ثمة شك وريبة بأن الغرض من أزمة المرور عند نقاط الحدود اللبنانية السورية هو غرض أمني كما تشيع التصريحات الرسمية السورية في غير مكان ومناسبة. فالأمر في جوهره، ودون أن نبخس الجانب الأمني حقه إن وجد، هو مجرد ضغط اقتصادي وتالياً سياسي على لبنان بدليل توقيته فور ظهور نتائج انتخاباته النيابية والتي وضعته عند عتبة جديدة من حياته، أكدت في ما أكدته حصول مسافة موضوعية واضحة بين مستقبله السياسي والنفوذ السوري. وأيضاً بدليل أن التشدد الحدودي لم يقتصر على التفتيش عن متفجرات وحقائب مفخخة في السيارات الشاحنة بل طاول الصيادين اللبنانيين في البحر والتضييق على المسافرين وما يحملوه من حاجات شخصية بسيطة، ضارباً عرض الحائط ببروتوكولات صريحة موقعة منذ أعوام بين الجانبين، أسوة ببقية الدول، لترتيب قواعد المرور والمكث الموقت للمركبات وتوحيد أنظمة الحمولات المحورية للشاحنات لنقل البضائع وتنظيم عبور الترانزيت.
وأن يفسر البعض هذا الأسلوب في التعاطي مع لبنان بحجم الاحتقان الذي اعتمل في نفوس السوريين من مواقف بعض قطاعات الشعب اللبناني وصنّاع السياسة والإعلام في أهاب عملية إخراج القوات العسكرية من لبنان وما بعدها، فإنه يشكل في المقابل برهاناً ملموساً على استمرار العقلية السورية ذاتها في إدارة الأزمات الإقليمية بالركون الى حسابات القوة وأوراق الضغط لإخضاع الآخر وتطويع مواقفه، والتي ربما لم تتعظ من محنتها الراهنة أو تجارب غيرها وتستدرك بأن المدخل الوحيد والدائم كي تكسب ود الآخر هو تعزيز أواصر العلاقات الندية والاحترام المتبادل معه، وكل ما عدا ذلك سوف يكون زائفاً وموقتاً بدليل ما أفضت إليه هذه العقلية بعد ثلاثة عقود من إدارة العلاقات مع لبنان.
ويصعب إيجاد تفسير شافٍ لهذا الإصرار على العقلية القديمة رغم نتائجها المرة، أهو دليل أزمة تعاني منها قوى النظام تتكشف عجزاً عن التكيف مع الجديد الحاصل وتخلفاً عن إبداع طرائق ووسائل جديدة ؟! أم الأمر مجرد محاولة أخيرة للتلويح بما تبقى من أوراق قوة رداً على الضغوط الخارجية، أم ربما رسالة صريحة للبنانيين بأننا ها هنا وبإمكاننا إزعاجكم إذا أنكرتم وزننا ودورنا ؟! أم لعله ضغط يحمل رهان التأثير على ما يجري في لبنان على هامش تشكيل حكومة جديدة، أو لتخويف بعض الحلفاء القدامى وقد بدأت الإشارات تتوالى وتنبىء باحتمال تغير اصطفافاتهم وتحالفاتهم، أم لعله أيضاً محاولة لتعويض بعض الخسائر بكسب قهري لفئات من اللبنانيين المتضررين من إغلاق الحدود على قاعدة أن حاجاتكم عندنا فتعالوا إلينا!!
لكن، وبغض النظر عن ماهية السبب الحقيقي فإن ما يجري على الحدود السورية اللبنانية هو اندفاعة خاطئة، بل هو مرة أخرى اختيار لسلوك يضر أكثر مما ينفع، وسوف يفضي كما أفضت ممارسات غيره، منذ التمديد للرئيس اميل لحود، الى عكس الأهداف المتوخاة أو على الأقل الى مزيد من تأزم العلاقات بين لبنان وسوريا، وتعميق الهوة بين الشعبين والتي تجاهد القوى الديموقراطية لردمها.
وإذ نعترف أن رد فعل قطاعات واسعة من الشعب السوري كان الارتياح لهذه الإجراءات ربما كونها أنصفته بالرد على شعارات لبنانية اقصائية وشتائم عنصرية أساءت له، أو كونها خففت من حجم المرارة الناجمة عن الأذى الذي تعرض له بعض العمال السوريين في لبنان، لكن يجب أن نعترف أيضاً أن هذا الارتياح هو اليوم في صيرورة تراجع وانحسار وقد بدأت ترتفع أصوات تتحسر مما يكابده اللبنانيون وترفض استمرار الإضرار بمصالحهم وثرواتهم، وكأن المواطن السوري اكتفى ببضعة أيام من التشدد الحدودي كي يعدل مزاجه ويوصل رسالته البسيطة الى اخوته اللبنانيين عن ضرورة الندية والاحترام المتبادل بين الجيران، وما عدا ذلك صار أهدافاً سياسية لا ناقة له فيها ولا جمل!!
