»، إننا على الأرجح أمام امرأة تخلط الإعلام بالإعلان الدعاوي، ولمن يشاء أن يعرف المزيد عن أسباب ذلك عليه أن يراجع المواقف والكتابات الخاصة بجوديث ميلر في كل ما يخص الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ربما يمكن التعرف على سر عنادها. إنه عناد يمكنه ان يقودها الى هذا الاستخدام الذرائعي لـ «شرف المهنة».