ثم لنفرض جدلاً أن ثمة غرضاً أمنياً وليس انتقامياً يقف وراء مثل هذه الإجراءات وأن لبنان يمكن أن يشكل ممراً لتهديد أمن سوريا، أفلا تستدعي مواجهة الخطر الإرهابي الأمني حلولاً متكاملة يفترض الاتفاق عليها بين المؤسسات المعنية في كلا البلدين؟ ثم أين ذهبت مباهاة البعض بأن الأجهزة الأمنية السورية يمكنها أن تسمع حتى دبيب النملة في لبنان وتعرف كل حركاتها وسكناتها.
صحيح أن سوريا عانت لسنوات من مشاكل إرهاب، لكن الصحيح أيضاً أن ليس ثمة سبب سياسي ظاهر يمكن أن يقنع أحداً بأن العنف الإسلامي أو تنظيم “القاعدة” يسعى اليوم كي يستهدف سوريا مثلما تتقصد أن تظهر التقارير الأمنية بوجود مخطط تخريبي ضد أهداف ومواقع حيوية في الداخل السوري. فالمعروف راهناً أن الخط الناظم للقوى الأصولية المتطرفة وعلى اختلاف تسمياتها هو مواجهة الوجود العسكري الاميركي في المنطقة وحلفائه أينما وجدوا، وطالما لا يزال الموقف السوري المعلن رافضاً لاحتلال العراق ويتهم بتسهيل عبور مقاتلين متشددين الى هناك ويتعرض لضغوط متنوعة بسبب دعمه لتنظيمات إسلامية مسلحة كـ“حزب الله” في لبنان وحركتي “حماس” و“الجهاد الإسلامي” في فلسطين، فلماذا توضع سوريا على قائمة الاستهداف الإرهابي الآن؟!
ثم إذا سلمنا بوجود أساس اجتماعي وسياسي لنمو قوى متطرفة في سوريا فإن احتمال لجوئها الى العنف يبقى اليوم احتمالاً ضعيفاً مع النتائج المريرة التي ترتبت مطلع الثمانينات على أصحاب هذا الخيار، ومع تحول واضح ومعلن نحو أساليب العمل السلمي لأهم القوى التي اعتنقت في ما مضى الأسلوب الجهادي، ناهيك عن شيوع حالة من الرفض أو لنقل الاستياء في الشارع السوري ضد عمليات القتل والتفجير العشوائية التي تجري في العراق، وتالياً التحسب والتحفز الظاهرين من أن تنتقل هذه الصورة الى البلاد.
ولنتساءل هل تجدي مواجهة الإرهاب عبر التشديد فقط في التفتيش على الحدود أو عبر إعلانات متفرقة عن اشتباك هنا وآخر هناك مع مجموعة إرهابية تاركين أسبابه الاجتماعية والسياسية تنمو وتترعرع؟! وأين ذهبت النصائح التي فاخر البعض بتقديمها الى الإدارة الاميركية عن أن الحل الأمني وحده غير مجدٍ في مواجهة الإرهاب وإن التصدي الناجع لهذه الآفة يحتاج الى معالجة جذرية لأسبابها السياسية والاجتماعية، وعندها كيف يطبق أصحاب هذه النصيحة نصيحتهم في سوريا؟!
ثم هل الإصرار على إغلاق الحقل العام والاستمرار في احتكار النشاط السياسي يقضي على الإرهاب أم يؤدي الى مفاقمة أزمات مجتمعنا في الخوف والسلبية والفساد والفقر واليأس وكلها عوامل فاعلة تشكل المناخ المناسب لنمو ظواهر التعصب والتطرف والعنف؟! وتالياً كيف تستقيم الإجراءات الأمنية على الحدود بدواعي محاربة تسلل الإرهابيين مع محاصرة جديد النشاطات السياسية والثقافية السلمية، كالمضايقات التي يتعرض لها "منتدى جمال الأتاسي" للحوار الديموقراطي والاعتقالات المتواترة التي طاولت بعض نشطاء المجتمع المدني وحقوق الانسان؟!
أخيراً، إذا كان ثمة رغبة حقيقية في ترميم الشروخ وتخفيف الحساسيات وفي تحويل لبنان ساحة وفيّة لسوريا وجاراً آمناً، فالأجدى تجاوز ذهنية الماضي وتغيير الطرائق والآليات القديمة التي حكمت العلاقة بين البلدين طوال عقود والمسارعة إلى إظهار احترام صريح لحقوق اللبنانيين ومصالحهم، الأمر الذي يزيل كثيراً من الأسباب التي خلقت جواً من العداء لسوريا كما يمهد لبناء عتبة راسخة من الثقة بين الشعبين تقطع الطريق على نيات الأعداء المشتركين ومخططاتهم خصوصاً وأن التطورات تنذر بمزيد من السوء والحصار لبلادنا.
وأيضاً إذا كان ثمة رغبة حقيقية في محاربة الإرهاب ومعالجة هذه الآفة جذرياً، فالأنجع الالتفات صوب الانفتاح على المجتمع وقواه السياسية والمدنية الحية بما في ذلك دعم التيارات الإسلامية المعتدلة وتعزيز دورها، وأساساً العناية بالشباب المحروم وفتح آفاق مطمئنة لمستقبله كي لا يسقط في خطر التشدد والتطرف.